إذا تلفت العين المؤجرة فتَرِدُ عليها عدة مسائل نذكرها هنا لأهميتها وهي:
1- التلف قبل القبض، أو بعده:
أ- إذا تلفت العين المؤجرة تلفاً كلياً قبل القبض وبعد العقد فإن الإجارة تنفسخ بغير خلاف نعلمه كما قال ابن قدامة([2]).
ب- إذا تلفت بعد القبض مباشرة وقبل استيفاء المنفعة فإن الإجارة تنفسخ على ضوء التفصيل الذي يذكر آنفاً، قال ابن قدامة في هذه الحالة: “إن الإجارة تنفسخ، ويسقط الأجر، في قول عامة الفقهاء إلا أبا ثور حكي عنه أنه قال: يستقر الأجر لأن المعقود عليه أتلف بعد قبضه أشبه المبيع، وهذا غلط، لأن المعقود عليه المنافع، وقبضها باستيفائها، أو التمكن من استيفائها، ولم يحصل ذلك فأشبه تلفها قبل قبض العين”([3]).
جـ- أن تتلف بعد مضي شيء من المدة فتنفسخ فيما بقي من المدة دون ما مضى فيستحق المستأجر الأجرة بقدر ما استوفى من المنفعة، وإذا حدث نزاع فالمرجع في تقويم المقدار هو أهل الخبرة، جاء في الروضة: “وفي الماضي طريقان: أحدهما القول بالفسخ في الماضي وحينئذٍ فهل له خيار الفسخ” وجهان أصحهما عند الإمام والبغوي: لا، لأن منافعه استهلكت، والثاني: نعم وبه قطع ابن الصباغ وآخرون، لأن جميع المعقود عليه لم يسلَّم، وحينئذٍ وجب قسط ما مضى من المسمى والتوزيع على قيمة المنفعة وهي أجرة المثل، لا على نفس الزمان وذلك يختلف فربما تزيد أجرة شهر على أجرة شهرين لكثرة الرغبات في ذلك الشهر، فإن كانت مدة الإجارة سنة ومضى نصفها، وأجرة المثل فيه مثلاً أجرة المثل في النصف الباقي وجب من المسمى ثلثاه، وإن كانت بالعكس فثلثه”([4]).
2- أثر التلف في العقد:
لا شك أن محل عقد الإجارة هو المنفعة، فما دامت المنفعة باقية، فالعقد باقٍ ومستمر إلى مدته أو الاتفاق على إنهائه.
أما إذا لم يكن الانتفاع بالعين المؤجرة بسبب تلفها أو هلاكها فإن الفقهاء ذكروا تفصيلات حول أثر ذلك على فسخ العقد:
أ- إذا كانت الإجارة واردة على الذمة وليست على عين معينة فإن العقد يظل صحيحاً، ولا يؤثر تلف العين المؤجرة أو هلاكها بإنهاء العقد، وذلك لأن على المؤجر القيام بالبديل المضاهي للعين المستأجرة التي هلكت ليحل محلها، وعلى المستأجر قَبول ذلك([5]).
ب- أما إذا كانت الإجارة واردة على عين معينة مثل الدار الفلانية، أو تلك السيارة المعينة، أو نحو ذلك فإن العقد ينفسخ إذا لم يبقَ هناك مجال للفائدة مطلقاً، وذلك مثل أن تموت الدابة المستأجرة، أو تحترق السيارة فلا تبقى إمكانية الانتفاع حتى بأجزائها، أما إذا بقي احتمال الانتفاع بها فقد اختلف الفقهاء في تقدير إمكانية المنفعة مع تلف العين المؤجرة.
فمثلاً اختلف الفقهاء في انهدام الدار المؤجرة هل يؤدي إلى فسخ العقد أم لا؟
فذهب جمهور الفقهاء – الحنفية في الرأي المرجوح عندهم، والمالكية، والشافعية، في القول الراجح، والحنابلة على الوجه الراجح عندهم، والظاهرية([6]) – إلى أن عقد الإجارة ينفسخ مباشرة بالانهدام، لأن محل العقد لم يعد صالحاً لتحقيق المنفعة المنشودة وهي السكنى.
