حكم العمل والتعامل مع شركات التأمين العاملة في الغرب :

    وبما أن شركات التأمين العاملة في الغرب إما شركات تجارية ، أو تعاونية من التعاون المركب ، لذلك سنتحدث عن هذين النوعين :

 التأمين التجاري : 

  وهو أكثر أنواع التأمين اشتهاراً في الغرب ، وهو يقوم بصورته الحالية على الفكر الرأسمالي ( الاسترباحي ) من خلال التأمين ، حيث إن شركة التأمين تجعل عمليات التأمين نفسها محلاً للاسترباح ، لأن الفرق بين قيمة الأقساط ، وقية التعويضات يكون لصالح الشركة فقط في حين أن هذا الفرق في التأمين التعاوني يبقى في حساب المشتركين[1].

  وقد سبق أن بينا أن القوانين متفقة على تكييف التأمين التجاري بأنه : عقد ملزم قائم على المعاوضة والغرر .

  ولذلك صدرت قرارات من المجامع الفقهية بحرمة التأمين التجاري ، وإباحة التأمين التعاوني ، منها قرار المجمع الفقهي الاسلامي التابع لرابطة العالم الاسلامي في دورته الأولى في 10 شعبان 1398هـ بمكة المكرمة حيث قرر بالاجماع ـ ما عدا الشيخ مصطفى الزرقا ـ حرمة التأمين التجاري بجميع أنواعه ، تأكيداً لقرار مجلس هيئة كبار العلماء بالسعودية في دورته العاشرة بالرياض في 4/4/1397هـ قرار رقم 51، 52 .

  كذلك نص مجمع الفقه الاسلامي الدولي في قراره رقم (9/ (9/2) على أن : ( عقد التأمين التجاري ذي القسط الثابت الذي تتعامل به شركات التأمين التجاري عقد فيه غرر كبير مفسد للعقد ، ولذا فهو حرام شرعاً )[2] .

  وقد اعتمدت هذه القرارات والآراء الفقهية السابقة في تحريمها للتأمين التجاري على مجموعة من الأدلة ، من أهمها بإيجاز :

  1. إن التأمين التجاري وهو عقد معاوضة يشتمل على الغرر المنهي عنه في الحديث الصحيح ، حيث نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر [3].

  2. أن التأمين التجاري يتضمن الرهان والمقامرة ، وخصائصهما[4] .

  3. تحقق الربا فيه بنوعيه : الفضل والنسيئة[5] .

  4. إنه أكل لأموال الناس بالباطل[6] .

 مناقشة جماعية :

  ومن الجدير  بالتنبيه عليه أن المجمع الفقهي الإسلامي في دورته الأولى المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة 10ـ 17 شعبان 1398هـ ، ذكر حكم التأمين التجاري ، وردّ على أدلة المجيزين ، وناقشها مناقشة علمية ، لذلك نذكرها بالكامل لأهميتها وشموليتها وهي : ( أما بعد ….. فإن مجمع الفقه الإسلامي قد نظر في موضوع التأمين بأنواعه المختلفة بعد ما اطلع على كثير مما كتبه العلماء في ذلك وبعدما اطلع أيضاً على ما قرره مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في دورته العاشرة المنعقدة بمدنية الرياض بتأريخ 4/4/1397هـ . من التحريم للتأمين بأنواعه . 

  وبعد الدراسة الوافية وتداول الرأي في ذلك قرر المجلس بالأكثرية تحريم التأمين بجميع أنواعه سواء كان على النفس أو البضائع التجارية أو غير ذلك من الأموال .

 كما قرر مجلس المجمع بالاجماع الموافقة على قرار مجلس هيئة كبار العلماء من جواز التأمين التعاوني بدلاً من التأمين التجاري المحرم والمنوه عنه آنفاً وعهد بصياغة القرار إلى لجنة خاصة .

