الراية – الدوحة
دعا الدكتور علي محيي الدين القره داغي الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين إلى تدبّر آيات القرآن الكريم لبيان سبب ما آلت إليه أوضاع الأمة الإسلامية. وأرجع فضيلته، في خطبة صلاة الجمعة أمس بجامع السيدة عائشة، رضي الله عنها، بفريق كليب، سبب الفتن القائمة إلى أمرين، هما عدم العودة إلى القرآن الكريم، والعقل الصحيح الكلي للأمة، فهما السبب الأكبر في الفتن والمشاكل.
وقال: إن العقلية الكلية للأمة لو وُجدت لما احتلت العراق على سبيل المثال، فما كان على الأمة أن تترك العراق حتى يصل إلى ما وصل إليه، ثم جاءت المشكلة السورية ولم نتحرّك، ثم جاءت مشكلة اليمن ثم احترقت أيدينا وستحترق جميع أبداننا إذا لم نرجع إلى الله ولم نأخذ بهذين السببين الرئيسين.
وحذّر من أن الوضع خطير، مشيرًا إلى أن الصهاينة الذين احتلوا فلسطين لا يمكن أن يعيشوا إلا إذا كانت الأمة مشغولة بـ”الفوضى الخلّاقة”، ونحن نسميها الفوضى الهدّامة. وقال: إن الأمة إذا لم ترجع للقرآن والعقل ستكون النتائج أسوأ مما نحن فيه اليوم.
كان فضيلته بدأ خطبته بالحديث عن تدبّر القرآن الكريم الذي يجب على الإنسان المسلم أن يتدبّره، لأنه هو العلاج الشافي لأمراض الأمم، وأن التجربة السابقة خير برهان على ذلك، حيث أنقذ الله سبحانه وتعالى بهذه الرسالة والرسول العظيم الأمة من الجاهلية والتفرّق والتمزّق ومن التخلّف والفقر إلى الحضارة والتقدّم والعزة والكرامة والبناء.
ولفت إلى أن الآية الكريمة “أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ” توضّح أن السبب الأكبر في قضية الفتن والمشاكل والمصائب والآلام يعود إلى أمرين أساسين، أولهما عدم العودة الصحيحة إلى القرآن الكريم من خلال الفهم العميق لمبادئه وقوانينه العامة، وسننه الخاصة، وهو المطلوب للأمة أو على أقل تقدير لمن يقودون الأمة من الحكّام والأمراء والعلماء.
وقال: إنه إذا عادت الأمة إلى المناهج البشرية المستوردة حينئذ تكون النتيجة الاستغراق في المزيد من الفتن، كما نراها اليوم. وذكر أن الأمة حاولت منذ أكثر من مئة سنة أن تعالج مشاكلها من خلال العلمانية والشيوعية والبعثية والقومية المتطرّفة وغير ذلك، وجرّبت هذه المناهج، إلا أنها زادت الأمة تخلفًا وتفرقًا وتمزقًا ليس فقط من الجانب الديني والجانب العملي والحضاري والتقني والصناعي.
وقال: إن السبب الثاني للفتن هو عدم العودة للعقل الصحيح الكلي، وليس إلى العقل الجزئي، ونحن كما يقول ابن خلدون، تربيتنا مبنية من الصغر على العقلية الجزئية، والضيّقة، والفردية. ولفت إلى أن العقلية الواسعة الشاملة التي تنظر إلى القضايا والقضية بنظرة شمولية مستقبلية نحتاج إلى صناعتها، وإعادة تشكيلها بالشكل الصحيح.
ورأى أن العلاج يكمن في العودة إلى القرآن بالفهم العميق بمقاصده وحكمه وعبره ومبادئه وسننه وقوانينه، فكما أن عدم العودة إلى القرآن سبب للمرض فالعودة إليه بالفهم الصحيح هو أيضًا سبب في العلاج والنجاح، وكذلك إذا كان عدم التعقل والتذكر من التجارب البشرية الناجحة سبب للفشل، فإن التعقل والتذكر بصورته الكلية الشاملة والاستشرافية للمستقل سبب للنجاح.
وقال: إن الأمة بمجموعها أو بغالبيتها العظمى حينما لا تلتجئ إلى الوحي والقرآن والسنة النبوية الشريفة بهذا الفهم والسنن السابقة، تعم المصيبة وإن كان هناك صالحون ومفكرون، ومن يرجع إلى القرآن وإلى العقل “واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة”، فضمير الجمع يشير إلى أن الله لا يبتلي الأمة ومعظمهم صالحون ومصلحون، والصلاح وحده لا يكفي كما ورد في أحاديث شريفة.. وقال إن درء البلاد يكون بالصلاح والإصلاح، الصلاح الذاتي، والإصلاح للغير، ومنع المنكرات ومنع المصائب.
وأكد د. القره داغي أن كل هذه المعاني مقصودة لأهمية هذه الآية، ثم أكد الله سبحانه وتعالى للمبتلين هذه الصفات، أنهم يفتنون، وهذه سنّة الله التي أكدها القرآن، حينما لا ترجع الأمة لله وإلى الوحي الرجوع الحقيقي، ولا ترجع إلى العقل والسنن التي بثها الله في هذا الكون، وتكون النتيجة هي الافتنان والابتلاء وهما أمران حتميان من حتميات سنن الله تعالى، لأن سننه تعالى لا تحابي المسلمين ولا تجاملهم، وكذلك سنّة الله عامة وقاضية، إذا وجِدت المواصفات تطبّق عليهم تمامًا سواء كانوا مسلمين أم غير مسلمين، وهناك سنن يزيد الله بها المسلمين نصرًا وقدرة، ولكن هناك سننًا مشتركة لا تفرّق بين المسلم وغيره، فمن يأخذ بأسباب النجاح والحضارة كتب الله له أسباب النجاح والحضارة.
وقال: إن المسلم الراغب العابد الراهب إذا ترك العلم والحضارة والتقدّم، كتب الله عليه أنه يكون من المتخلفين وتفشّت فيهم البطالة والمصائب ولذلك هم يفتنون. ثم بيّن الله بكلمة “يفتنون” أي يمتحنون ويبتلون، والامتحان والابتلاء بمعنى واحد، وإن كان البعض قالوا: إن الامتحان يكون لما فيه الخير، والابتلاء يكون بالخير والشر، ولكن الآخرين قالوا كلاهما يمتحن ويبتلى بالخير والشر، وهذا هو الصحيح، والخير والشر كلاهما محل للامتحان والابتلاء، ولم يذكر رب العالمين محل الافتتان، بأي شيء يفتنون، ولم يقل إنهم يفتنون بالفرقة أو بالزلازل والكوارث الطبيعية أو بالحروب أو بالضعف والذل والتكالب، لأن حذف مثل هذه الأمور في الأفعال يراد به العموم والإطلاق، أي يفتنون بكل شيء، فيفتنون بالفرقة والذل والهوان والإخراج والقحط والكوارث وإلى آخر هذه القائمة التي نشاهدها اليوم، وما كنا نتوقع هذه القائمة الطويلة من الافتتان لو ما عشنا نحن فيها، واليوم نرى في سوريا والعراق وفي فلسطين واليمن وفي الإبادة الجماعية في ميانمار وفي أفريقيا الوسطى.