بنوك الحليب :
الأفكار والمنتجات لها علاقة وثيقة بطبيعة المجتمع وقيمه ودينه ، ولذلك ظهرت في الغرب فكرة بنوك المني (المحرمة) وفكرة بنوك الحليب ، وبنوك الدم ، وبنوك الأعضاء ونحوها ، وليس بالضرورة أن كل هذه الأفكار ناجحة حتى لديهم ، ولو نجحت لديهم فقد لا تتفق مع قيمنا ومبادئنا الإسلامية .
ومن هذه الأفكار فكرة بنوك الحليب التي ظهرت في الغرب خلال فترة السبعينات من القرن العشرين ، وتتلخص فكرتها في جمع الألبان الفائضة من أمهات بأجر أو بدونه ، حيث يؤخذ هذا اللبن بطريقة معقمة ، ويحفظ في قوارير بعد تعقيمها دون تجفيفه حتى يحافظ على خصائصه وفوائده من مضادات وبروتينات وفيتامينات ، لتستفيد منه الأطفال وبالأخص الطفل الخديج (الذي ولد قبل أوانه) دون حساسية له كما تحدث في الألبان الصناعية أو ألبان الحيوانات .
وهذه البنوك تكلفتها عالية جداً ، وتحتاج إلى تقنيات متطورة لتعقيم اللبن ، والحفاظ عليه حتى بلغت في أمريكا إلى مرحلة الاحتضار[1] .
حكم الحليب المأخوذ من عدة نساء ومودع في بنك خاص :
والسؤال الوارد هنا : هل هذا الحليب المأخوذ من عدد كبير من النساء والمودع في بنك خاص به حرام فعله ، واستعماله ؟ وهل تثبت به الرضاعة الشرعية ؟ وهل إنشاء مثل هذا البنك حلال ؟
للإجابة عن ذك ، اختلف المعاصرون :
فذهب فضيلة الشيخ القرضاوي إلى أن الهدف الذي من أجله أنشئت بنوك الحليب هذه هدف خير نبيل يؤيده الإسلام وهو مساعدة الطفل الخديج ، ولذلك فإن أية امرأة تسهم بالتبرع ببعض لبنها لتغذية هذا الصنف من الأطفال مأجورة عند الله تعالى ، بل يجوز أن يشترى ذلك منها إذا لم تطب نفسها بالتبرع ، كما أجاز استئجارها للرضاع كما نص عليه القرآن وعمل به المسلمون ، ولا ريب أن المؤسسة التي تقوم بهذا الجمع وتعقيمها وحفظها لاستخدامها في تغذية هؤلاء الأطفال في صورة ما سمي : بنك الحليب مشكورة .
إذن ما المحذور ؟
المحذور يتمثل في أن هذا الرضيع سيكبر بإذن الله ويصبح شاباً وحينئذٍ يحرم عليه ان يتزوج إحدى البنات اللاتي ترضعن من هذا الحليب .
وقد ناقش الشيخ الكريم هذه المسألة ، وانتهى إلى ترجيح رأي الإمام أبي ليث بن سعد ، والإمام أحمد في إحدى روايتيه والظاهرية[2] في اشتراط الامتصاص المعروف أي أن يأخذ الطفل الحليب من الأم عن طريق المص الذي يتجلى فيه حنان الأمومة وتعلق البنوة[3] .
وأيده في ذلك الدكتور خالد المذكور ، لكنه أضاف بأن اللبن الصناعي خطر على صحة الطفل سواء كان من لبن الحيوان ، أو من لبن الأم ، لأنه يتعرض للتجفيف ونحوه[4] .
وأيده كذلك بعض العلماء الذين حضروا ندوة المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية ، وبهذا الرأي صدرت فتوى من دار الإفتاء المصرية ، هذا نصها : ( أرسلت وزارة الصحة المصرية إلى دار الإفتاء تسأل : هل إنشاء بنك لألبان الأمهات حلال أم حرام ؟
والبنك يقوم بجمع لبن الأمهات عن طريق التبرع أو البيع ثم تبريده وحفظه في ثلاجات لمدة تصل إلى ثلاثة أشهر … أو تجفيفه وإعطائه للأطفال المحتاجين للرضاعة الطبيعية .
