التهنئة بالعام الهجري الجديد وبالعيد، والأعوام مشروعة، والإجابة عليها مطلوبة.

اتخاذ بعض المناسبات عيدا غير جائز

ليس في التهاني تشبه بالكفار، وإنما هي عادة لتجديد المحبة والتذكير بالخير، والألفة، ويدخل في باب السعة والتيسير

جواز البدء بالتهنئة بمناسبة العام الهجري الجديد أو المناسبات الدنيوية والوطنية المشروعة التي لا يقصد بها جعلها عبادة ودينا

فقد وردتنا أسئلة كثيرة حول مدى جواز التهنئة بالعام الهجري الجديد ونحوه من المناسبات العادية ، والسؤال حول التهنئة فقط، وليس حول جعله عيدا.

الجواب:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله الطيّبين وصحبه الغر الميامين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد؛؛

فإن علماءنا المحققين – سلفا وخلفا- فرقوا بين العبادات الشعائرية المحضة التي الأصل فيها التوقف ولا تجوز الزيادة عليها، حيث تكون الزيادة أو التغيير بدعة.

وبين العادات والمعاملات التي الأصل فيها الإباحة فلا يحرم منها شيء أو يكره إلا بدليل ثابت، وهذا التفريق هو من أصول الفقه التي بدونها يكون الاجتهاد أو الفتوى غير صحيح، أو غير دقيق.

وقد دل على هذا الأصل الكتاب والسنة، وعليه جماهير العلماء ما عدا الظاهرية، يراجع: مبدأ الرضا في العقود(2/1148-1196) ومصادره المعتمدة حيث أطلنا فيه النفس تأصيلا وتقعيدا.

ويقول الإمام الشاطبي: "الأصل في العبادات بالنسبة للمكلف التعبد…وأصل العادات الالتفات إلى المعاني…" وقال أيضا " والقاعدة المستمرة في أمثال هذا: التفرقة بين العبادات والمعاملات… وما كان من العاديات يكتفي فيه بعدم المنافاة – أي عدم معارضته لدليل ثابت- الموافقات(1/284-285/2/ 300-322) وقال قريبا منه ابن القيم في إعلام الموقعين(1/344-345)، تحرير النزاع

 أن فتواي هذه حول التهنئة فقط وليس حول جعل أول السنة عيدا، فلا عيد شرعيا لنا إلا العيدان.

 وقد ذكر أي ابن النجار الحنبلي نقلا عن القاضي أن أحمد أشار إلى هذا الأصل…" قال ابن القاضي الجبل وغيره، الأدلة الشرعية دلت على الإباحة لقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا )البقرة الآية29.

ومن المعلوم أن التهنئة بقدوم السنة الجديدة ليست من باب العبادات المحضة ولا من الشعائر التعبدية التي لا تجوز فيها الزيادة أو التغيير، والتي تدخل في البدعة التي نهى عنها رسول الله"صلى الله عليه وسلم" وفي ذلك حماية لأصول الدين، ورحمة للمسلمين الذين تنحصر أعمالهم فيما ورد فيه نص وبالتي يوجهون بقية أوقاتهم لتعمير الأرض حسبما أمر الله تعالى به فقال تعالى"فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْل الله" الجمعة الآية 10.

وبالإضافة إلى هذا الأصل المتفق عليه بين جمهور العلماء فهناك بعض أدلة يمكن الاستئناس بها، منها: تهنئة الصحابة ومنهم طلحة بن عبيد الله لكعب بن مالك بعدما نزل قبول توبته وبحضرة النبي  "صلى الله عليه وسلم" حيث قال كعب (فانطلقت أتأمم رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بالتوبة، ويقولون: لتهنئك توبة الله عليك، حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله جالس في المسجد وحوله الناس فقام طلحت بن عبد الله يهرول حتى صافحني وهنأني….)رواه البخاري في صحيحه الحديث4156،ومسلم في صحيحه الحديث2769.