وذهب الحنفية في الأصح عندهم، والشافعية في قول مرجوح،والحنابلة في وجه، إلى عدم الانفساخ، وذلك لأنه يمكن الانتفاع بالعرصة بعد انهدام الدار بنصب خيمة، أو جمع حطب، أو بيع الأشياء فيها، أو نحو ذلك فلم تبطل المنفعة جملة، ولذلك يكون المستأجر بالخيار بين الفسخ والإمضاء، فإن فسخ كان عليه أجرة ما مضى على ضوء ما سبق، وإن أمضاه ورضي به فعليه جميع الأجرة، لأن ذلك بمثابة عيب رضي به فسقط حكمه(), والأول أرجح لعدم بقاء المعقود عليه الذي أراده العاقدان، قال ابن قدامة في ترجيح رأي الجمهور: “لأنه زال اسمها- أي الدار- بهدمها وذهبت المنفعة التي تقصد منها، ولذلك لا يستأجر أحد عرصة دار يسكنها”([8]).
غصب العين المؤجرة:
إذا غصبت فقد ثبت للمستأجر حق الفسخ، لأن فيه تأخير حقه، فإن فسخ فالحكم فيه كحكم الفسخ عند هلاك العين من حيث احتساب الأجرة لما مضى.
وإن لم يفسخ حتى مضت مدة الإجارة فله الخيار بين الفسخ والرجوع بالمسمى، وبين البقاء على العقد ومطالبة الغاصب بأجرة المثل، لأن المعقود عليه لم يَفُت مطلقاً بل إلى بدل. وهو القيمة فأشبه ما لو أتلف آدمي الثمرة المبيعة قبل قطعها، ويتخرج انفساخ العقد بكل حال على الرواية التي تقول: إن منافع الغصب لا تضمن وهو قول الحنفية([9]).
عدم الانتفاع بالعين المستأجرة لظروف قاهرة أي خارجة عن إرادة العاقدين، وذلك كحدوث حرب في منطقة خاف أهلها من البقاء فيها فتركوها، وبينهم المستأجرون، فقد ذكر ابن قدامة أن هذا يثبت للمستأجر خيار الفسخ، لأنه – أي الخوف العام – أمر غالب يمنع المستأجر استيفاء المنفعة فأثبت الخيار كغصب العين، ولذلك لا يستوجب الخوف الخاص الخيار، فلو أن المستأجر يخاف من السكنى في الدار لخوف خاص به مثل أن يخاف وحده لقرب أعدائه من منزله المستأجر، أو حلولهم في طريقه لم يملك الفسخ، لأنه عذر يختص به لا يمنع استيفاء المنفعة بالكلية، حيث يستطيع تأجيره لغيره([10]).
العيب في العين المستأجرة:
إذا وجد المستأجر في العين المستأجرة عيباً([11]) لم يكن يعلم به أثناء العقد، فإن العقد لا ينفسخ، وإنما يكون للمستأجر حق الفسخ، “بغير خلاف نعلمه” كما قال ابن قدامة([12]) فهو بالخيار إن شاء فسخ العقد وإن شاء قَبِل بالعقد كما هو الحال في العيب في البيوع، لكن جماعة من الفقهاء قالوا: لو بادر المؤجر بإصلاح العيب سقط الخيار([13]).
وكذلك الحكم إذا وجد عيباً فيها بعد العقد، وحتى بعد القبض – خلافاً لما في البيع – وذلك لأن الإجارة عقد على المنافع، وهي تتجدد، ويحتاج إليها طوال فترة الإجارة، كما أنها لا يحصل قبضها إلا شيئاً فشيئاً، فإذا حدث العيب فهو خلل يسبق البقية الباقية من المنافع المطلوبة إلا إذا قام بإصلاحه فوراً فلا يحق له الفسخ.
وإن اختلفا في كون الشيء عيباً أم لا، فالمرجع في ذلك أهل الخبرة.
وفي كلتا الحالتين فالمستأجر إذا فسخ فالحكم فيه كحكم ما سبق من الانفساخ بتلف العين.
وإذا رضي بالعين المؤجرة مع وجوب العيب فما الذي يلزمه من الأجرة. هل كلها؟ أم ينقص منها بقدر العيب؟
هذا ما ثار فيه الخلاف بين الفقهاء:
فذهب جمهور الفقهاء (منهم الحنفية، والشافعية في وجه، والحنابلة)([14]) إلى أنه إذا رضي بالعين المؤجرة فتجب عليه الأجرة كاملة، لأنه رضي به ناقصاً فأشبه لو رضي بالمبيع معيباً حيث ليس له إلا الثمن.