حكم العلاقة بين طفلين رضعا من هذا الحليب :
ولكن خرجت مشكلة دينية إلى السطح : ماذا يحدث إذا رضع طفل وطفل من هذا اللبن .. ثم كبرا وأرادا الزواج …فهل تقف مسالة (الأمهات في الرضاعة) عقبة في زواجهما ؟
جاءت إجابة دار الإفتاء تقول إنه لا تحرم رضاعة أي طفل من هذا اللبن الزواج من ابنة الأم التي أعطت هذا اللبن واستندت دار الإفتاء في هذا إلى أن مذهب أبي حنيفة قد نص على أن الرضاع لا يحرم إلاّ إذا تحققت شروطه ومنها أن يكون اللبن الذي يتناوله الطفل لبن المرأة .. وأن يصل إلى جوفه عن طريق الفم ولا يكون مخلوطاً بغيره كالماء أو الدواء ولبن الشاه أو بجامد من أنواع الطعام أو بلبن امرأة أخرى فإن خلط بنوع من الطعام ، أو طبخ معه على النار فلا يثبت التحريم باتفاق أئمة المذهب ..وإذا لم تمسه النار فلا يثبت به التحريم أيضاً عند أبي حنيفة سواء أكان الطعام المضاف غالباً أو مغلوباً .. لأنه إذا خلط الجامد بالمائع صار المائع تبعاً فيكون الحكم للمتبوع والعبرة بالغلبة ولو خلط لبن امرأتين فإن العبرة للغلبة أيهما كان أكثر فإنه يثبت التحريم دون الآخر وإن استويا ثبت التحريم بهما .
والرضاع لا يثبت بالشك ولا يجعل اللبن رائباً او جبناً فإن تناوله الصبي لا تثبت به الحرمة لأن اسم الرضاع لا تقع عليه .
ومن عرض جميع الآراء قالت دار الإفتاء إن اللبن المجفف بطريقة التبخير والذي صار مسحوقاً جافاً لا يعود سائلاً … بحيث يتيسر للأطفال تناوله إلاّ بعد خلطه بمقدار من الماء يكفي لإذابته وهو مقدار يزيد عن حجم اللبن ويغير من أوصافه ويعد غالباً عليه ، وبالتطبيق على ما سبق من الأحكام لا يثبت التحريم عليه شرعاً وبذلك فإن لبن الرضاعة الذي يجمع لإعداده لتغذية الأطفال بإحدى الطريقتين المشار إليهما وبجمع من نساء عديدات غير محصورات ولا متعينات بعد الخلط فالنصوص الفقهية واضحة في انه لا مانع من الزواج بين الصغيرين اللذين تناولا هذا اللبن من الوجهة الشرعية لعدم إمكان إثبات التحريم في حالة عدم تعيين السيدة أو السيدات اللائي ينسب إليها أو إليهن لبن الرضاعة .
اما في حالة تبريد اللبن وبقائه من شهرين إلى ثلاثة صالحاً للتناول وإعطائه للأطفال بحالته الطبيعية فإن عامل الجهالة يبقى دائماً أيضاً ومن ثم لا يكون هناك مانع من الزواج بين أبناء الرضع … والرضع الذين يحبلون على لبنها عن طريق البنك)[5] .
قرار مجمع الفقه الاسلامي الدولي في هذه البنوك :
وذهب آخرون إلى حرمة إنشاء هذا البنك وثبوت حرمة الرضاعة به ، وهذا ما صدر قرار رقم 6(6/2) من مجمع الفقه الإسلامي الدولي ، هذا نصه : (إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد المؤتمر الثاني بجدة 10-16 ربيع الاخر 1406هـ الموافق 22-28 كانون الأول (ديسمبر) 1985م ، بعد أن عرض على المجمع دراسة فقهية ، ودراسة طبية حول بنوك الحليب ، وبعد التأمل فيما جاء في الدراستين ومناقشة كل منهما مناقشة مستفيضة شملت مختلف جوانب الموضوع وتبين منها :
أولاً : أن بنوك الحليب تجربة قامت بها الأمم الغربية ، ثم ظهرت مع التجربة بعض السلبيات الفنية والعلمية فيها فانكشفت وقل الاهتمام بها .
ثانياً : ان الإسلام يعتبر الرضاع لحمة كلحمة النسب يحرم به ما يحرم من النسب بإجماع المسلمين ، ومن مقاصد الشريعة الكلية المحافظة على النسب ، وبنوك الحليب مؤدية إلى الاختلاط أو الريبة .