 وجاء في الموسوعة الفقهية ص(14/99-101) ثالثا في التهنئة بالعيد والأعوام والأشهر ذهب جمهور الفقهاء إلى مشروعية التهنئة بالعيد من حيث الجملة، فقال صاحب الدر المختار– من الحنفية- إن التهنئة بالعيد بلفظ(" يتقبل الله منا ومنكم"لا ينكر)،وعقب ابن عابدين في حاشيته (1/557)على ذلك بقوله إنما قال: أي صاحب الدر المختار- كذلك، لأنه لم يحفظ فيها شيء عن أبي حنيفة وأصحابه، وقال المحقق ابن أمير حاج:"بل الأشبه أنها جائزة مستحبة في الجملة، ثم ساق أثرا بأسانيد صححه عن الصحابة في فعل ذلك "وفي بقية المذاهب نقولُ بجواز التهنئة بالعيدين، ونقل ابن عقيل في تهنئة العيد أحاديث منها أن محمد ابن زياد قال:"كنت مع أبي أمامة الباهلي وغيره من أصحاب النبي"صلى الله عليه وسلم"  فكانوا إذا رجعوا من العيد يقول بعضهم لبعض: تقبل الله منا ومنك"، وقال أحمد إسناد حديث أبي أمامة جيد"المغنى"2/399" وليس في هذا إشكال، ولكن يستأنس به في جواز التهنئة في أمر مشروع، لان الرسول"صلى الله عليه وسلم"لم يرد منه إلينا حديث ثابت فيها، ومع ذلك كان الصحابة يفعلونها.

ويقوي هذا الأصل وهو جواز التهنئة في كل أمر مشروع التهنئة بالزواج والمولود، وكذلك التهنئة بالقدوم من السفر حيث ذهب جماعة من الفقهاء من الشافعية والحنابلة إلى أن تهنئة القادم من سفر والسلام عليه ومعانقته جائزة بل مستحبة (يراجع حاشيتا قليوبي وعميرة (2/251/3/161) وزاد المعاد (2/24)ومطالب أولي النهى(2/502)، وكذلك التهنئة بالنعمة، ودفع النقمة، حيث ذهب إلى جوازها جمع من العلماء منهم الشافعية واحتجوا بحديث كعب وتهنئة طلحة بحضور رسول الله- كما سبق- نهاية المحتاج (2/391) ومغنى المحتاج(1/316)

وذهب الحنابلة إلى أن التهنئة بالأمور والنعم الدينية المتجددة مستحبة، واحتجوا بقصة كعب بن مالك، أما التهنئة بالأمور الدنيوية فأجازها بعض متأخريهم، وقال بعضهم تحسن أو تستحب: يراجع، الآداب الشرعية(2/239) ومطالب أولي النهى (2/506).

 وجاء في حاشيتي قليوبي وعميرة على شرح المحلى على المنهاج للنووي(2/251"3/213)، "فائدة: التهنئة بالأعياد والشهور والأعوام، قال ابن حجر: مندوبة، ويستأنس لها بطلب سجود الشكر عند النعمة، وبقصة كعب وصاحبيه، وتهنئة طلحة له " ، وقال البيجوري " وهو المعتمد، ونقل عن الحافظ المنذري عن الحافظ المقدسي" أنه سئل عن ذلك فأجاب بأن الناس لم يزالوا مختلفين فيه، والذي أراه انه مباح، لا سنة فيه ولا بدعة".

آراء المعاصرين

وذهب جماعة من العلماء المعاصرين إلى جواز التهنئة بهذه المناسبات مثل العام الهجري الجديد ، لما ذكرناه، وعلى رأس هؤلاء العلامة الشيخ عبد الرحمن السعدي مفتي المملكة الأسبق، حيث سئل عن التهنئة بالعام الهجري وغيره من المناسبات فأجاب:" هذه المسائل وما أشبهها مبينة على أصل عظيم نافع وهو أن الأصل في العادات القولية والفصلية الإباحة والجواز، فلا يحرم منها ولا يكره إلا ما نهى عنه الشارع أو تضمن مفسدة شرعية، وهذا الأصل الكبير قد دل عليه الكتاب والسنة في مواضع، وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره.

