إذا لم يقم المؤجر بالصيانة اللازمة في النوعين الأول والثالث فإن المادة (568م م) نصت على أن المستأجر له الحق في أن يحصل على ترخيص من القضاء في إجراء ذلك بنفسه، وفي استيفاء ما أنفقه خصماً من الأجرة، وهذا دون إخلال بحقه في طلب الفسخ، أو إنقاص الأجرة، بل إن له الحق في القيام بإجراء الترميمات المستعجلة، أو البسيطة مما يلتزم به المؤجر دون الحاجة إلى ترخيص من القضاء وذلك إذا لم يقم المؤجر بعد إعذاره بتنفيذ هذا الالتزام في ميعاد مناسب على أن يستوفي المستأجر ما أنفقه خصماً من الأجرة، ويقابل هذا النص في القانون المدني العراقي المادة (750م م) وفي السوري المادة (536م س)([1]).
حق الفسخ أو إنقاص الأجرة بسبب عدم الصيانة:
وإذا لم يشأ المستأجر التنفيذ العيني على النحو السابق جاز له أن يطلب فسخ الإيجار إذا كان حرمانه من الانتفاع بالعين المؤجرة بسبب حاجتها إلى الترميمات حرماناً جسيماً يبرر الفسخ، وللمحكمة حق التقدير طبقاً للقواعد العامة، كما أن له الحق في طلب إنقاص الأجرة، وللمحكمة أن تجيبه فتنقص الأجرة بالقدر المناسب إذا رأت أن هناك مبررات لذلك (المادة 568م م).
وفي جميع الأحوال أعطى القانون المصري الحق للمستأجر بأن يطلب بالتعويض عن الضرر الذي أصابه بسبب نقص الانتفاع بالعين المؤجرة، والتعويض عما أصابه من ضرر في شخصه أو ماله بسبب ذلك، كل ذلك بشرط إعذار المستأجر المؤجر بإجراء الترميمات الضرورية، إذ المسؤولية هنا مسؤولية عَقْدية ولست مسؤولية تقصيرية([2]).
غير أنه صدرت عدة قوانين في مصر تنظم بعض أمور الإجارة منها القانون رقم (136) لسنة 1981م حيث ألغى التفرقة بين أعمال الإصلاح المعتاد، وأعمال الصيانة المعتادة وغير المعتادة، وجعلها كلها موزعة بين المالك وشاغل المبنى، فهي تشمل إصلاح درج السلم المكسور، أو المتآكلة، وكسوة الأرضية في السلالم والمداخل، وأعمال البياض والدهانات لواجهات المبنى والشبابيك من الخارج وكذلك الأعمال التي تتطلبها إعادة الحال إلى ما كانت عليه في الأجزاء التي تناولها الترميم والصيانة، واستبدال الزجاج المكسور للسلم والمناور والمداخل، ونزح الآبار والبيارات ومصارف المياه.
وقد اعتبر القانون المصري أن نفقات الترميم والصيانة إذا التزم بها المستأجر تعتبر في حكم الأجرة، ولذلك يستطيع المؤجر رفع دعوى الإخلاء على المستأجر عند عدم الوفاء بهذه النفقات([3]).
أسئلة بنك التنمية تحدد المشكلة:
وجّه البنك الإسلامي للتنمية بجدة خطاباً أوضح فيه العقبات التي تتطلب حلاً جذرياً بخصوص الصيانة وطالب مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثالثة المنعقدة في شهر المحرم عام 1407هـ بالإجابة عن أسئلته موضحاً له أن أنواع الصيانة ثلاثة هي:
النوع الأول: التشغيل السليم، ويشمل قراءة معدات قياس الحرارة، والمياه، والزيوت، ومتابعة ذلك للتأكد من سلامتها طوال فترات التشغيل.
النوع الثاني: الصيانة الوقائية، وتتمثل في أعمال محددة تتم في آجال معلومة يحدث فيها تغيير بعض الأجزاء وضبط البعض الآخر.
النوع الثالث: الصيانة الطارئة، وهي أعمال يجب القيام بها عند حدوث عطل فني غير متوقع مما قد يترتب عليه تغيير أجزاء هامة، وتتطلب مهارة فنية فائقة، وهذا النوع من الصيانة يمكن التقليل منه بالتشغيل السليم والصيانة الوقائية.