وذهب المالكية، والشافعية في وجه([15]), إلى أن جميع الأجرة لا تجب عليه، لأنه لم يستوفِ جميع ما استحقه من المنفعة المقصودة بمقدار العيب، فلو أن العيب قد أثر في الانتفاع بالعين المؤجرة بنسبة(10%) مثلاً فإن هذه النسبة تحسم من الأجرة.
والذي يظهر رجحانه هو رأي الجمهور؛ إذ أن الرأي الثاني قد يؤدي إلى الإجحاف بحق المؤجر، إذ أنه قد يجد مستأجراً لبيته مثلاً يدفع له مثل الأجرة السابقة، كما أن إعطاء حق الخيار للمستأجر يفسح له المجال للنظر فيما هو يحقق مصلحته، ويدرأ عنه المفسدة والمضرة، فهو إما أن يرد العين المؤجرة، أو يقبلها كما تم الاتفاق عليه، أما أن يرضى بالعين المؤجرة ويطالب بتقليل الأجرة فهذا فيه شيء من الإجحاف بحق المؤجر، كما أن الأجرة عقد رضائي لا يمكن لأحد العاقدين أن يفرض شيئاً على الآخر إلا برضاه، ورضا المؤجر تم على الأجرة كلها وليست على بعضها، والعيب أثبت له حق الفسخ فقط ولس حقاً آخر كما هو الميزان في البيع ونحوه.
ثم إن هذه الأحكام خاصة بما إذا كان عقد الإجارة واقعاً على شيء معين، أما إذا كان وارداً على العين الموصوفة في الذمة فإن عقد الإجارة لا ينفسخ بالعيب مطلقاً، بل يجب على المؤجر أن يأتي بما تم الاتفاق عليه سليماً، وبعبارة أخرى يُغيِّرها إلى الشيء المتكامل فيه الأوصاف المتفق عليها)([16]). قال ابن قدامة: “هذا إذا كان العقد يتعلق بعينها، فأما إن كانت موصوفة في الذمة لم ينفسخ العقد، وعلى المكري إبدالها لأن العقد لم يتعلق بعينها فأشبه المسلم فيه إذا سلمه على غير صفته، فإن عجز عن إبدالها أو امتنع عنه ولم يمكن إجباره عليه فللمكتري الفسخ ايضاً”([17]).
على من تقع تبعة الهلاك؟ وهل يمكن أن يتحملها المستأجر؟
اتفق الفقهاء – من حيث المبدأ – على أن المستأجر يده يد أمانة لا يضمن إلا بالتعدي والاتلاف، والتقصير والإهمال، ومخالفة الشروط المتفق عليها في العقد، ومخالفة العرف السائد في إجارة كل شيء، بحيث يكون استعماله استعمال الرجل الحريص على أموال الآخرين فلا يزيد على ما يتحمله الشيء فوق طاقته وإلا أصبح ضامناً([18]).
وفي المذهب المالكي رأي مرجوح أنه ضامن، قال القرافي: “وقيل ضامن”([19]), ونحن لا ندخل في تفاصيل هذا المبحث، ولكنه بلا شك يعتبر هذه المسألة من أهم القضايا التي تفكر فيها المصارف الإسلامية وتسعى جاهدة لإيجاد ضمانات كافية من خلال الشروط، والتأمين ونحو ذلك.
والخلاصة أن تبعة الهلاك تقع من حيث المبدأ على المؤجر (البنك) مادام العقد قد صيغ صياغة عقد الإجارة، حتى القانون المدني يحمله تبعة الهلاك على الرغم من أنه يكيفه على أساس البيع بالتقسيط – كما سبق – وأما الأجير بِشِقَّيه (الخاص والمشترك) فقد سبق أن الأجير العام أو المشترك ضامن على الراجح، أما الأجير الخاص فغير ضامن.
هل يمكن أن يتحملها المستأجر؟:
لِتَحمُّلِ المستأجر تبعة الهلاك في الإجارة بصورة عامة وفي الإجارة المنتهية بالتمليك بصورة خاصة طريقتان:
الطريقة الأولى: أن يتحملها طوعاً دون أن يذكر ذلك في العقد، وذلك بأن يتعهد تعهداً مستقلاً عن عقد الإجارة-مكتوباً أو شفهياً- بأنه يتحمل تبعة الهلاك فيما لو هلكت العين المستأجرة، أو تلفت تلفاً كلياً أو جزئياً، وهذا يدخل في الوعد من طرف واحد اعتبره جماعة من الفقهاء منهم المالكية في قول لهم، وابن شبرمة وغيرهم كما سبق.