تقرير اللجنة المكلفة بإعداد قرار مجلس المجمع حول التأمين :

 بناءً على قرار مجلس المجمع المتخذ بجلسة الأربعاء 14 شبعان 1398هـ المتضمن تكليف كل من أصحاب الفضيلة الشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ محمد محمود الصواف والشيخ محمد بن عبدالله السبيل بصياغة قرار مجلس المجمع حول التأمين بشتى أنواعه وأشكاله .

 وعليه فقد حضرت اللجنة المشار إليها وبعد المداولة أقرت ما يلي :

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه .

أما بعد : فإن المجمع الفقهي الإسلامي في دورته الأولى المنعقدة في 10 شعبان 1398هـ بمكة المكرمة بمقر رابطة العالم الإسلامي نظر في موضوع التأمين بأنواعه بعدما ما اطلع على كثير مما كتبه العلماء في ذلك وبعد ما اطلع أيضاً على ما قرر مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في دورته العاشرة بمدينة الرياض بتأريخ 4/4/1397هـ  . بقرار رقم 55 من التحريم للتأمين التجاري بأنواعه .

 وبعد الدراسة الوافية وتداول الرأي في ذلك قرر مجلس المجمع الفقهي  بالاجماع عدا فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا تحريم التأمين التجاري بجميع أنواعه سواء كان على النفس أو البضائع التجارية أو غير ذلك للأدلة الآتية :

الأول : عقد التأمين التجاري من عقود المعاوضات المالية الاحتمالية المشتملة على الغرر الفاحش ، لأن المستأمن لا يستطيع ان يعرف وقت العقد مقدار ما يعطي أو يأخذ فقد يدفع قسطاً او قسطين ، ثم تقع الكارثة فيستحق ما التزم به المؤمن ، وقد لا تقع الكارثة أصلاً فيدفع جميع الأقساط ولا يأخذ شيئاً وكذلك المؤمن لا يستطيع أن يحدد ما يعطي ويأخذ النسبة لكل عقد بمفرده ، وقد ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن بيع الغرر . 

الثاني : عقد التأمين التجاري ضرب من ضروب المقامرة لما فيه من المخاطرة في معاوضات مالية ، ومن الغرم بلا جناية أو تسبب فيه ، ومن الغنم بلا مقابل غير مكافئ فإن المستأمن قد يدفع قسطاً من التأمين ثم يقع الحادث فيغرم المؤمن كل مبلغ التأمين ، وقد لا يقع الخطر ومع ذلك يغنم  المؤمن أقساط التأمين بلا مقابل ، وإذا استحكمت فيه الجهالة كان قماراً ودخل في عموم النهي عن الميسر في قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) والآية بعدها .

الثالث : عقد التأمين التجاري يشتمل على ربا الفضل والنسأ فإن الشركة إذا دفعت للمستأمن أو لورثته أو للمستفيد أكثر مما دفعه من النقود لها فهو ربا فضل ، والمؤمن يدفع ذلك للمستأمن بعد مدة فيكون ربا نسأ ، وإذا دفعت الشركة للمستأمن مثل ما دفعه لها يكون ربا نسأ فقط وكلاهما محرم بالنص والاجماع .

الرابع : عقد التأمين التجاري من الرهان المحرم لأن كلاً منهما فيه جهالة وغرر ومقامرة ولم يبح الشرع من الرهان إلاّ ما فيه نصرة للإسلام وظهور لأعلامه بالحجة والسنان وقدر حصر النبي صلى الله عليه وسلم رخصة الرهان بعوض في ثلاثة بقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا سبق إلاّ في خف او حافر أو نصل ) وليس التأمين منذ لك ولا شبيهاً به فكان محرماً . 

الخامس : عقد التأمين التجاري فيه أخذ مال الغير بلا مقابل ، وأخذ بلا مقابل في عقود المعاوضات التجارية محرم لدخوله في عموم النهي في قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ ان تكون تجارة عن تراض منكم) .

السادس : في عقد التأمين التجاري الإلزام بما لا يلزم شرعاً فإن المؤمن لم يحدث الخطر منه ، ولم يتسبب في حدوثه ، وإنما كان منه مجرد التعاقد مع المستأمن على ضمان الخطر على تقدير وقوعه مقابل مبلغ يدفعه المستأمن له والمؤمن لم يبذل عملاً للمستأمن فكان حراماً .