وقد طلب البنك في خطابه هذا الإجابة عن أسئلته حول الإيجار المنتهي بالتمليك وكيفية الصيانة فيه، وصدر عن المجمع في دورة مؤتمره الثالث عدة مبادئ بهذا الصدد منها: “أن تبعة الهلاك والتعيب تكون على البنك بصفته مالكاً للمعدات ما لم يكن ذلك بتعد، أو تقصير من المستأجر فتكون التبعة عندئذٍ عليه”.
ومنها: “أن نفقات التأمين لدى الشركات الإسلامية كلما أمكن ذلك يتحملها البنك”.
ثم عرض البنك هذا الموضوع على مجموعة من الفقهاء الذين استشارهم البنك في بيان أفضل وسيلة لوضع المبادئ الستة التي أقرها المجمع موضع التنفيذ فأشارت عليه بما يأتي:
1- يجوز للبنك أن يبرم عقداً مع المستأجر يقوم بموجبه المستأجر بصيانة العين المؤجرة مقابل مبلغ مقطوع.
2- لا مانع شرعاً من توكيل البنك للجهة المراد تأجير المعدات لها بإجراء التأمين على المعدات محل الإيجار على نفقة البنك.
غير أن بنك التنمية – وهو حريص على عدم مخالفة الشريعة في جميع عملياته – أوضح بأنه يواجه بعض الصعوبات العملية في تطبيق تلك المبادئ السابقة على أسلوب الإيجار المنتهي بالتمليك مبيناً بأن البنك مؤسسة تمويلية تمتد عملياته إلى أربع وأربعين دولة، وأن المعدات والآلات والأجهزة التي يقوم بتأجيرها تختلف مواصفاتها وتتعدد بأنواعها وتتباين أغراضها مما يجعل التزام البنك بصيانتها أمراً عسيراً إن لم يكن مستحيلاً.
وأضاف البنك قائلاً: إن طبيعة الصيانة المطلوبة تختلف من شيء إلى أخر، فبالنسبة للعقارات – مثلاً – فإن أعمال الصيانة واضحة محددة وتتسم بالطابع الموسمي، وتتم في فترات محددة ما عدا الأضرار التي تنجم عن الحوادث الطارئة، أما المعدات والآلات فإن صيانتها تتسم بالاستمرارية، ويصعب لذلك تقديرها مسبقاً لارتباطها بطبيعة التشغيل ونوعه وكفاءة الكوادر الفنية التي تقوم بهذا النوع الفني الشائك من الصيانة الذي يتطلب أن يكون لدى البنك فريق كامل من الخبراء والفنيين في كافة التخصصات وهو أمر يفوق طاقة مؤسسات التمويل الإسلامية، ويضعف مركزها في مواجهة مؤسسات التمويل غير الإسلامية([4])، وقد طلب البنك البحث عن صيغة تحقق مصالحه، وتتفق مع أحكام الشريعة ومقاصدها، وتجيب بصفة خاصة عن الأسئلة الثلاثة الآتية:
1- هل يمكن تصنيف أعمال الصيانة المختلفة، كما تقدم وصفها، لمعرفة ما يمكن أن يتحمله المستأجر منها، دون أن يتعارض ذلك مع مقتضى عقد الإيجار؟
وإذا بقي من أنواع الصيانة ما يقضي الفقه بإلزام مالك العين به، فهل لذلك المالك أن يتفق مع المستأجر على أن يقوم المستأجر بتلك الصيانة مقابل تخفيض الأجرة؟
3- هل بالإمكان من الناحية الشرعية أن يتم الاتفاق بين المؤجر والمستأجر على أن يقوم الأخير بإجراء التأمين على العين موضوع الإيجار تأميناً شاملاً على نفقته؟
وهذا قد أجابت الفتاوى الصادرة عن الندوة الفقهية الثالثة لبيت التمويل الكويتي عن بعض ما تتضمنه هذه الأسئلة الثلاثة، وهذا نصّها:
صيانة العين المأجورة:
أولاً: لا يلزم المؤجر القيام بشيء من الإصلاحات الإنشائية أو التحسينية إلا بشرط في العقد.