الطريقة الثانية: أن يكتب ذلك في العقد كشرط من الشروط المقترنة بالعقد، وهذا غير جائز عند جمهور الفقهاء، لأنه شرط يخالف مقتضى العقد، غير أنه يفهم من كلام ابن رشد في المقدمات والممهدات ومن كلام القرافي في الذخيرة أنه على قول أشهب يجوز اشتراط ما يخالف مقتضى العقد، فمثلاً يد الأجير المشترك على سلعة يؤثر فيها يد ضمان في بيته أو حانوته، ومع ذلك لو اشترط عدم الضمان ففيه ثلاثة أقوال.. قال أشهب: ينفع، لأن الأصل اعتبار العقود – أي الشروط –، ولأنه كان قادراً على عدم التزامه، وإنما رضي المسمى أي من الأجر لسقوط الضمان عليه، كذلك ينفع شرط عدم الضمان في المستعير والمرتهن، لأن هذا الشرط زيادة معروف، ولكن القول المشهور هو أن هذا الشرط لا ينفعه؛ لأنه خلاف مقتضى العقد”([20]).
بل أكثر من ذلك، فقد رأيت أن الإمام أحمد يرى في أحد قوليه جواز اشتراط الضمان على المستأجر، جاء في المغني: “فإن شرط المؤجر على المستأجر ضمان العين فالشرط فاسد، لأنه ينافي مقتضى العقد. وعن أحمد أنه سئل عن ذلك فقال: المسلمون على شروطهم، وهذا يدل على نفي الضمان بشرطه ووجوبه بشرطه، لقوله صلى الله عليه وسلم: “المسلمون على شروطهم”([21]) وهذا القول للإمام أحمد في غاية من الأهمية، إذا أنه يحقق الأمن والأمان للبنوك الإسلامية حيث لا تخاف من ضياع رأسمالها على أقل تقدير، وهذا رأي وجيه مستند على حديث صحيح ممكن الاعتماد عليه في الظروف الحالية التي نعيشها من حيث انعدام الثقة ونحوها.
ومن جانب آخر يمكن التخفيف من آثار ذلك على البنوك الإسلامية وغيرها، من خلال اشتراط أن يكون عبء الإثبات لحالات عدم الضمان على المستأجر، وتوضيح ذلك هو أنه غير ضامن إلا في حالات التعدي والتقصير ومخالفة الشروط والعرف -كما سبق- وأن عبء الإثبات لهذه الحالات يقع على المؤجر عند جمهور الفقهاء، وبعبارة أخرى أن الأصل هو عدم الضمان، وإذا ادّعى المؤجر الضمان بسبب التعدي أو التقصير فإن عبء الإثبات يقع عليه وهو ليس بأمر هين ولا سيما أنه غائب عن العين المستأجرة، وبالأخص في تأجير السيارات والطائرات والبواخر، فلو اشترط المؤجر على المستأجر بأنه في حالة التلف أو الهلاك الكلي، أو الجزئي فإن عبء الإثبات يقع عليه بعبارة أخرى إذا لم يثبت أنه غير متعد، وغير مقصر، وغير مخالف للشروط والعرف فإنه يجب عليه الضمان.
فهذا الشرط إن صحَّ يحقق العدالة للطرفين، ويتوافق مع عصرنا الحاضر، وطبيعته القائمة على فساد معظم الذمم وعدم تقوى الله تعالى إلا ما رحم ربي، وهو موافق لمذهب بعض الصحابة الكرام الذين قالوا بضمان الأجير المشترك وقالوا: “لا يصلح الناس إلا ذلك”([22]), وقد روى البيهقي عن الشافعي أنه قال: “قد ذهب إلى تضمين القصَّار شريح، فضمّن قصَّاراً احترق بيته، فقال تضمنني وقد احترق بيتي، فقال شريح أرأيت لو احترق بيته كنت تترك له أجرك” وروى أيضاً بسنده عن أبي هيثم أنه قدم دهن له من البصرة وأنه استأجر حمالاً يحمله، والقارورة ثمنها ثلاثمائة، أو أربعمائة، فوقعت القارورة وانكسرت فأردت أن يصالحني فأبى فخاصمته إلى شريح، فقال له شريح: “إنما أعطى الأجر لتضمن فضمَّنه شريح، ثم لم يزل الناس حتى صالحته”([23]).