 وأما ما استدل به المبيحون للتأمين التجاري مطلقاً أو في بعض أنواعه فالجواب عنه ما يلي :

أ ـ الاستدلال بالاستصلاح غير صحيح فإن المصالح في الشريعة الإسلامية ثلاثة أقسام قسم شهد الشرع باعتباره فهو حجة ، وقسم سكت عنه الشرع فلم يشهد له بإلغاء ولا اعتبار فهو مصلحة مرسلة وهذا محل اجتهاد المجتهدين ، والقسم الثالث ما شهد الشرع بإلغائه ، وعقود التأمين التجاري فيها جهالة وغرر وقمار وربا فكانت مما شهدت الشريعة بإلغائه لغلبة جانب المفسدة فيه على جانب المصلحة .

ب ـ الإباحة الأصلية لا تصلح دليلاَ هنا لأن عقود التأمين التجاري قامت الأدلة على مناقضتها لأدلة الكتاب والسنة ، والعمل بالإباحة الأصلية مشروط بعدم المناقل عنها وقد وجد فبطل الاستدلال بها .

ج ـ الضرورات تبيح المحظورات لا يصح الاستدلال به هنا ، فإن ما أباحه الله من طريق كسب الطيبات أكثر أضعافاً مضاعفة مما حرمه عليهم فليس هناك ضرورة معتبرة شرعاً تلجئ إلى ما حرمته الشريعة من التأمين .

د ـ لا يصح الاستدلال بالعرف فإن العرف ليس من أدلة تشريع الأحكام ، وإنما يبنى عليه في تطبيق الأحكام وفهم المراد من ألفاظ النصوص ومن عبارات الناس في أيمانهم ، وتداعيهم وإخبارهم وسائر ما يحتاج إلى تحديد لمقصود منه من الأفعال والأقوال ، فلا تأثير له فيما تبين أمره وتعين المقصود منه ، وقد دلت الأدلة دلالة واضحة على منع التأمين فلا اعتبار به معها .

هـ ـ الاستدلال بأن عقود التأمين التجاري من عقود المضاربة أو في معناه غير صحيح ، فإن رأس المال في المضاربة لم يخرج عن ملك صاحبه ، وما يدفعه المستأمن يخرج بعقد التأمين من ملكه إلى ملك الشركة حسبما يقضي به نظام التأمين ، وإن رأس مال المضاربة يستحقه ورقة مالكه عند موته ، وفي التأمين قد يستحق الورثة نظاماً مبلغ التأمين ولو لم يدفع مورثهم إلاّ قسطاً واحداً ، وقد لا يستحقون شيئاً إذا جعل المستفيد سوى المستأمن وورثته ، وإن الربح في المضاربة يكون بين الشريكين نسباً مئوية مثلاً بخلاف التأمين فربح رأس المال وخسارته للشركة وليس للمستأمن إلاّ مبلغ التأمين أو مبلغ غير محدد .

و ـ قياس عقود التأمين على ولاء الموالاة عند من يقول به غير صحيح ، فإنه قياس مع الفارق ، ومن  الفروق بينهما أن عقود التأمين هدفها الربح المادي المشوب بالغرر والقمار وفاحش الجهالة بخلاف عقد ولاء الموالاة فالقصد الأول فيه التآخي في الإسلام ، والتناصر والتعاون في الشدة والرخاء وسائر الأحوال ، وما يكون من كسب مادي فالقصد إليه بالتبع .

ز ـ قياس عقد التأمين التجاري على الوعد الملزم عند من يقول به لا يصح لأنه قياس مع الفارق ، ومن الفروق أن الوعد بقرض أو إعارة أو تحمل خسارة مثلاً من باب المعروف المحض فكان الوفاء به واجباً ، أو من مكارم الخلاق ، وبخلاف عقود التأمين فإنها معاوضة تجارية باعثها الربح المادي ، فلا يغتفر في التبرعات من الجهالة والغرر .

