رسالة خالصة من القره داغي إلى شعبنا الكوردي يدعو فيها إلى ضرورة الوحدة والابتعاد عن كل ما يفرقهم، حتى ولو كانت تحت غطاء اجتهادات دينية. وهذه نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وبعد
رسالة خالصة إلى شعبنا الكوردي حول :
ضرورة وحدة الشعب والابتعاد عن كل ما يفرقهم ، حتى ولو كانت تحت غطاء اجتهادات دينية
إنني بدافع إيماني بعيداً عن الأهواء والمصالح ، ونابع عن الحبّ لشعبنا الطيب الذي ظُلم كثيراً وهيمن عليه الأعداء الظلمة ومزقوه في العصر الحديث بسبب التفرق والاختلافات ، أوجه إليهم هذه الرسالة عن خبرة ووعي وتجربة :
أولاً – إن الوحدة فريضة شرعية من أولى رتب الفرائض فلا يجوز أن يقدم عليها شيء من المصالح الحزبية والعشائرية ، بل لا يقاومها شرعاً الاجتهادات الدينية مهما علا أصحابها ما دامت تفرق المجتمع المسلم فقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) [الأنعام : 159] وفي قراءة حمزة والكسائي ( فارقوا دينهم ) أي أنهم أخذوا من الدين ما يحلو لهم وفارقوا الباقي ، وقد نزلت هذه الآية الكريمة في اليهود والنصارى الذين اختلفوا ومزقوا دينهم فتحول دينهم إلى أديان مختلفة متناحرة متنافرة ، ولكن فيها الدلالة الواضحة على أن الأمة الإسلامية إذا فعلوا مثلهم فتنطبق عليهم الآية ، ولذلك قال ابن عباس وأبو أمامة رضي الله عنهم : ( هم الخوارج ) ، والظاهر – كما قال أئمة التفسير مثل الطبري وابن كثير – أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفاً له فإن الله تعالى بعث (رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ، وهذا يعني أن الدين في ثوابته وأصوله واحد وأن شريعته في كلياتها ومبادئها واحدة ، فمن اختلف في أصول هذا الدين (وَكَانُواْ شِيَعاً) أي فرقاً كأهل الملل والنحل فإن الله ورسوله بريئان منهم .
فكما لا يجوز تمزيق الأمة تحت غطاء العلمانية ونحوها فكذلك لا يجوز تفريق الأمة باسم الدين من أجل الأمور الاجتهادية كما يحدث اليوم من بعض المتشددين الذين يكفرون المسلمين لأدنى سبب ، ويفسقونهم بدون دليل أو بدليل اجتهادي ، فهم خوارج هذا العصر حكموا على من خالفهم في اجتهادهم بالكفر والفسق ، ليبيحوا دماءهم ، فانطلقوا من التكفير إلى التفجير ، يقول ابن عمر – كما في صحيح البخاري – : ( ينزلون الآيات التي نزلت في الكفرة على المؤمنين ) ، كما أنهم وسعوا دائرة البدعة لتشمل معظم مظاهر الحياة ، مع أن البدعة المحرمة هي زيادة عبادة ليس لها أصل حتى لا ينشغل المسلم إلاّ بما حدد له الشرع الشريف ، بل ينشغل بالتعمير والتنمية وخدمة البلاد والعباد حيث خلق الله الإنسان لعبادته بالمعنى الشامل للشعائر والعمل والتعمير ، وجعل رسالته الأساسية هي التعمير ، وهي تقتضي الإبداع والتجديد والتطوير المستمر .
وكما أن الوحدة فريضة شرعية فإن الفرقة والاختلاف من أكبر الكبائر حتى سماها الله تعالى كفراً ( وإن كان كفراً دون كفر ) فقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ) [آل عمران : 100] وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم قال في وصيته في حجة الوداع : ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ) فانظر كيف سماه القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة كفراً ، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على خطورة التفرقة والتمزق والاختلاف في الأصول وتحول الأمة إلى الملل والنحل ، ولخطورة الفرقة داخل الشعب الواحد ذي الدين الواحد صبر نبي الله هارون على عبادة قومه العجل حتى يرجع موسى ( عليهما السلام ) فيعالجان الأمر فقال مبرراً عمله : (إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) [طه : 94] .
وكما أن الوحدة فريضة شرعية وأن الفرقة عذاب فإن الوحدة أيضاً ضرورة فطرية وقومية لتحقيق التقدم والازدهار والحضارة ، ولذلك ربط الله تعالى بين الفشل والتنازع في ثلاث آيات محكمات منها قوله تعالى : (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ) [الأنفال : 46] وقوله تعالى : (حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ) [آل عمران : 152] ففي الآية الأولى جعل الله التنازع سبباً للفشل وذهاب القوة والنصر ، وفي الآية الثانية جمع بين الفشل والتنازع للدلالة على أنهما متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر.