ثانياً: يلزم المؤجر القيام بالإصلاحات الضرورية لتمكين المستأجر من الانتفاع، إذا حدث الخلل بعد التعاقد، أو كان موجوداً عند التعاقد ولم يطلع عليه المستأجر، أما إذا كان موجوداً قبل التعاقد واطلع عليه المستأجر فلا يلزم المؤجر القيام بإصلاحه إلا بشرط في العقد، فإذا قام المؤجر بالإصلاحات التي تلزمه بمقتضى البند السابق لم يكن للمستأجر حق فسخ العقد.
ثالثاً: الأصل أنه لا يجوز أن يشترط المؤجر على المستأجر صيانة العين مما قد يحصل بها من الخلل، فإن وقع العقد بهذا الشرط فسد، للجهالة.
ويستثنى من ذلك الحالات التالية:
1- الصيانة التشغيلية وهي ما يستلزمه استعمال العين المستأجرة لاستمرارية استخدامها (كالزيوت المطلوبة للآلات والمعدات).
2- الصيانة الدورية، وهي ما يتطلبه استمرار قدرة العين على تقديم المنفعة.
3- الصيانة المعلومة، بالوصف والمقدار في العقد، أو العرف، سواء كانت الصيانة مجرد عمل أو مع استخدام مواد أو قطع غيار معلومة، لأن ما كان من هذا القبيل فإنه بمثابة أجرة مأخوذة في الاعتبار.
رابعاً: إن أذن المؤجر للمستأجر في العقد أو بعده أن يقوم بإصلات معينة في العين فله أن يفعل ذلك ثم يكون له أن يرجع على المؤجر بما أنفقه عنه، ما لم يكن المؤجر قد اشترط أن لا رجوع عليه، أما إن قام المستأجر بعمل صيانة للعين المستأجرة بدون إذن المؤجر فليس له أن يرجع عليه بشيء، بل يكون متبرعاً. “انتهى نص القرار”.
الصيانة في الفقهي الإسلامي:
تدخل هذه المسألة ضمن ما يلزم به شرعاً المؤجر، أو المستأجر، ولذلك تحدث الفقهاء عن التزامات المؤجر، والمستأجر، فقالوا على المؤجر ما يتمكن به من الانتفاع كتسليم المفتاح، وعليه بناء حائط إن سقط، وإبدال خشبة إن انكسر، وعليه تبليط الحمام وعمل الأبواب ومجرى الماء، لأنه بذلك يتمكن من الانتفاع.
وأما ما كان لاستيفاء المنافع كالحبل والدلو والكرة في إجارة البئر فعلى المكتري([5]).
وقال النووي: “ماتحتاج إليه الدار المكراة من العمارة ثلاثة أضرب:
أحدها: مَرَمّة لا تحتاج إلى عين جديدة كإقامة جدار مائل وإصلاح منكسر، وإغلاق مفتوحه.
الثاني: ما يُحوج إلى عين جديدة كبناء، وجذع جديد، وتطيين سطح.
الثالث: عمارة يحتاج إليها لخلل قارن العقد بأن أجر داراً ليس لها باب ولا ميزاب.
ولا يجب شيء من هذه الأضرب على المستأجر، بل هي من وظيفة المؤجر، فإن بادر إلى الإصلاح فلا خيار للمستأجر، وإلا فله الخيار إذا نقصت المنفعة.. وإنما يثبت الخيار في الضرب الثالث”([6]).
وجاء في الذخيرة “على رب الدار كنس المرحاض، وإصلاح الواهي حتى يتمكن من المنفعة”([7]).
وجاء في الدر المختار: “وعمارة الدار المستأجرة وتطيينها (أي تطيين سطحها) وإصلاح الميزاب، وما كان من البناء على رب الدار، وكذا كل ما يخل بالسكنى، فإن أبى صاحبها أن يفعل كان للمستأجر أن يخرج منها إلا أن يكون المستأجر استأجرها وهي كذلك وقد رآها لرضاه بالعيب وإصلاح بئر الماء والبالوعة والمخرج على صاحب الدار”([8]).
وذكر ابن عابدين أنه جاء في البزازية “أن تسييل ماء الحمام وتفريغه على المستأجر وإن شرط نقل الرماد والسرقين رب الحمام على المستأجر لا يفسد العقد”([9]).