ح ـ قياس عقود التأمين التجاري على ضمان المجهول وضمان ما لم يجب قياس غير صحيح لأنه قياس مع الفارض لا أيضاً ، ومن الفروق أن الضمان نوع من التبرع يقصد به الإحسان المحض بخلاف التأمين فإنه عقد معاوضة تجارية يقصد منها أولاً الكسب المادي ، فإن ترتب عليه معروف فهو تابع غير مقصود إليه ، والأحكام يراعى فيها الأصل لا التابع ما دام تابعاً غير مقصود إليه .

ط ـ قياس عقود التأمين التجاري على ضمان خطر الطريق لا يصح فإنه قياس مع الفارق كما سبق في الدليل قبله .

ي ـ قياس عقود التأمين التجاري على نظام التقاعد غير صحيح فإنه قياس مع الفارق أيضاً لأن ما يعطى من التقاعد حق التزم به ولي الأمر باعتباره مسئولاً عن رعيته ، وراعى في صرفه ما قام به الموظف من خدمة الأمة ، ووضع له نظاماً راعى فيه مصلحة أقرب الناس إلى الموظف ، ونظر إلى مظنة الحاجة فيهم ، فليس نظام التقاعد من باب المعاوضات المالية بين الدولة وموظفيها ، وعلى هذا لا شبه بينه وبين التأمين الذي هو من عقود المعاوضات المالية التجارية التي يقصد بها استغلال الشركات للمستأمنين والكسب من ورائهم بطرق غير مشروعة ، لأن ما يعطى في حالة التقاعد يعتبر حقاً التزم به من حكومات مسؤولة عن رعيتها ، وتصرفها لمن قام بخدمة الأمة كفاء لمعروفه وتعاوناً معه جزاء تعاونه معها ببدنه وفكره وقطع الكثير من فراغه في سبيل النهوض معها بالأمة .

ك ـ قياس نظام التأمين التجاري وعقوده على نظام العاقلة لا يصح فإنه قياس مع الفارق ، ومن الفروق أن الأصل في تحمل العاقلة لدية الخطأ وشبه العمد ما بينهم وبين القاتل خطأ أو شبه عمد من الرحم والقرابة التي تدعو إلى النصرة والتواصل والتعاون واسداء المعروف واو دون مقابل ، وعقود التأمين التجارية استغلالية تقوم على معاوضات مالية محضة لا تمت إلى عاطفة الإحسان وبواعث المعروف بصلة .

ل ـ قياس عقود التأمين التجاري على عقود الحراسة غير صحيح لأنه قياس مع الفارق أيضاً ، ومن الفروق أن الأمان ليس محلاً للعقد في المسألتين وإنما محله في التأمين الأقساط ومبلغ التأمين ، وفي الحراسة الأجرة وعمل الحارس ، أما الأمان فغاية ونتيجة وإلاّ لما استحق الحارس الأجرة عند ضياع المحروس .

م ـ قياس التأمين على الإيداع لا يصح لأنه قياس مع الفارق أيضاً ، فإن الأجرة في الإيداع عوض عن قيام الأمين بحفظ شيء في حوزته يحوطه بخلاف التأمين فإن ما يدفعه المستأمن لا يقابله عمل من المؤمن ويعود إلى المستأمن بمنفعة إنما هو ضمان الأمن والطمأنينة ، وشرط العوض عن الضمان لا يصح بل هو مفسد للعقد ، وإن جعل مبلغ التأمين في مقابلة الأقساط كان معاوضة تجارية جهل فيها مبلغ التأمين أو زمنه فاختلف عن عقد الإيداع بأجر .

ن ـ قياس التأمين على ما عرف بقضية تجار البز مع الحاكة لا يصح ، والفرق بينهما أن المقيس عليه من التأمين التعاوني وهو تعاون محض والمقيس تأمين تجاري وهو معاوضات  تجارية فلا يصح القياس ) انتهى قرار المجمع .