ثالثاً : أن العلاقات الاجتماعية في العالم الإسلامي توفر للمولود الخداج أو ناقص الوزن أو المحتاج إلى اللبن البشري في الحالات الخاصة ما يحتاج إليه من الاسترضاع الطبيعي ، الأمر الذي يغني عن بنوك الحليب .
قرر ما يلي :
أولاً : منع إنشاء بنوك حليب الأمهات في العالم الإسلامي .
ثانياً : حرمة الرضاع منها …… والله أعلم . )[6] .
دراسة القرار وتقييمه :
وهذا القرار في نظري له وجاهته ، وقوته ، مبنىّ على عدة أسس وأدلة معتبرة منها :
أولاً : شهادة الخبراء من الأطباء بأن بنوك الحليب ليست ضرورية ولا حاجة ملحة ، وأن لها بدائل ، وأنها في بعض الدول الغربية المتطورة فشلت ، أو على وشك الفشل والاحتضار ـ كما سبق ـ وأنها في البلاد الإسلامية يكاد من المتعسر ، أو المتعذر تطبيقها ، يقول الدكتور ممدوح جبر وزير الصحة السابق في مصر وأستاذ طب الأطفال ورئيس نقابة الأطباء : ( إن الفكرة … يصعب تنفيذها هنا داخل مصر أولاً ، لأن الرضاعة الطبيعية ليس فيها مشكلة … .
ثانياً : تنفيذ المشروع يحتاج إلى تكاليف مرتفعة جداً ، وان عمليات التعقيم والتبخير والحفظ تحتاج إلى كثير من العمليات ..)[7] .
ويقول الدكتور على فهمي بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بالقاهرة : ( إنه لو دخل هذا المشروع نطاق التنفيذ فسيكون فاشلاً ، وسيخلق جيلاً فاشلاً اجتماعياً ، كما سينتج عنه تشجيع كثير من الأمهات على امتهان هذه المهنة … )[8] .
يقول الدكتور محمد علي البار : وقد قمت بسؤال بعض المتخصصين في هذا الموضوع ..، وكانت خلاصة آرائهم :
1ـ أنه لا توجد حاجة حقيقية لبنوك اللبن في البلاد الإسلامية
2ـ أن الطفل الخديج وفرّ لأمه إرضاعه بطريقة مناسبة بعيدة عن آثار التلوث
3ـ ان بنوك اللبن تعترضها مصاعب وعقبات في البلاد المتقدمة ، وهي في البلاد النامة تواجه صعوبات أكثر في مجلات متنوعة
4ـ هناك احتمال إذا انتشرت هذه البنوك أن تتعاقس الامهات القادرات على الرضاعة ، وبالتالي فقدان الفوائد الجمة للرضاعة المباشرة للأم ، والطفل معاً [9].
ثالثاً : إن حصر التحريم في الرضاعة على مص اللبن من الثدي ـ كما هو مذهب الظاهرية ـ ليس عليه دليل معتبر بل إن الأحاديث الصحيحة والثابتة دلت على أن العلة هي التغذية باللبن ، ووصوله إلى المعدة بكمية مناسبة ، منها قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يحرم من الرضاع إلاّ ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام) رواه ابن ماجه بسند جيد[10] وأخرجه البيهقي بلفظ : ( لا تحرم من الرضاعة المصة ولا المصتان ، ولا يحرم إلاّ ما فتق الأمعاء) وزاد في رواية : (من اللبن)[11] ورواه الشافعي وعنه البيهقي من طريق سفيان عن هشام بن عروة به موقوفاً ، وإسناده صحيح[12] ورواه الترمذي مرفوعاً وصححه بلفظ : ( لا يحرم من الرضاعة إلاّ ما فتق الأمعاء في الثدي ، وكان قبل الفطام)[13] وقد فسره شراح الحديث المراد بـ (في الثدي) أي كائناً في الثدي ، فائضاً منه سواء كان بالمص ، أو بالايجار ، ولم يرد الاشتراط في الرضاع المحرم أن يكون من الثدي قاله القاري ، وقال الشوكاني : ( قوله : في الثدي أي في زمن الثدي ، وهو لغة معروفة ، فإن العرب تقول : مات فلان في الثدي أي في زمن الرضاع قبل الفطام ، كما وقع التصريح بذلك في آخر الحديث)[14] .