والمعيار عند الفقهاء في هذه المسألة هو أن ما كان يخص تحقيق الهدف من الإجارة فعلى المؤجر، أو بعبارة أخرى “ما يتمكن به من الانتفاع بالعين المؤجرة، فعلى المؤجر، وما كان لاستيفاء المنافع فهو على عاتق المستأجر، فالواجب على المؤجر أن يزيل كل العقبات أمام المستأجر لتمكينه من الانتفاع بما أجره على الوجه الذي هو مقصوده([10])، أما ما يخص استيفاء المنفعة فهو على المستأجر”.
وأعتقد أن هذا الميزان والمعيار الفقهي يفتح أمامنا مجالاً للنظر والاجتهاد في مسائل الصيانة اليوم، حيث إن ما يلزم لاستيفاء منافع العين المؤجرة يقع على عاتق المستأجر، وعلى ضوء ذلك فالصيانة اللازمة لتشغيل المحركات ونحوها مثل تبديل الزيت والفلتر والعجلات ونحوها مما يحتاج إليها العمل، وتستهلكه العين المؤجرة تكون على المستأجر([11]), لأن هذه الأمور بمثابة العلف للدابة المستأجرة حيث يقع على المستأجر.
وكذلك الصيانة التي تكون للأجزاء الصغيرة غير الجوهرية التي تستهلك أو تتلف في فترات دورية معينة بسبب التشغيل فهذه أيضاً تقع على عاتق المستأجر لأنها تلزم لاستيفاء المنافع وهي أشبه ما تكون بآلات رفع الماء من البئر التي تقع على المستأجر، وقد قال ابن قدامة: “وما كان لاستيفاء المنافع كالحبل والدلو والبكرة (في إجارة البئر) فعلى المكتري”([12]) أي المستأجر، وجاء في الروضة: “إذا اكترى للركوب قال الأكثرون: على المؤجر الإكاف والبرذعة.. وفي السرج إذا اكترى الفرس أوجه، ثالثها اتباع العادة. قلت: صحح الرافعي في المحرر اتباع العادة، والله أعلم. وقال أبو الحسن العبادي في (الرقم) لا يلزم مكري الدابة إلا تسليمها عارية، والآلات كلها على المستأجر”([13]).
دور العرف في هذا الباب:
للعرف في تحديد التزامات المؤجر، والمستأجر دور كبير، فقد رأينا أن الشافعية الذين لا يعتبرون العرف دليلاً أو مصدراً من مصادر الفقه يولون هنا عناية به ويصححون اتباع العادة والعرف فيما يلزم المؤجر والمستأجر([14])، ويقول ابن قدامة: “يلزم المكري كل ما جرت العادة أن يوطأ به المركوب للراكب”([15]), وقال السرخسي: “ولأن المرجع في هذا إلى العرف”([16]).
فعلى ضوء ذلك يمكن الاعتماد على العرف الجاري السائد.
اشتراط الصيانة على المستأجر:
لا خلاف بين الفقهاء – من حيث المبدأ – بأن الأشياء التي لا تجب على المؤجر لو اشترطها على المستأجر ووافق عليها فإن هذا الشرط ملزم ما دام لا يخالف نصاً من نصوص الكتاب والسنة.
وإنما الحديث هنا عن اشتراط المؤجر ما يجب عليه من أعمال الصيانة، ثم يشترطها على المستأجر ويوافق عليها، فهل يعدّ هذا الشرط باطلاً أو صحيحاً؟
وللإجابة عن ذلك نحتاج إلى تحديد نوعية هذا الشرط هل هو مما خالف نصاً من نصوص الكتاب والسنة؟ أو هو يخالف مقتضى العقد؟
إنه من خلال التقصي لا نجد نصاً شرعياً ثابتاً يمنع هذا الشرط هنا، وإذا لم يثبت ذلك فإن الأصل – على الراجح عند المحققين كما سبق – هو الإباحة في العقود والشروط كما أثبت ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره([17]).
وهل هو مخالف لمقتضى عقد الإجارة؟
إن مقتضى عقد الإجارة هو تملك المستأجر للمنفعة، وتملك المؤجر للأجرة، وتسليم محل المنفعة بشكل يستطيع المستأجر أن ينتفع به، ويحقق غرضه المنشود من الإجارة، أما القيام بأعمال الصيانة التي يقتضيها استيفاء المنفعة فليس من مقتضى العقد.