ثانياً – أثبتت التجارب والدراسات المعاصرة أن السبب الأول لتكوين الحضارات ، والامبراطوريات واستمرارهما هو الوحدة والترابط والتضامن والتعاون بين مكونات الأمة ، حتى تصبح جسداً واحداً ، كما عبر عنه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) رواه البخاري وغيره .
بل إن الإسلام كوّن أخوة قوية قائمة على الإيمان مع بقاء الأخوة النسبية والقومية ، والإنسانية ولكنه وجهها نحو التفاعل والتعاون أيضاً وأبعد عنها العنصرية المدمرة والعصبية القاتلة المفرقة للجماعة .
وبذل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في سبيل ذلك جهوداً عظيمة في جميع المجالات العقدية والفكرية والحضارية والإنسانية ، وفرض لهذه الأخوة حقوقاً وواجبات حتى كوّن أمة واحدة استطاعت أن تحقق القوة المادية والمعنوية ، والاقتصادية والعسكرية والحضارة والتقدم .
ولم تسقط الحضارة والدولة الإسلامية الواحدة وكذلك الامبراطوريات إلاّ عندما فقدت هذا الترابط والتآخي والتجانس والتوحد ، فقد أسقطوا الامبراطورية العثمانية من خلال الفكر القومي الطوراني المتطرف ، والفكر القومي العربي المتعصب ، حيث استطاع أعداء الإسلام أن يضربوا بعضهم ببعض لتسقط الدولة العثمانية ، ولتطبق على شعوب المنطقة أهداف ( سايكس بيكو) ولتعطى أرض فلسطين لليهود ولتوزع أراضي كوردستنا على أربع دول قومية …الخ .
يؤكد بيتر تورشين ( وهو العالم الأمريكي المتخصص في الديناميكيا التأريخية ، وصاحب كتاب : لماذا تعلو الأمم وتهبط ) على أن : علو الأمم إنما يتحقق بالقدرة على الترابط والتضامن والتعاون ، والتكيف داخل المجموع في محيطه وخارجه ، وأن الانهيار يبدأ عند ضعف هذه الروابط وإحلال الصراعات محلها ، ثم برهن على ذلك بالمعادلات الرياضية ، فقام فريقه بتصميم برنامج حاسوبي يسمى ( نت لوجو) لبيان الكيفية التي تسمو بها الأمم .
وقبل ذلك أكد القرآن الكريم ذلك فقال تعالى : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) [آل عمران : 159] وقد جاء بعد هذه الآية مباشرة الحديث عن النصر والقوة والغلبة مما يدل بوضوح على الربط المحكم بينهما .
ثالثاً – وبناء على ما سبق وعلى التحديات ، والمخاطر المحدقة بكوردستان العراق ، التي لا تخفى على أحد أطالبكم جميعاً حكومة ومعارضة وشعباً ، وجميع الأحزاب والمؤسسات المدنية بالوحدة على الثوابت التي تحمي الشعب الكوردي من الذوبان ، والانهيار والانصهار ، وتحفظه من الفشل والتآمر ، وتحصنه من الهلاك والدمار .
أناشدكم الله تعالى أن تجعلوا الحزبية وسيلة لتحقيق الخير لشعبكم وللمناقشة على تقديم أفضل الخدمات – كما هو الحال في العالم المتحضر – وحينئذ تكون وسيلة خير مشروعة ، ولا تجعلوها وسيلة للتناحر والتباغض والتشاجر والتقاتل وحينئذ تكون الحزبية مفسدة ومضرة وبالتالي تصبح محرمة ، لأن العبرة في الوسائل بمآلاتها ونتائجها إنْ خيراً فخير وإنْ شراً فشر.
ولا يجوز لأحد منا أن ينسى المآسي التي حلت بالشعب الكوردي خلال العقود السابقة ، وبالتالي فيجب علينا الحفاظ على ما تحقق بكل الوسائل المتاحة من خلال التشاور والتنازل من الجميع لصالح الجميع.
لذلك أملي الكبير فيكم أن تحولوا الانتخابات الحالية إلى عرس حضاري يعطي صورة طيبة لأصالة الشعب الكوردي وحضارته من خلال الحرص الشديد على الوجه الحضاري للانتخابات والحفاظ على أمن الوطن والمواطن ، وعلى قبول نتائجها مهما كانت بروح رياضية.
وأختم رسالتي هذه بضرورة الإسراع بتشكيل الحكومة بأقرب فرصة احتراماً لإرادة الشعب الكوردي عندما اختار ، وحتى لا يعطي التأخر الكثير صورة سلبية عنكم بأنكم غير قادرين على تشكيل حكومة داخل الاقليم ، فكيف بأمور أخرى أكثر أهمية .
وفقكم الله جميعاً لخدمة أمتكم (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ )[التوبة : 105]
أخوكم المحب
أ. د. علي محيى الدين القره داغي