تظهر علاقة فقه الثوابت والمتغيرات بتوحيد الجماعات والمذاهب والأحزاب الإسلامية من خلال ما يأتي :


أولاً : أن تلك الثوابت القواطع بمثابة المبادئ المشتركة والمنهاج السليم ، والشرعية المتفق عليها عند جميع الطوائف الإسلامية والجماعات الإسلامية ، وبمنزلة الدين المشترك ، وأن من لم يعترف بهذه الثوابت فهي خارجة عن الإسلام مارقة في الضلالة ، وليس حديثنا مع هؤلاء الذين لا تجمعهم تلك الثوابت والقواطع ، وإنما حديثنا مع من يلتزم بهذه الثوابت القاطعات في الإسلام ولكنه يختلف في الفروع والوسائل ونحوها ، يقول ابن تيمية : (فالأصول الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع هي بمنزلة الدين المشترك بين الأنبياء ليس لأحد خروج عنه ، ومن دخل فيها كان من أهل الإسلام المحض … وما تنوعوا فيه من الأعمال والأقوال المشروعة فهو بمنزلة ما تنوعت فيه الأنبياء…، والتنوع قد يكون في الوجوب تارة ، وفي الاستحباب تارة اخرى ..، فالمذاهب والطرايق والسياسات للعلماء والمشايخ والأمراء إذا قصدوا بها وجه الله تعالى دون الأهواء ليكونوا مستمسكين بالملة والدين الجامع… واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم من الكتاب والسنة بحسب الإمكان بعد الاجتهاد التام ـ هي لهم من بعض الوجوه بمنزلة الشرع والمناهج للأنبياء ، وهم مثابون…)[1] .


 فعلى ضوء ذلك تجتمع الأمة الإسلامية على هذه الثوابت ،و تتعاون فيما بينها فتتعارف ، وتتحد ، وتجعلها قاعدة لانطلاقتها ، وصخرة صلبة لتكوين علاقاتها عليها ، فهي القاعدة المشتركة المتفق عليها ، والمعترف بها ، فإذا كانت أوربا الغربية اتحدت على قاعدة السوق المشتركة والمصالح الاقتصادية المشتركة ، وخطت كل هذه الخطوات من أجلها ، أو ما تكفي كل هذه الثوابت المشتركة مع المصالح المشتركة لتجميع الأمة الإسلامية وتدفعهم نحو الوحدة العملية؟


ثانياً : من خلال فقه الثوابت والمتغيرات يتم اعتراف كل جماعة بالأخرى وكل طائفة بالثانية ما دامت الثوابت مشتركة ، وما دامت المتغيرات مقبولة ومشروعة بل مطلوبة ، وبالتالي يكون من الطبيعي أن يعذر بعضهم بعضاً ،أو يسعى بالحوار والجدال الأحسن الوصول إلى الأحوط والأفضل ، فأعظم المشاكل بين المسلمين أن بعضهم لا يعترف بالآخر ، فإذا وجدت التوعية بفقه الثوابت والتغيرات لاعترف بعضهم ببعض ، كما أن هناك عدم المعرفة بالحقائق الموجودة لدى المذهب أو الجماعة الأخرى ، وإنما وصلت معلومات مغلوطة أو قديمة ، أو غير دقيقة ، أو تخص فئة منهم ، أو أشخاصاً معينين لا يجوز تعميم آرائهم ورؤاهم على جماعة بعينها ، أو مذهب بعينه .


ثالثاً : أنه من خلال فقه الثوابت والمتغيرات يعلم أن الخلافات الكثيرة ما دامت في نطاق المتغيرات مقبولة شرعاً .


 وأخيراً فإن معرفة الثوابت المشتركة بين الجماعات والطوائف الإسلامية سوف تقرب فيما بينها ، وتؤدي إلى التعاون البناء فيما بينها ورفض العداء والتوتر فيما بينها .