ويدل على ذلك أن الفقهاء ذكروا أن الواجب على المؤجر أن يسلم مع الدابة المستأجرة حزامها وإكافها ونحو ذلك، ومع ذلك أجازوا اشتراط نفي ذلك، قال النووي: “هذا إذا أطلقا العقد، أما إذا قال: أكريتك هذه الدابة العارية بلا حزام ولا إكاف ولا غيرهما فلا يلزمه شيء من الآلات”([18]).
ثم إن هناك فرقاً بين تسليم العين المؤجرة سليمة وصالحة، وهذا بلا شك واجب على المؤجر إلا إذا اتفقا على عين معيبة وهذا أيضاً جائز، وبين أن يفرض على المؤجر الصيانات التي تحتاج إليها العين المؤجرة بسبب العمل، فالذي يظهر لي رجحانه أن جميع أنواع الصيانات التي يعود سببها إلى العمل والتشغيل ليست من مقتضيات العقد، بل هي مما يجوز فيها الاشتراط والاتفاق.
قد يقال: إن بعض أنواع الصيانة يتوقف عليها تشغيل المعدات؟
نقول: لا ضير في ذلك فهي مثل العلف للدابة المستأجرة، حيث لا تستطيع بدونه أن تعمل، أو تحمل، بل قد يموت، ومع ذلك فهو على المستأجر، لأنه يتعلق باستيفاء المنفعة، وليس بالتمكن من الانتفاع، وكذلك الحال في المعدات حيث إن المهم فيها هو أن يسلمها طبقاً للأوصاف المتفق عليها، أو برضا المستأجر بعد رؤيتها، أما ما تحتاج إليه هذه الآلة أو الطائرة من صيانة فيما بعد بسبب طبيعة العمل والاستهلاك فهذا يعود إلى العرف الجاري، أو الاشتراط.
بل إن بعض الفقهاء أجازوا ضمان العين المستأجرة كلها، وهذا مروي عن أحمد، وقول مرجوح للمالكية.
جاء في المغني: “فإن شرط المؤجر على المستأجر ضمان العين فالشرط فاسد، لأنه ينافي مقتضى العقد.. ولأن ما لا يجب ضمانه لا يصيره الشرط مضموناً، وما يجب ضمانه لا ينتفي ضمانه بشرط نفيه، وعن أحمد أنه سئل عن ذلك فقال: المسلمون على شروطهم، وهذا يدل على نفي الضمان بشرطه، ووجوبه بشرطه لقوله صلى الله عليه وسلم: “المسلمون عند شروطهم”([19]).
وذكر الإمام القرافي قولاً مرجوحاً للمالكية بأن يد المستأجر يد ضمان على العين المستأجرة كما في الأجير المشترك([20]).
شروط المرمة على المستأجر:
وقد أجاز جماعة من الفقهاء منهم المالكية اشتراط الترميم (الصيانة) من الأجرة نفسها([21])، وأجازوا كذلك أن تكون أعمال المرمة زيادة على الأجرة إذا كانت معلومة علماً يرفع الجهالة المؤدية إلى النزاع، جاء في الشرح الكبير: “وجاز شرط مرمة على المكتري، أي إصلاح ما تحتاج إليه الدار أو الحمام مثلاً من كراء وجب، وشرط تطيين الدار أي جعل الطين على سطحها إن احتاجت على المكتري من كراء وجب..” وعلق عليه الدسوقي بقوله: “اعلم أنهما – أي المرمة والتطيين – إن كانا مجهولين فلا يجوز اشتراطهما على المكتري إلا من الكراء لا من عند نفسه، كأن يقول كلما احتاجت لمرمة، أو تطيين فرُمَّها أو طيِّنْها من الكراء، وأما إن كانا معلومين كأن يعين للمكتري ما يرمه، أو يشترط عليه التطيين مرتين، أو ثلاثاً في السنة فيجوز مطلقاً سواء كان من عند المكتري، أو من الكراء بعد وجوبه، أو قبله وهذا النص يساعدنا في مجال الصيانة على أن تحمل على المستأجر”([22]).
وهذا النص الفقهي يدل بوضوح على جواز اشتراط الصيانة المعهودة في عصرهم على المستأجر ما دامت معلومة علماً لا يؤدي إلى النزاع، ويقاس عليها الصيانة المعهودة في عصرنا للآلات والمعدات والدور ونحوها، ولكن ينظم ذلك عن طريق المرات المطلوبة أو للأجزاء المحدودة.