ثم قال:"فهذه الصور المسئول عنها وما أشبهها من هذا القبيل فإن الناس لم يقصدوا التعبد بها، وإنما هي عوائد وخطابات وجوابات جرت بينهم في مناسبات لا محذور فيها، بل فيها مصلحة دعاء المؤمنين بعضهم لبعض بدعاء مناسب، وتآلف القلوب كما هو مشاهد".

 وبعد هذا الكلام الرائع  قال:"وأما الإجابة في هذه الأمور لمن ابتدأ بشيء من ذلك، فالذي نرى انه يجب عليه أن يجيبه بالجواب المناسب مثل الأجوبة بينهم، لأنها من العدل، ولان ترك الإجابة يوغر الصدور ويشوش الخواطر"، يراجع كلامه في المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ عبد الرحمن السعدي، الفتاوى، ص 348.

هذا وقد كتب الشيخ ابن السعدي لتلميذه الشيخ ابن عقيل كتابا في 3 المحرم 1367ه وكان في ديباجة رسالته " ونهنئكم بالعام الجديد، جدد الله علينا وعليكم النعم، ودفع عنا وعنكم النقم"، هذا ما ذكره الشيخ عبد الله بن غالب الحميري في صفحته الإلكترونية فقال:" وعلى هذا جمهور من عرف بالعلم والفتوى، ولا يلتفت لمن قصر علمه، وضاق عن إدراك مثل هذه المسائل فهمه نشرها في زاوية البدع والله الموفق".

وذهب جماعة من العلماء منهم لجنة الفتوى بالمملكة إلى أن التهنئة بالعام الهجري وجميع المناسبات بدعة محرمة، لأن التاريخ الهجري وضعه الصحابة لأجل تأريخ المعاملات، ولأنها لم يفعلها الرسول "صلى الله عليه وسلم"، ولا الصحابة الكرام، ولذلك صرحت اللجنة الدائمة للإفتاء بأنها بدعة غير مشروعة ، رقم الفتوى (0795)، ونصت كذلك في فتواها المرقمة (9403-09/3) على ما يلي:

أولا:  العيد اسم لما يعود من الاجتماع على وجه معتاد…

ثانيا: ما كان من ذلك مقصودا به النسك والتقرب أو التعظيم كسبا للأجر، وكان فيه تشبه بأهل الجاهلية، ونحوهم من طوائف الكفار فهو بدعة محدثة ممنوعة…".

ولكن هذه الفتوى في اتخاذ بعض المناسبات عيدا فهذا غير جائز في نظرنا أيضا، ولكن هل تلحق مجرد التهنئة بمناسبة دنيوية بدعة محرمة؟

هذا هو المقصود بالسؤال والجواب، ولذلك نرى بعض كبار العلماء مثل الشيخ ابن السعدي يجيزون التهنئة، ولا يجيزون إحداث عيد آخر غير العيدين.

 وبالمقابل فإن بعض لجان الفتوى ودورها في بعض الدول العربية مثل مصر والإمارات قد أفتت ليست بجواز التهنئة فقط، بل بتسمية الاحتفال باليوم الوطني عيدا بناء على المعنى اللغوي للعيد، وليس المعنى التعبدي –ورأينا- كما سبق- في التهنئة بالمناسبات الاعتيادية مثل العام الهجري الجديد.

وهناك رأي ثالث لبعض كبار العلماء قديما وحديثا  وهو جواز الرد بالتهنئة دون البدء بها وهذا رأي الإمام أحمد "رحمه الله" حيث روى أنه من هناه رد عليه وإلا لم يبتدئه، وهذا رأي الشيخ ابن باز رحمه الله والشيخ ابن عثيمين رحمه الله.