والمقصود أن الفقهاء كيف غيّروا فتاواهم السابقة من عدم الضمان إلى الضمان لسوء أخلاق البعض، وللحفاظ على الأموال وعدم الاستهانة بها.
ومن جانب آخر فإن هناك شبهاً بين المستأجر وبين الأجير المشترك بجامع الإجارة، فلو قلنا بأن عبء الإثبات يقع عليه لما أخطأنا الهدف وهو أقل بكثير من القول بالضمان الواقع على الأجير المشترك، حتى ولو لم يكن له دخل وأثر في التلف والهلاك.
وأيضاً فإن قياس المستأجر على المضارب والشريك قياس مع الفارق حيث إن المستأجر لا يخسر شيئاً بتلف العين المؤجرة إذا انفسخ العقد، بل قد يستفيد فيما لو كانت الأجرة مرتفعة في وقت التلف لأي سبب من الأسباب، وحينئذٍ إذا انفسخ العقد بتلف العين المؤجرة فإنه يستفيد من خلال تأجير عين أخرى من نفس الجنس وبأقل من الأجرة التي كان يدفعها.
أما المضارب، أو الشريك فإنه في حالة الخسارة فقد خسر الجهد، كما خسر رب المال ماله، فهناك نوع من التعادل، كما أن الربح يعود على الطرفين، أما المستأجر فلا يخسر شيئاً بل قد يستفيد من هذا التلف –كما سبق–.
وفي الإجارة المنتهية بالتمليك يكون الأمر أكثر تعقيداً وذلك لأن المستأجر قد لا يريد تنفيذ جميع بنود الإجارة بسبب أن الأجرة حسب السوق الحالية مرتفعة، وإن كانت عند العقد غير مرتفعة، أو أنه لا يريد أن يلتزم بشراء هذه الطائرة، أو الباخرة لأي سبب معقول أو غير معقول، ومن هنا يرد احتمال التهمة، وقد قال جماعة من الفقهاء بأن الوكيل ونحوه لا يصدَّقون إذا كان هناك مجال للتهمة([24]).
ولذلك فالذي يظهر لي رجحانه أنه في الإجارة بصورة عامة، وفي الإجارة المنتهية بالتمليك بصورة خاصة، لا يصدّق المستأجر في تلف العين المستأجرة، ولا في ادّعاء عدم التعدي والتقصير ومخالفة الشروط والعرف إلا ببينة مقنعة، فإذا لم يأتِ بها فيجب عليه الضمان، ولا أرى أي مانع من تثبيت هذا الشرط من الشروط المقترنة بالعقد للأسباب ذكرناها آنفاً.
وسيلة أخرى لحماية المؤجر:
يستطيع المؤجر (البنك أو نحوه) أن يطلب من المستأجر بأن يهيئ له طرفاً ثالثاً يضمن العين المؤجرة، وهذا أجازه مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة مؤتمره الرابع بجدة، وبقراره رقم (5) في 18- 23 جمادى الآخر 1408هـ الموافق 6- 11 فبراير 1988م حيث نص على أنه “ليس هناك ما يمنع شرعاً من النص في نشرة الإصدار، أو صكوك المقارنة على وعد طرف ثالث منفصل في شخصيته وذمته المالية عن طرفي العقد بالتبرع بدون مقابل بمبلغ مخصص لجبر الخسران في مشروع معين على أن يكون التزاماً مستقلاً”.
الهلاك الكلي والجزئي للعين المستأجرة في القانون:
وتتفق القوانين المدنية على أن هلاك العين المستأجرة هلاكاً كلياً يترتب عليه انفساخ العقد تلقائياً، أما هلاك العين جزئياً، أو إذا أصبحت العين في حالة لا تصلح معها للانتفاع الذي أجرت لأجله، أو نقص هذا الانتفاع نقصاً كبيراً ولم يكن للمستأجر يد في شيء من ذلك، فيجوز له – إذا لم يقم المؤجر في ميعاد مناسب بإعادة العين إلى الحالة التي كانت عليها – أن يطلب تبعاً للظروف إما إنقاص الأجرة أو فسخ الإيجار ذاته دون إخلال بما له من حق في أن يقوم بنفسه بتنفيذ التزام المؤجر وفقاً لأحكام المادة السابقة (أي المادة 568م م) وفي هاتين الحالتين لا يجوز للمستأجر أن يطلب تعويضاً إذا كان الهلاك أو التلف يرجع إلى سبب لا يد للمؤجر فيه([25]).