والمرمة تعني إصلاح التالف، فيجوز على ضوء ما سبق أن تكون على المستأجر وهي تشمل الصيانة الضرورية لاستيفاء المنفعة، وتشمل إصلاح الآلات التالفة بسبب التشغيل، أو استبدالها، لأن المرمة قد تتطلب شراء الجص ومواد البناء، وقد أجاز الفقهاء أن تكون على المستأجر إذا اشترط عليه، وهكذا الأمر في إصلاح العطل وتبديل ما تحتاج إليه المعدات من أدوات وآلات تستبدل في كل فترة، والشرط الوحيد في ذلك هو أن تحدد المرمة، أو الصيانة بفترات محددة، أو بأي وسيلة ترفع الجهالة المؤدية إلى النزاع.
ويقرب من هذا ما أجازه جماعة من الفقهاء من المالكية من شرط تكريب الأرض الزراعية وتزبيلها([23]) على المستأجر، مع أنه من مسؤولية المؤجر عند إطلاق العقد، فقد جاء في المدونة: “قلت أرأيت إن أكربتك أرضي هذه السنة بعشرين ديناراً واشترطت عليك أن لا تزرعها حتى تكربها ثلاث مرات فتزرعها في الكراب الرابع، وفي هذا منفعة لرب الأرض، لأن أرضه تصلح على هذا؟ قال: نعم هذا جائز، قلت: أرأيت إن أكربته أرضي وشرطت عليه أن يزبِّلها؟ قال: إذا كان الذي يزبلها به شيئاً معروفاً فلا بأس بذلك، لأن مالكاً قال: لا بأس بالكراء والبيع أن يجمعا في صفقة واحدة، قلت: أرأيت إن استأجرت منك أرضاً بكذا وكذا على أن على رب الأرض حرثها أيجوز هذا في قول مالك؟ قال: يجوز”([24]).
فهذه النصوص تدل بوضوح أن باب الشروط في الإجارة واسع، وأن اشتراط الصيانة على المستأجر من ماله، أو من الأجرة جائز.
مخرج عند من لا يجيز ذلك:
بعض الفقهاء منهم الحنفية لم يجيزوا اشتراط المرمة على المستأجر، حتى لو اشترطها عليه فسدت الإجارة وقالوا: إن هذا شرط مخالف لمقتضى العقد، وأنه يؤدي إلى الجهالة([25])، وهكذا الشافعية حيث لم يجيزوا اشتراط العمارة على المستأجر([26])، ولكنهم أجازوا أن يشترط المؤجر مبلغاً زائداً على الأجرة للترميم بأن يقول: أجرتك داري كل شهر بعشرين ديناراً، وعشرة دراهم للترميم، وأذن له أن ينفقها عليه فهو جائز، لأنه معلوم المقدار ووكله في ذلك، جاء في الفتاوى: قال محمد: الأصل أن شرط المرمة على المستأجر يجعل الإجارة فاسدة، لأن قدر المرمة يصير أجراً وأنه مجهول، وإن أراد الحيلة فالحيلة أن ينظر إلى قدر ما يحتاج إليه في المرمة، ويضم ذلك إلى الأجرة، ثم يأمر صاحب الحمام المستأجر بصرف ما ضم إلى الأجر للمرمة إلى المرمة حتى إذا كان الأجر عشرة والقدر المحتاج إليه للمرمة أيضاً عشرة فصاحب الحمام يؤجر منه بعشرين، ويأمره بصرف العشرة إلى المرمة فيصير المستأجر وكيلاً من جهة صاحب الحمام بالإنفاق عليه من ماله، وأنه معلوم فيجوز”([27]).
إذن دون اشتراط:
ذكر بعض الفقهاء أن المؤجر لو أذن للمستأجر أن يقوم بالصيانة على نفقته، بأن يقول: أجرتك هذه الطائرة، أو السيارة، أو الباخرة، وأذنت لك بصيانتها كلما احتاجت إلى ذلك على حسابك الخاص دون أن ترجع عليّ بشيء، لصح ذلك، وأصبح المستأجر متبرعاً بما ينفقه عليها فلا يكون له حق الرجوع على المؤجر، وذكر البهوتي أن شرط التعمير لا يجوز للجهالة لكن الإذن بذلك جائز([28]).