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : (فإنما الرضاعة من المجاعة) وهو حديث صحيح متفق عليه[15] حيث يدل على أن العلة هي تأثير اللبن في نمو الطفل بأية وسيلة مشروعة ومنها حديث : ( لا رضاع إلاّ ما أنشز العظم وأنبت اللحم) رواه أبو داود مرفوعاً بسند ضعفه الكثيرون ، وعنه البيهقي ، ورواه موقوفاً على ابن مسعود بلفظ : (لا رضاع إلاّ ما شدّ العظم وأنبت اللحم) فقال أبو موسى : ( لا تسألونا ، وهذا الخبر فيكم) وباللفظ الأخير رواه أحمد مرفوعاً ، وأبو داود[16] .
رابعاً : الاحتياط في التحريم بالرضاعة ، حيث تدل الأحاديث الصحيحة على ضرورة الاحتياط في هذا الباب ، فقد روى البخاري وغيره بسندهم عن عقبة بن الحارث قال : (تزوجت امرأة فجاءتنا امرأة سوداء ، فقالت : أرضعتكما ! فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت : تزوجت فلانة بنت فلان فجاءت امراة سوداء فقالت : إني قد أرضعتكما ، وهي كاذبة ، فأعرض عني ، فأتيته من قبل وجهه ، قلت إنها كاذبة ، قال : (كيف بها وقد زعمت انها قد أرضعتكما ، دعها عنك)[17] وفي لفظ صحيح آخر : (فنهاه عنها) ولفظ آخر للنسائي (خلّ سبيلها)[18] .
فهذه الروايات الصحيحة تدل على وجوب الأخذ بالأحوط في هذا المجال ، وبالتالي فالأحوط يقتضي هنا عدم إنشاء بنوك الحليب لما يترتب عليه من مفاسد ، وثبوت أحكام الرضاعة بها .
-
يراجع : د. محمد علي البار : بنوك الحليب ، بحث منشور في مجلة مجمع الفقه الإسلامي ، ع2 ج1 ص 00391 ، وبحث فضيلة الشيخ القرضاوي ، المنشور في نفس المجلة ص 385 والمناقسات التي دارت حول الموضوع .
-
المحلى (10/9 – 11|) والمغني مع الشرح الكبير (9/194)
-
الشيخ القرضاوي بحثه المطبوع ضمن كتاب الانجاب ، ط. المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية ،ص 50 – 57 ، وهو ثبت كامل لأعمال ندوة الإنجاب في ضوء الإسلام في 11 شعبان 1403هـ
-
مناقشات الندوة ص 64 وص 66 – 67 وص 82 من كتاب الانجاب
-
ضمن كتاب الإنجاب ، ط. المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية ،ص 458- 459 ، وهو ثبت كامل لأعمال ندوة الانجاب في ضوء الإسلام في 11 شعبان 1403هـ الموافق 24/5/1983
-
مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدولي ، ع 2 (1/383)
-
كتاب الانجاب ، ط. المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية ، ص 460 ، وهو ثبت كامل لأعمال ندوة الانجاب في ضوء الإسلام في 11 شعبان 1403هـ نقلاً عن الأهرام 23-29/8/1983
-
المرجع السابق ص 466
-
د. البار : بحثه المشار إليه في المجلة ص 397 – 400 بتلخيص
-
سنن ابن ماجه الحديث رقم 1964 قال الألباني في الإرواء (7/222) وهذا إسناد جيد
-
السنن الكبرى (7/461)
-
إرواء الغليل (7/222)
-
سنن الترمذي ـ مع تحفة الأحوذي ـ (4/313 – 314) الحديث رقم 1162 وقال الترمذي : ( هذا حديث حسن صحيح ) جاء في التحفة : ( وصححه الحاكم أيضاً) .
-
نيل الأوطار ط. الكليات الأزهرية (8/139) وتحفة الأحوذي (4/313 – 414)
-
رواه البخاري (2/149 ، 3/420) ومسلم : (4/170) والنسائي (2/83) والدارمي (2/185) وأحمد (6/94)
-
سنن أبي داود الحديث رقم 2059 ورقم 2060 والبيهقي (7/461) وأحمد (1/432) ويراجع تلخيص الحبير (4/4) وإرواء الغليل (7/223 – 224)
-
صحيح البخاري ـ مع الفتح ـ كتاب النكاح (9/152) الحديث رقم 5104 ، وسنن أبي داود الحديث 3603 ، 3604 والبيهقي (7/463)
-
سنن النسائي (2/295) ويراجع : إرواء الغليل (7/224 – 225 )