 وقد بين الشيخ القرضاوي أهمية التعاون في المتفق عليه وضرورة تركيز البحوث عليها ، وإقامة الدروس لها ، وإدارة الجدل فيها ، وبناء الخصام على من خالفه ، ثم يقول : (وأنا لا أكره البحث في المسائل الخلافية بحثاً علمياً مقارناً ..ولكن الذي أكرهه أن يصبح البحث في المسائل الخلافية أكبر همنا ومبلغ علمنا وأن نضخمها حتى تأكل أوقاتنا وجهودنا وطاقاتنا ..وأن يكون ذلك على حساب الاشتغال بالقضايا الأساسية) .


 ثم ذكر بعض الأمثلة حيث ألف أحدهم رسالة سماها : (نهي الصحبة عن النزول على الركبة) وهو أمر يتعلق بهيئة الصلاة ..وأحدهم : (الواحة في جلسة الاستراحة) .


 فمشكلة الأمة في تضييع الأمور المتفق عليها من جميع مذاهبها ومدارسها وفي تعطيل الشريعة وانهيار الأخلاق وتجميد الفكر وأمانة الحقوق ، فهي ليست فيمن يؤول آيات الصفات …وإن مذهب السلف أرجح وأسلم ـ بل في الذي ينكر الذات والصفات جميعاً من عبيد الفكر المستورد من الغرب أو الشرق ، وليست فيمن يؤول آية الاستواء على العرش بل فيمن يجحد العرش ورب العرش معاً ..


 ومن هنا كان الواجب على دعاة الإسلام الواعين أن ينبهوا على التركيز على مواطن الاتفاق قبل كل شيء ، فإن هذا التعاون فريضة شرعية يوجبها الدين ، وضرورة واقعية يحتمها الواقع الذي تمر به الأمة .


 وأعتقد أن ما نتفق عليه ليس بالشيء الهين ولا القيل ، إنه يحتاج منا إلى جهود لا تتوقف ، وعمل لا يكل ، وإرادة لا تعرف الوهن يحتاج منا إلى عقول ذكية وعزائم قوية وأنفس أبية وطاقات بناءة …حرام على الجهات الإسلامية أن تعترك فيما بينها على الجزئيات وتدع تلك الثغرات الهائلة دون أن تسدها بكتائب المؤمنين الصادقين[2] .


 وحقاً فإن الثوابت لهذا الدين كثيرة وهي مشتركة بين جميع الجماعات والمذاهب الإسلامية ، في مجال أصول العقيدة ، والقيم والأخلاق ، وفي أصول المعاملات والفروع ، وفي عالم السياسة ، وفي التحديات التي تواجه الأمة ، مثل تحدي الإلحاد والكفر والعلمانية ، وتحدي الغزو الثقافي والفكري ، وتحدي التغريب والتمييع ، وتحدي الاستكبار العالمي ، والحروب الصليبية الجديدة ، وتحدي الهجمات الصهيونية على المسلمين واحتلالها لفلسطين ودرتها القدس الشريف ، والهجمات الوثنية في كشمير ، والهجمات الصليبية والإلحادية في الشيشان وفليبين ؟


  فما أحوجنا إلى التوحد والتعاون والتكامل ، وتوزيع الأدوار ، والقبول بالبعض ، والاجتماع على ما يجمعنا من الثوابت والمواقف السياسية ، وعدم إثارة الاختلافات ، وبالأخص في هذا العصر الذي تكالبت علينا الأعداء وتداعت كما تداعت الأكلة على قصعتها .


فهل نستوعب الدرس ؟ ونحسّ بخطورة الموقف ؟ ونترك حظوظ النفس ؟ وندع الحزبية الضيقة إلى ساحة الإسلام الواسعة ، إلى منهج السلف في التيسير في الأحكام ، والتبشير في الدعوة ، وفي تحمل البعض ، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، والجدال بالتي هي أحسن ؟


 هذا ما أرجوه وأسأل الله تعالى أن يجمع هذه الأمة على كل ما يحقق عزتها وكرامتها وتقدمها وازدهارها .


 


الله الموفق وهو المستعان

 


 اعلى الصفحة


   ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


[1])) مجموع الفتاوى (19/117 – 118 , 126 – 128)


[2])) الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم ص 145 – 157