أحكام الأسهم وأنواعها على ضوء قواعد الفقه الإِسلامي[1]
تمهيد:
أولى الإِسلام عناية كبرى بالمال من جميع جوانبه، فشجع على الكسب والاستثمار والتداول، وحرّم الاكتناز وحبس الأموال: {كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[2] وسمّى المال بــ (الخير) في آيات كثيرة، بل جعله قيامًا للفرد والمجتمع، بحيث لا يقومان ولا ينهضان إلا به حيث يقول الله تعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً}[3].
وقد فهم المحققون من علمائنا الأجلاء هذه الدلالات الرائعة فبنوا عليها قواعد وأصولاً في العقود والمعاملات والتصرفات، وقالوا: الأصل فيها الحل والإِباحة، بحيث لا تحتاج في حلها إلى دليل خاص، وإنما يكتفى بهذا الأصل العام. بينما الحظر فيها يحتاج إلى دليل.
ومن هذا المنطلق أيضًا كان بحثنا للأسهم بجميع أنواعها وتقسيماتها للوصول إلى ما تطمئن إليه النفوس من الأحكام الشرعية الخاصة بها معتمدين في ذلك على النصوص العامة للكتاب والسنة، ثم على أقوال الفقهاء التي يمكن أن تكون سندًا لما نقول، ولم نأْلُ جهدًا في البحث والتنقيب، وذكر الاراء والأدلة والمناقشة والترجيح ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً. والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل.
التعريف بالأسهم لغة واصطلاحًا :
الأسهم هي جمع سهم، وهو لغة له عدة معانٍ منها؟ النصيب، وجمعه: (السهمان) بضم السين، ومنها العود الذي يكون في طرفه نصل يرمي به عن القوس، وجمعه، السهام، ومنها: القدح الذي يقارع به، أو يلعب به في الميسر، ويقال: أسهم بينهم أي أقرع، وساهمه أي باراه ولاعبه فغلبه، وساهمه أي قاسمه وأخذ سهمًا، أي نصيبًا، جاء في المعجم الوسيط: (ومنه شركة المساهمة)[4]، وفي القرآن الكريم: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ}[5]، أي قارع بالسهام فكان من المغلوبين[6].
والاقتصاديون يطلقون السهم مرة على الصك، ومرة على النصيب، والمؤدى واحد.
فبالاعتبار الأول قالوا: السهم هو: صك يمثل جزءًا من رأس مال الشركة، يزيد وينقص تبع رواجها.
وبالاعتبار الثاني قالوا: السهم هو نصيب المساهم في شركة من شركات الأموال، أو الجزء الذي ينقسم على قيمته مجموع رأس مال الشركة المثبت في صك له قيمة اسمية، حيث تمثل الأسهم في مجموعها رأس مال الشركة، وتكون متساوية القيمة[7].
وتتميز الأسهم بكونها متساوية القيمة، وأن السهم الواحد لا يتجزأ وأن كل نوع منها ــ عاديًا أو ممتازًا ــ يقوم ــ من حيث المبدأ ــ على المساواة في الحقوق والالتزامات وأنه قابل للتداول، ولكن بعض القوانين ــ مثل النظام السعودي ــ استثنى الأسهم المملوكة للمؤسسين؛ حيث لا يجوز تداولها قبل نشر الميزانية إلا بعد سنتين ماليتين كاملتين ــ كقاعدة عامة ــ ، كذلك لا يجوز تداول أسهم الضمان التي يقدمها عضو مجلس الإِدارة لضمان إدارته طوال مدة العضوية وحتى تنقضي المدة المحددة لسماع دعوى المسؤولية[8].
حكم تقسيم رأس مال الشركة :
ومن الجدير بالتنبيه عليه أن يقسم رأس مال الشركة إلى حصص وأجزاء، واشتراط الشروط السابقة لا يتنافى مع المبادىء العامة للشريعة الإِسلامية، والقواعد العامة للشركة في الفقه الإِسلامي، إذ ليس فيها ما يتنافى مع مقتضى عقد الشركة، بل فيها تنظيم وتيسير ورفع للحرج الذي هو من سمة هذه الشريعة، وداخل ضمن الوفاء العام بالعقود: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ …}[9]، وتحت قول الرسول صلى الله عليه وسلّم: «المسلمون عند شروطهم»[10]، وفي رواية: «… والمسلمون على شروطهم إلا شرطًا حرم حلالاً أو أحل حرامًا». قال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح)[11].