والخلاصة: الذي يظهر لنا رجاحته جواز البدء بالتهنئة بمناسبة العام الهجري الجديد أو المناسبات الدنيوية والوطنية المشروعة التي لا يقصد بها جعلها عبادة ودينا.

وأما إجابة من وجه إليه التهنئة فمطلوبة شرعا، لأن الله تعالى أمرنا بالرد بالمثل أو بالأحسن في التحية، فقال تعالى(وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا)سورة النساء الآية86، وقد فسر العلماء التحية في الآية بما يشمل السلام والدعاء والمخاطبة الجميلة، وحتى ادخل بعضهم الرد على تشميت العاطس والهدية فيها، يراجع تفسير الطبري ج8ص586، وتفسير……، وابن العربي وغيره من التفاسير في تفسير هذه الآية .

فقد ذكر الإمام النووي في المجموع (4/524) أن جواب السلام فرض بالإجماع، فإن كان السلام على واحد فالجواب فرض عين في حقه، وإن كان على جمع فهو فرض كفاية، فإذا أجاب واحد منهم  أجزء عنهم وسقط الحرج عن جميعهم.

ثم إن ما قالته اللجنة الدائمة والمانعون من التهنئة  ليس بمسلم ولا تدعمه الأدلة المعتبرة لو نظرنا إلى الموضوع نظرة حقيقية بعيدة عن الحساسية المفرطة، والتوسع الكبير في دائرة البدعة وذلك لما يأتي:

أولا: أن مناسبة دخول عام هجري جديد، أو شهر جديد، أو أسبوع جديد من العادات وليس من العيادات.

ثانيا: وإذا ثبت أن التهاني بمثل هذه المناسبات ليست من باب الشعائر التعبدية والعبادات المحضة يكون الأصل فيها الإباحة إلا إذا دل دليل على حرمتها، ولا توجد،و بالتالي فتبقى على أصلها ولا تدخل في دائرة البدعة المحرمة .

ثالثا: أن دائرة الحلال أكبر وأوسع، ولذلك لا تحتاج إلى دليل خاص وإنما المهم أن لا يتعارض مع نص ثابت أو إجماع صحيح، وأما دائرة الحرام فهي ضيقة، ولذلك فهي مفصلة بأدلة واضحة فقال تعالى: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ)سورة الأنعام الآية 119.

رابعا: أن التهاني تحمل في طياتها دعاء مشروعا، والدعاء مشروع مأمور به ما لم يكن دعاء مخالفا لنص شرعي.

خامسا: ليس في التهاني تشبه بالكفار، وإنما هو عادة لتجديد المحبة والتذكير بالخير، والألفة، ويدخل في باب السعة والتيسير.

هذا ما أردنا بيانه تأكيدا على يسر الإسلام وسعة أفقه، وعنايته القصوى بالعقيدة والشريعة والأخلاق والحياة، وجمعه بين الأصالة والثوابت العظيمة، وبين المعاصرة والتسامح في المتغيرات.

فالإسلام لم يأت للتضييق على الناس في عاداتهم المعروفة، ولا لأن تنشغل الأمة بالجزئيات وتترك قضاياها والكليات، وإنما جاء لإسعاد الإنسانية ولبيان الصراط المستقيم  فقد قال تعالى(يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ)سورة البقرة الآية 185.

فقد أكد القرآن على أن جميع ما هو طيب ونافع وصالح حسب الفطرة السليمة حلال، وان كل ما هو خبيث وضار وفاسد في نظر الفطرة السليمة فهو حرام فقال تعالى في وصف رسولنا العظيم (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ)سورة الأعراف الآية 157، أي كل ما طيبته الفطر السليمة والعقول المستفتحة، (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) أي ما تدركه الفطر السليمة ضررها وفسادها وخبثها، وفي هذا إشارة واضحة إلى توافق الفطر السليمة والعقول المستقيمة مع شريعة الله .

هذا والله تعالى أعلم بالصواب

 وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

 

                                                      كتبه الفقير إلى الله

                                              أ.د.علي محي الدين القره داغي