ونصت المادة 11 من قانون (2) لسنة 1975م في شأن إيجار الأماكن والمباني بقطر على أنه “إذا هلكت العين المؤجرة أثناء الإيجار هلاكاً كلياً انفسخ العقد من تلقاء نفسه”.
أما إذا كان هلاك العين المؤجرة جزئياً، أو أصبحت في حالة غير صالحة للانتفاع، أو نقص هذا الانتفاع نقصاً كبيراً، أو كان من شأنها أن تعرض صحة المستأجر، أو من يعيشون معه أو يعملون لديه لخطر جسيم ولم يكن للمستأجر يد في شيء من ذلك كله جاز للمستأجر أن يطلب فسخ العقد”.
وهذه الأحكام كما ترى لا تجد فيها مخالفة لما ذكرناه سابقاً. ويلاحظ في هذا المقام أن معظم القوانين العربية ألزمت المهندس المعماري والمقاول متضامنين بضمان ما يحدث خلال السنوات العشر اللاحقة لتسلم العمل من تهدم كلي، أو جزئي فيما شيدوه من مبان، أو أقاموه من منشآت ثابتة أخرى، ولو كان التهدم ناشئاً عن عيب في الأرض ذاتها، أو كان رب العمل قد أجاز إقامة المنشآت المعيبة ما لم يكن المتعاقدان في هذه الحالة قد أرادا أن تبقى هذه المنشآت مدة أقل من عشر سنوات (المادة 651م م) وإذا كان المالك هو الذي أقام البناء ولم يعهد به إلى مقاول فإن مدة الضمان تبدأ من تاريخ إنهاء جميع الأعمال اللازمة لإقامة المبنى وإعداده صالحاً للاستعمال([26]).
صيانة العين المؤجرة:
إن من أهم المسائل التي تثار في موضوع الإجارة بصورة عامة، وفي موضوع الإجارة المنتهية بالتمليك بصورة خاصة، موضوع الصيانة للعين المؤجرة على من تكون هذه الصيانة؟ وهل يمكن تحميلها للمستأجر برضاه؟
قبل الإجابة عن ذلك أرى أنه من الأفضل أن نذكر بإيجاز موقف القانون من ذلك.
فالقانونان المدني المصري والفرنسي يلزمان المؤجر بتعهد العين المؤجرة بالصيانة وبالقيام بجميع الترميمات الضرورية حتى يتمكن المستأجر من الانتفاع بالعين طيلة فترة الإجارة.
فقد قرر القانون المدني المصري في مادته 567 الفقرة (1) التزام المؤجر بتعهد العين بالصيانة لتبقى على الحالة التي سلمت بها، وأن يقوم في أثناء الإجارة بجميع الترميمات الضرورية، دون الترميمات التأجيرية.
ونصت الفقرة 2 على أنه: “عليه أن يجري الأعمال اللازمة للأسطح من تجصيص، أو بياض، وأن يقوم بنزح الآبار والمراحيض ومصارف المياه”.
وفي الفقرة3 نص على أنه: “يتحمل المؤجر التكاليف والضرائب المستحقة على العين المؤجرة…”.
وفي الفقرة 4 على أن: “كل هذا ما لم يقضِ الاتفاق بغيره”.
فالفقرة الأخيرة أعطت الحق للعاقدين على الاتفاق على خلاف ذلك بأن تكون جميع أعمال الصيانة على المستأجر، أو عليهما([27]) ومعظم التقنينات العربية على هذا المنوال([28]).
والصيانة والترميم على ثلاثة أنواع:
1- ترميمات ضرورية لحفظ العين المؤجرة، مثل إصلاح الحائط الذي يريد أن ينقضَّ، وترميم الطوابق السفلية إذا غمرتها مياه فأوهنتها، وترميم الأسقف التي توشك على الانهيار، كل ذلك من الترميمات الضرورية للانتفاع بالعين، وكما أن المؤجر ملزم بإجرائها فإن له كذلك الحق في إجرائها ولو عارض المستأجر ذلك (م570م م).