فهذه النصوص وغيرها تدل على أن كل مصالحة وكل شرط جائزان إلا ما دل الدليل على حرمته، وعلى أن الأصل فيهما هو الإِباحة، والحظر يثبت بدليل خاص، يقول شيخ الإِسلام ابن تيمية: (وهذا المعنى هو الذي يشهد عليه الكتاب والسنة…)[12].
ويقول أيضًا: (إن الأصل في الشروط الصحة واللزوم إلا ما دل الدليل على خلافه.. فإن الكتاب والسنة قد دلا على الوفاء بالعقود والعهود، وذم الغدر والنكث.. والمقصود هنا: أن مقتضى الأصول والنصوص: أن الشرط يلزم إلا إذا خالف كتاب الله..)[13].
ولا يخفى أن هذه القواعد السابقة تجعل الفقه الإِسلامي يقبل بكل عقد، أو تصرف، أو تنظيم مالي أو إداري ما دام لا يتعارض مع نصوص الكتاب والسنة، وقواعدها العامة، وأن الشريعة الغراء تجعل كـل حكمـة نافعـة ضالـة المؤمـن دون النظـر إلى مصدرها أو اسمها، وإنمـا الأسـاس معناهـا ومحتواهـا، ووسائلهـا وغاياتهـا، ومـا تحققـه من مصالح ومنافع.
خصائص الأسهم وحقوقها :
للأسهم عدة خصائص من أهمها: تساوي قيمتها حسبما يحددها القانون، وتساوي حقوقها، وكون مسؤولية كل مساهم بقدر قيمة أسهمه، وقابليتها للتداول، وعدم قابلية السهم للتجزئة.
وأما حقوق السهم، فهي: حق بقاء صاحبه في الشركة، وحق التصويت في الجمعية العمومية، وحق الرقابة، وحق رفع دعوى المسؤولية على الإِداريين، والحق في نصيب الأرباح، والاحتياطات، والتنازل عن السهم والتصرف فيه، والأولوية في الاكتتاب، وحق اقتسام موجودات الشركة عند تصفيتها[14].
حكم الأسهم باعتبار نشاطها ومحلها :
إن تقسيم رأس مال الشركة إلى حصص متساوية تسمّى بالأسهم جائز، ليس فيه أية مخالفة لمبادىء الإِسلام وقواعده.
وهنا نذكر بصورة عامة حكم تداول هذه الأسهم والتصرف فيها بالبيع والشراء وغيرهما بصورة عامة، ثم نذكر عند بيان كل نوع من الأسهم حكمه الخاص بإذن الله تعالى.
ومن الجدير بالتنبيه عليه أن بعض الباحثين[15] أطلقوا اختلاف العلماء المعاصرين حول الأسهم مطلقًا دون تفصيل من غير أن يجد منهم تصريحًا بذلك بل اعتمادًا على ما فهم من آرائهم في الشركات بصورة عامة[16].
وهذا الإِطلاق لا ينبغي الركون إليه، إذ أن لازم المذهب ليس بمذهب ــ كما هو مقرر في الأصول ــ كما أن جل نقاش هؤلاء العلماء في الشركات التي أنشئت في بلاد الإِسلام وليس في الشركات التي حدد نشاطها في المحرمات كالخنزير والخمور ونحوها[17].
تقسيم الأسهم باعتبار التحريم وخلافه :
ولذلك نقسم الأسهم إلى نوعين: نوع محرم تحريمًا بيّنًا، ونوع فيه النقاش والتفصيل والخلاف.
النوع الأول: أسهم شركاتٍ نشاطها في المحرمات واضح:
وهي أسهم الشركات التي يكون نشاطها في المحرمات كالخنزير، والخمور والمخدرات، والقمار ونحوها، والشركات التي يكون نشاطها محصورًا في الربا كالبنوك الربوية.