الخلاصة :            

 وبهذا العرض تبين لنا أن التأمين التجاري بصورته الراهنة غير جائز شرعاً ، وأن عقده باطل ، لأنه يقوم على الغرر ونحوه من المخالفات الشرعية . 

 

حكم التعامل والتعاقد مع شركات التأمين التجاري :

  فعلى ضوء ما سبق إن التعاقد أو التعامل مع شركات التأمين التجاري حرام حسبما صدرت به قرارات المجامع الفقهية ـ كما سبق ـ .

  وهذا هو الأصل العام ولكنه أجيز استثناءً التعامل والتعاقد معها في حالات وجود قوانين ملزمة بالتأمين ، أو الحاجات العامة الملحة ـ كما هو الحال في بالنسبة للبنوك الاسلامية التي أجازت هيئاتها الشرعية منذ تأسيسها القيام بالتأمين التجاري على السلع والبضائع المستوردة أو المصدرة لسببين :

أحدهما : أن الحاجات العامة تنزل منزلة الضرورة ، حيث إن البنوك الاسلامية في حالات المرابحات هي التي تشتري ، وتتحمل هي المخاطر ، وبما أن مخاطر الخسارة في حالة عدم التأمين كبيرة ولها آثار سلبية جداً على البنوك الاسلامية والمتعاملين معها أجازت هيئاتها الشرعية التأمين عليها من أي شركة كانت إلى أن يتوافر التأمين الاسلامي .

السبب الثاني : عدم وجود شركات التأمين الاسلامي ، حيث لم تكن متوافرة في البداية ، ثم وجدت شركات لا تكفي ، ولكن اليوم كثرت ـ والحمد لله ـ  .

تعامل المسلمين في الغرب مع التأمين التجاري :

  فالأصل كما قلنا هو عدم الجواز لما ذكرناه ، ولكن بما أن الأقلية الاسلامية لا تجد شركات التأمين الاسلامي في بلادها ، أو أنها موجودة بندرة فإنها يجوز لها التعامل معها في الحالات الآتية :

  1. وجود قانون ملزم يفرض على أيّ مواطن أو مقيم التأمين .

  2. وجود حاجة ملحة إلى التأمين لدفع الحرج والمشقة .

  وقد صدر في ذلك قرار رقم (7/6) من المجلس الأوربي للافتاء والبحوث نذكر نصه لأهميته :

(قرار المجلس:  ناقش المجلس البحث والأوراق المقدمة إليه في موضوع التأمين وما يجري عليه العمل في أوربا، واطَّلع عل ما صدر عن المجامع الفقهية والمؤتمرات والندوات العلمية بهذا الشأن، وانتهى إلى ما يلي:

أولاً: مع مراعاة ما ورَد في قرارات بعض المجامع الفقهية من حرمة التأمين التجاري (الذي يقوم على أساس الأقساط الثابتة دون أن يكون للمستأمن الحق في أرباح الشركة أو التحمل لخسائرها) ومشروعية التأمين التعاوني (الذي يقوم على أساس التعاون المنظم بين المستأمنين، واختصاصهم بالفائض – إن وجد- مع اقتصار دور الشركة على إدارة محفظة التأمين واستثمار موجوداتها)، فإن هناك حالات وبيئات تقتضي إيجاد حلول لمعالجة الأوضاع الخاصة، وتلبية متطلباتها، ولاسيما حالة المسلمين في أوروبا حيث يسود التأمين التجاري، وتشتد الحاجة إلى الاستفادة منه لدرء الأخطار التي يكثر تعرضهم لها في حياتهم المعاشية بكل صورها، وعدم توافر البديل الإسلامي (التأمين التكافلي) وتعسر إيجاده في الوقت الحاضر، فإن المجلس يفتي بجواز التأمين التجاري في الحالات التالية وما يماثلها:

(1) حالات الإلزام القانوني، مثل التأمين ضد الغير على السيارات والآليات والمعدات، والعمال والموظفين (الضمان الاجتماعي، أو التقاعد)، وبعض حالات التأمين الصحي أو الدراسي ونحوها.