2- ترميمات تأجيرية مثل إصلاح البلاط، والنوافذ، والأبواب، والمفاتيح، ونحو ذلك، مما يقتضي به العرف، وهذا النوع يلتزم بها المستأجر ما لم يكن هناك اتفاق على غير ذلك (م582م م).
3- ترميمات ضرورية للانتفاع بالعين على الوجه المطلوب، مثل إصلاح السلم، أو المصعد أو دورة المياه، أو نحو ذلك مما هو مطلوب للانتفاع بالعين على الوجه المطلوب وهذ النوع يقع على عاتق المؤجر إلا إذا وجد اتفاق على خلاف ذلك([29]).
[1]- يراجع في موضوع التلف: بدائع الصنائع للكاساني: 6/1675؛ والمبسوط للسرخسي: 1/137؛ والذخيرة للقرافي: 5/376؛ ومواهب الجليل مع التاج والإكليل: 7/561- 562؛ والمغني لابن قدامة: 5/455؛ الروضة: 5/240؛ المحلى لابن حزم: 9/5- 12.
[2]- المغني لابن قدامة: 5/453؛ الروضة: 5/240.
[3]- المرجع السابق نفسه.
[4]- الروضة: 5/241 مع تصرف قليل في بعض العبارات.
[5]- المصادر السابقة نفسها.
[6]- المبسوط: 15/136؛ والتاج والإكليل على مختصر خليل: 7/562؛ والروضة: 5/341- 342؛ والمغنى لابن قدامة: 5/454؛ وشرح المحلى على المنهاج مع حاشيتي القليوبي عميرة: 3/84؛ والمحلى: 9/5- 12.
[7]- المصادر السابقة نفسها.
[8]- المغني: 5/455.
[9]- المصدر السابق: 5/455- 456؛ والروضة: 5/342؛ والذخيرة: 5/537.
[10]- المغني: 5/456؛ وشرح منتهى الإرادات: 2/264.
[11]- المراد بالعيب هنا هو ما ينقص الانتفاع المقصود بالعين المؤجرة مثل هدم حائط للدار، أم ما لا يفوت شيئاً من الانتفاع على المستأجر مثل انهدام جزء يسير منها لا يضر بالمنفعة المقصودة له من الدار وهو السكنى فإن ذلك لا يثبت الخيار وحق الفسخ. انظر: المغني: 5/457؛ والروضة:5/239؛ والمبسوط: 15/136.
[12]- المغني: 5/457.
[13]- الروضة: 5/239؛ والمغنى: 5/457.
[14]- يراجع: المبسوط: 15/136؛ والروضة: 5/239؛ ولمهذب: 1/405؛ والمغني: 5/457؛ ويراجع الوسيط في عقد الإجارة للدكتور عبدالرحمن محمد عبدالقادر، ط. دار النهضة العربية بالقاهرة، ص238.
[15]- الذخيرة: 5/532؛ والكافي، ص369؛ والروضة: 5/239.
[16]- المبسوط للسرخسي: 15/136؛ والتاج والإكليل: 7/566؛ والذخيرة: 5/476؛ والمغني لابن قدامة: 5/457.
[17]- المغني: 5/457- 458.
[18]- يراجع بحثنا حول مدى مسؤولية مجلس الإدارة عن الخسائر، المقدم إلى الدورة 14 للمجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي.
[19]- الذخيرة: 5/502؛ والتعبير بقيل يدل على الضعف الشديد.
[20]- يقرأ بدقة: الذخيرة: 5/505؛ والمقدمات والممهدات: 3/151- 252.
[21]- المغني لابن قدامة: 8/114- 115، والحديث رواه البخاري في صحيحه تعليقاً بصيغة الجزم- مع فتح الباري-: 4/451، ورواه غيره.
[22]- السنن الكبرى للبيهقي: 5122.
[23]- السنن الكبرى للبيهقي: 5/122- 123.
[24]- المغني لابن قدامة: 5/102.
[25]- هذا هو مقتضى نص المادة (569) من القانون المدني المصري، والمادة (537) من القانون المدني السوري، والمادة (751) من القانون