فهذه الأسهم جميعها لا يجوز إنشاؤها، ولا المساهمة في إنشائها، ولا التصرف فيها بالبيع والشراء ونحوهما، يقول ابن القيم: بعد أن ذكر الأحاديث الخاصة بحرمة بيع بعض الأشياء: (فاشتملت هذه الكلمات الجوامع على تحريم ثلاثة أجناس: مشارب تفسد العقول كالخمر، ومطاعم تفسد الطباع وتغذي غذاءً خبيثًا مثل الميتة والخنزير، وأعيان كالأصنام تفسد الأديان وتدعو إلى الفتنة والشرك. فصان بتحريم النوع الأول العقولَ عمّا يزيلها ويفسدها، وبالثاني القلوبَ عمّا يفسدها من وصول أثر الغذاء الخبيث إليها، وبالثالث الأديانَ عما وضع لإِفسادها)[18].
هذا هو المبدأ الذي لا يجوز تجاوزه، ولا ينبغي التوقف فيه.
النوع الثاني: أسهم شركاتٍ نشاطها في المحرمات غير واضح:
وهو ما سوى النوع الأول من الأسهمِ الحرامِ، وهو قسمان:
القسم الأول: أسهم لشركات قائمة على شرع الله تعالى:
حيث رأس مالها حلال، وتتعامل في الحلال، وينص نظامها وعقدها التأسيسي على أنها تتعامل في حدود الحلال، ولا تتعامل بالربا إقراضًا، واقتراضًا، ولا تتضمن امتيازًا خاصًا أو ضمانًا ماليًا لبعض دون آخر مما لا يجوز شرعًا.
فهذا النوع من أسهم الشركات ــ مهما كانت تجارية أو صناعية أو زراعية ــ من المفروض أن يفرغ الفقهاء إلى القول بحلها وحل جميع التصرفات الشرعية فيها، وذلك لأن الأصل في التصرفات والعقود المالية الإِباحة، ولا تتضمن هذه الأسهم أي محرم، وكل ما فيها أنها نظمت أموال الشركة حسبما تقتضيه قواعد الاقتصاد الحديث دون التصادم بأي مبدأ إسلامي.
ومع ذلك فقد أثير حول هذا النوع أمران:
* الأمر الأول: ما أثاره أحد الكتاب من أن هذه الأسهم جزء من النظام الرأسمالي الذي لا يتفق جملة وتفصيلاً مع الإِسلام، بل إن الشركات الحديثة ولا سيما شركات الأموال حرام لا تجوز شرعًا، لأنها تمثل وجهة نظر رأسمالية؛ فلا يصح الأخذ بها، ولا إخضاعها لقواعد الشركات في الفقه الإِسلامي[19].
وهذا الحكم العام لا يؤبه به، ولا يجنح إليه، فالإِسلام لا يرفض شيئًا لأنه جاء من النظام الفلاني، أو وجد فيه، وإنما الحكم في الإِسلام موضوعي قائم على مدى موافقته لقواعد الشرع، أو مخالفته، (فالحكمة ضالة المؤمن فهو أحق بها أنى وجدها)، وبما أن الأسهم القائمة على الحلال لا تتضمن مانعًا شرعيًا فلا يجوز القول بتحريمها ــ كما سبق ــ .
واستدل كذلك بأن الأسهم بمثابة سندات بقيمة موجودات الشركة، وهي تمثل ثمن الشركة وقت تقديرها، وليست أجزاء لا تتجزأ من الشركة، ولا تمثل رأس مالها عند إنشائها[20].
غير أن هذا الحكم والتصور للأسهم مجافٍ للحقيقة، والواقع الذي عليه الشركات المعاصرة، لأن الأسهم ليست سندات، وإنما هي حصص الشركة، وأن كل سهم بمثابة جزء لا يتجزأ من كيان الشركة، وأن مجموع الأسهم هي رأس مال الشركة[21].
كما قاس الأسهم على أوراق النقد حيث يهبط سعرها، ويرتفع، وتتفاوت قيمتها وتتغير، ومن هنا ينسلخ السهم بعد بدء الشركة عن كونه رأس مال، وصار ورقة مالية لها قيمة معينة.