(2) حالات الحاجة إلى التأمين لدفع الحرج والمشقة الشديدة، حيث يغتفر معها الغرر القائم في نظام التأمين التجاري.

ومن أمثلة ذلك:

  1. التأمين على المؤسسات الإسلامية: كالمساجد، والمراكز، والمدارس، ونحوها.

  2. التأمين على السيارات والآليات والمعدات والمنازل والمؤسسات المهنية والتجارية، درءاً للمخاطر غير المقدور على تغطيتها، كالحريق والسرقة وتعطل المرافق المختلفة.

  3. التأمين الصحي تفاديًا للتكاليف الباهظة التي قد يتعرض لها المستأمن وأفراد عائلته، وذلك إما في غياب التغطية الصحية المجانية، أو بطئها، أو تدني مستواها الفني.

ثانيًا: إرجاء موضوع التأمين على الحياة بجميع صوره لدورة قادمة لاستكمال دراسته.

ثالثاً: يوصي المجلس أصحاب المال والفكر بالسعي لإقامة المؤسسات المالية الإسلامية كالبنوك الإسلامية، وشركات التأمين التكافلي الإسلامي ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً ) [7].

العمل في شركات التأمين التجاري :

    فما دامت حرمة التأمين التجاري قد تقررت حسب قرارات المجامع الفقهية السباقة ، فإن الأصل العام في العمل في شركات التأمين التجاري هو عدم الجواز .

ولكن يستثنى من هذا الأصل ثلاث حالات :

الحالة الأولى : حالة الضرورة أو الحاجة الملحة بأن لا يجد الشخص في مجال تخصصه أي عمل ، أو أي عمل مناسب يستطيع أن يعيش هو وعياله عليه عيش الكفاف سوى العمل بشركات التأمين التجاري ففي هذه الحالة يجوز ، لأن ما يتعلق بالغرر يجوز الاستثناء منه بالحاجة العامة ، أو الحاجة الملحة في حين أن ما يتعلق بالربا لا يجوز الاستثناء منه إلاّ بالضرورة ، وهذه قاعدة أصَّلها شيخ الاسلام ابن تيمية ، حيث قال في التفرقة بين حرمة الربا ، وحرمة الغرر : ( وأما الربا فتحريمه في القرآن أشدّ ـ أي من الغرر ـ ) ثم ذكر الأدلة على ذلك من المنقول والمعقول ، ثم قال : 0 ومفسدة الغرر أقل من الربا ، فلذلك رخص فيما تدعو إليه الحاجة منه……) ثم ذكر أدلة على جواز الاستثناء من الغرر للحاجة بالسنة النبوية المشرفة ، وضرب لذلك أمثلة منها بيع العرايا[8] .

   ويقول أيضاً في موازنة رائدة ورائعة : (وإذا كانت مفسدة بيع الغَرَر هي كونه مظنة العداوة والبغضاء وأكل الأموال بالباطل، فمعلوم أن هذه المفسدة إذا عارضتها المصلحة الراجحة قدمت عليها، كما أن السباق بالخيل والسهام والإبل‏.‏ لما كان فيه مصلحة شرعية جاز بالعوض، وإن لم يجز غيره بعوض‏.‏ وكما أن اللهو الذي يلهو به الرجل إذا لم يكن فيه منفعة، فهو باطل، وإن كان فيه منفعة ـ وهو ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏(‏كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته امرأته، فإنهن من الحق‏)[9]‏ ـ صار هذا اللهو حقًا‏.‏

ومعلوم أن الضرر على الناس بتحريم هذه المعاملات أشد عليهم مما قد يتخوف فيها من تباغض، وأكل مال بالباطل؛ لأن الغرر فيها يسير كما تقدم، والحاجة اليها ماسة، والحاجة الشديدة يندفع بها يسير الغرر‏.‏ والشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضتها حاجة راجحة أبيح المحرم، فكيف إذا كانت المفسدة منتفية‏؟‏‏!‏ ولهذا لما كانت الحاجة داعية إلى بقاء الثمر بعد البيع على الشجر إلى كمال الصلاح، أباح الشرع ذلك، وقاله جمهور العلماء‏.‏ كما سنقرر قاعدته إن شاء الله تعالى‏ )[10] .