والواقع أن هذا التكييف الفقهي للأسهم غير دقيق، وقياسها على الأوراق النقدية قياس مع الفارق، لأن الأسهم في حقيقتها هي حصص الشركة وأجزاء تقابل أصولها وموجوداتها، وهي إن كانت صكوكًا مكتوبة لكنها يُعنى بها ما يقابلها.
ومسألة الهبوط والارتفاع يختلف سببها في الأسهم عن سببها في النقود، فتغير قيمة الأسهم يعود إلى نشاط الشركة نفسها، حيث ترتفع عندما تزداد أرباحها، فتزداد معها موجودتها، وثقة الناس بها، وتنخفض عند الخسارة، ومثل ذلك كمثل شخص أو شركاء لهم سلع معينة فباعوها بأرباح جيدة فزادت نسبة مال كل واحد منهم بقدر الربح، وكذلك تنقص نسبة مال كل واحد منهم لو فقد منها بعضها، أو هلك، أو بيعت السلعة بخسارة، فهذا هو الأنموذج المصغر للأسهم في الشركات.
أما الورقة النقدية فيعود انخفاضها إلى التضخم، وسياسة الدولة في إصدار المزيد من الأوراق النقدية التي قد لا يوجد لها مقابل حقيقي، وغير ذلك من العوامل الاقتصادية، بينما السهم يمثل ذلك المبلغ الذي تحول إلى جزء من الشركة ممثل في أصولها وموجوداتها.
* الأمر الثاني: الذي أثير حول هذا النوع من الأسهم هو ما أثير حول شرائها، أو بيعها من ملحوظات ثلاث نذكرها مع الإِجابة عنها[22].
* الملحوظة الأولى: حيث لا يعلم المشتري علمًا تفصيليًا بحقيقة محتوى السهم.
للجواب عن ذلك نقول: إن الجهالة إنما تكون مانعة من صحة العقد إذا كانت مؤدية إلى النزاع، أو كما يعبر عنه الفقهاء بالجهالة الفاحشة[23] يقول الإِمام القرافي: (الغرر والجهالة ثلاثة أقسام: كثير ممتنع إجماعًا كالطير في الهواء، وقليل جائز إجماعًا كأساس الدار، ومتوسط اختلف فيه)[24].
ويقول شيخ الإِسلام ابن تيمية في بيع المغيبات كالجزر واللفت والقلقاس: (والأول ــ أي: القول بصحة بيعها، وهو مذهب مالك وقول لأحمد ــ أصح.. فإن أهل الخبرة إذا رأوا ما ظهر منها من الورق وغيره دلهم ذلك على سائرها، وأيضًا فإن الناس محتاجون إلى هذه البيوع، والشارع لا يحرم ما يحتاج الناس إليه من البيع لأجل نوع من الغرر، بل يبيح ما يحتاج إليه في ذلك، كما أباح بيع الثمار قبل بدو صلاحها مبقاة إلى الجذاذ وإن كان بعض المبيع لم يخلق… وأباح بيع العرايا بخرصها فأقام التقدير بالخرص مقام التقدير بالكيل عند الحاجة مع أن ذلك يدخل في الربا الذي هو أعظم من بيع الغرر، وهذه قاعدة الشريعة، وهو تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما)[25].
ويقول الأستاذ الصديق الضرير: (الغرر الذي يؤثر في صحة العقد هو ما كان في المعقود عليه أصالة، أما الغرر في التابع.. فإنه لا يؤثر في العقد)[26].
فالواقع أن المشتري يعلم علمًا إجماليًا كافيًا بقيمة السهم، وما يقابله من الموجودات من خلال نشر الميزانية ونشاط الشركة ونحو ذلك، وهذا العلم يكفي لصحة البيع بالإِضافة إلى أن العلم في كل شيء بحسبه.
ثم إن بيع الحصص المشاعة جائز بالاتفاق، يقول شيخ الإِسلام ابن تيمية: (يجوز بيع المشاع باتفاق المسلمين، كما مضت بذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم…)[27]، ويقول ابن قدامة: (وإن اشترى أحد الشريكين حصة شريكه جاز، لأنه يشتري ملك غيره، وكذلك الأمر لو باعه لأجنبـي، وكذلك الأ