الحالة الثانية : أن يكون الشخص متخصصاً في التأمين ، وهو خريج جديد ، ولا يجد عملاً مناسباً في تخصصه ، حيث يجوز له عند بعض المعاصرين منهم العلامة الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله ، أن يعمل في شركات التأمين التجاري بشرطين اثنين :

  1. ان يقصد بعمله فيها كسب الخبرات .

  2. أن يسعى للحصول على مكان مناسب وحينئذ يخرج فوراً .

الحالة الثالثة : أن يدخل في إحدى هذه الشركات وهو قادر بنفسه أو مع غيره على تحويلها إلى شركة إسلامية .

 

حكم العمل ، أو التعامل مع شركات التأمين التعاوني المركب :

    إن شركات التأمين التعاوني الموجودة في الدول الاسكندنافية ، وبعض الدول الغربية الأخرى ، وروسيا ، مشروعة من حيث المبدأ ، لأنها تقوم على أساس التعاون وليس فيها المعاوضة الحقيقية حتى يؤثر فيها الغرر المنهي عنه ، وذلك لأن المشتركين يدفعون حصصهم ، أو اشتراكاتهم في حساب خاص ، ثم تصرف المصاريف الادارية والتعويضات من هذا الحساب ، فتكون النتيجة هي أن المؤمّن هو نفس المؤمّن عليه من حيث المآل فالأموال منهم وإليهم ، ولذلك صدرت قرارات من المجامع الفقهية  بأنها مشروعة ـ كما سبق ـ .

  ولكن هذه الشركات تدار في الغرب دون مراعاة الضوابط الشرعية ، وبخاصة فيما يتعلق بالربا والفوائد البنكية ، فهي تجعل كل أموالها الزائدة عن المصاريف والتعويضات في البنوك الربوية إلاّ إذا قامت هي باستثمار أموالها بطرق مقبولة ، وأن هذا نادر ، وبالمقابل فإنها تتعامل أيضاً مع البنوك الربوية إن احتاجت إلى التمويل والتوسعة ، إضافة إلى شرائها سندات الدين المحرمة ، وباختصار فهي تتعامل مع البنوك الربوية إقراضاً واقتراضاً ، وقد ينص نظامها الأساس على هذا التعامل .

  ومن هنا أتت الحرمة إلى هذه الشركات ، ولكنها مع ذلك فهي أقل من شركات التأمين التجاري لأن شركات التأمين التجاري إضافة إلى أن أهم أغراضها الاسترباح بالتأمين القائم على الغرر إنها أيضاً تتعامل إقراضاً واقتراضاً مع البنوك الربوية .

  ولذلك فحكم شركات التأمين التعاوني هو حكم الشركات التي أصل نشاطها حلال ، ولكنها تتعامل مع البنوك الربوية إقراضاً واقتراضاً حيث اختلف فيها المعاصرون .

  فمنهم من حرم التعامل معها مطلقاً ، ومنهم من أجازها ، ومنهم من فصّل القول فيها ، فاجازها بشروط ، وهذا ما عليه عدد من الباحثين المعاصرين ، وأجازه المعيار الشرعي لهيئة المحاسبة والمراجعة حيث جاء في البند 3/4 : المساهمة أو التعامل (الاستثمار والمتاجرة ) في أسهم شركات أصل نشاطها حلال ، ولكنها تودع او تقترض بفائدة :

الأصل حرمة المساهمة والتعامل ( الاستثمار أو المتاجرة ) في أسهم شركات تتعامل أحياناً بالربا أو نحوه من المحرمات مع كون أصل نشاطها مباحاً ، ويستثنى من هذا الحكم المساهمة أو التعامل ( الاستثمار أوالمتاجرة ) بالشروط الآتية :   

  • 3/4/1   أن لا تنص الشركة في نظامها الأساسي أن من أهدافها التعامل بالربا ، أو التعامل بالمحرمات كالخنزير ،