التعريف بالعنوان : ( فسخ الدين بالدين ) :

العنوان يتألف من كلمتين أساسيتين ، هما : (فسخ) و (دين) :

فالفسخ لغة مصدر : فسخ يفسخ ، وهو يستعمل في عدة معان :

منها : النقض ، فيقال : فسخ الشيء أي نقضه ، ومنه : فسخ البيع ، أو العقد .

ومنها : الإزالة ، فيقال : فسخ المفصل أي أزاله عن موضعه من غير كسر .

ومنها : الطرح ، فيقال : فسخ الثوب عن نفسه ، أي طرحه .

ومنها : الفساد ، فيقال  : فسخ الرأيُ ـ بضم الياء ـ فسَخاً ـ بفتح السين ـ أي فسد ، فهو (فسِخ) بكسر السين أي فاسد .

ومنها : الافساد ، فيقال : فسخَ الرأيَ أي أفسده .

ومنها : الضعف والجهل  ، فيقال : فسخ الرجلُ فسخاً أي ضعف وجهل .

ومنها : التفريق ، فيقال : فسخ الأشياء أي فرقها .

ومنها : النسيان ، فيقال : فسخ الكتاب أي نسيه .

ويقال : فاسخه البيع أي طالبه بالفسخ ، أو وافقه على فسخه ، وانفسخ أي انتقض وبطل وزال ، وتفاسخ البيّعان البيع ونحوه أي اتفقا على فسخه ، وتفسخ الشيء أي انفسخ ، وتفسخت المادة أي انحلت بتأثير الجراثيم ، وتفسخ الشعر عن الجلد أي زال وتطاير…  .

والفسخ في الاصطلاح هو: حل ارتباط العقد  ، أو هو ارتفاع حكم العقد من الأصل كأن لم يكن  .

وقد ذكر الإمام السيوطي قاعدة جميلة في هذا الباب فقال : (يغتفر في الفسوخ مالا يغتفر في العقود ، ومن ثمّ لم تحتج إلى قبول ، وقبلت الفسوخ التعلقيات ، دون العقود ، …وجاز توكيل الكافر في طلاق المسلمة (أي فسخ نكاحها) لا في نكاحها)  .

 

التعريف بالدين لغة واصطلاحاً :

الدَين ـ بفتح الدال ـ لغة يطلق على ما له أجل ، وأما الذي لا أجل له فيسمى بالقرض ، وقد يطلق عليهما أيضاً ، ويقال دنته ، وأدنته أي أعطيته إلى أجل وأقرضته ، وداينته أي اقرضته ، وجمه ديون ، وأدين ، واسم فاعله دائن ، واسم مفعوله : مدين ، ومديون عند التميم ، وأصل اشتقاقه ينبئ عن الذل والخضوع ، فهو من دان بمعنى خضع واستكان .

وقد ورد لفظ الدين ـ بفتح الدال ـ في القرآن الكريم أكثر من مرة ، بل إن أطول آية فيه هي آية الدين ، قال تعالى : (يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَـﭑكْتُبُوهُ ………….)  وقد فسره المفسرون بعدة تفسيرات :

قال الشافعي : (يحتمل كل دين ، ويحتمل السلف)  .

وقال الطبري : (إذا تبايعتم أو اشتريتم به به ، او تعاطتيم ، أو أخذتم به إلى أجل مسمى …. وقد يدخل في ذلك القرض والسَّلم ، كل ما جاز فيه السلم مسمى أجل بيعه من الأملاك بالأثمان المؤجلة ، كل ذلك من الديون المؤجلة إلى أجل مسمى إذا كانت آجالها معلومة)  .

وقال الجصاص : (ينتظم سائر عقود المداينات التي تصح فيها الآجال) ، لكنه ذكر أن القرض وإن كان يسمى ديناً إلاّ انه لا يدخل في منطوق هذه الآية،لأنه في الديون المؤجلة.

فعلى هذا فالدين في الآية هو : (كل دين ثابت مؤجل سواء كان بدله عيناً أو ديناً)  وقد ذكروا أيضاً أن ابن عباس قال : (نزلت هذه الآية في السَّلمخاصة ، لكنها تتناول جميع المداينات إجماعاً ، ولأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)  .

وورد لفظ (الدين) في السنة المشرفة بمعنى الدين الشامل لحقوق الله تعالى وحقوق العباد المتعلقة بالذمة ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في جواب الرجل الذي سأله عن قضاء صوم شهر عن أمه المتوفاة : (فنعم فدين الله أحق أن يقضى)  ، وورد مثله في الحج حيث قال : (نعم حجي عنها ، ارأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته ؟ اقضوا الله ، فالله أحق  بالوفاء)  ، وورد فيه بمعنى الدين الخاص بالمال الذي ثبت في ذمة شخص لشخص آخر مثل قوله صلى الله عليه وسلم حينما أُتي بجنازة : (هل عليه من دين) ؟ قالوا : نعم  ، وفي رواية قالوا : ثلاثة دنانير ، فقال أبو قتادة ، وعليّ دينه  .

وأما الفقهاء فقد أطلقوا الدين على معنيين : معنى عام ، ومعنى خاص :

أحدهما : إطلاق عام على كل ما يجب في ذمة الإنسان بأي سبب من الأسباب ، سواء كان من حقوق الله تعالى ، أو من حقوق العباد ، وقد رأينا أنه بهذا المعنى قد ورد في السنة المشرفة أيضاً ، ذكر الحافظ ابن حجر أن لفظ الدين يشمل كل حق ثبت في ذمة الشخص من حج وكفارة ونذر ، وزكاة ونحوها  ، فعلى هذا يمكن تقسيم الدين إلى نوعين : دين الله تعالى ، ودين الآدمي .

والثاني : إطلاقه على ما يثبت في ذمة الإنسان بسبب عقد ، أو استهلاك ، أو استقراض ، أو تحمل التزام ، أو قرابة ومصاهرة  .

ولا يخفى أن هذا المعنى أخص من المعنى الأول ، إذ هو خاص بما ثبت من حقوق العباد في ذمة المدين ، ومقابلة العين ، والعمل ، والنفس ، قال الكاساني : (ان المكفول به أربعة أنواع : عين ، ودين ، ونفس ، وفعل ليس بدين ولا عين ولا نفس)  ، فعلى ضوء ذها يقسم محل الالتزامات إلى هذه الأنواع الأربعة ، ولكننا لو دققنا النظر فيه لأمكن إرجاع الجميع إلى الدين والعين ، إذاً الفعل الملتزم به داخل في الدين ما دمنا نحن فسرناه بما ثبت في الذمة ، لا بالمال فقط ، وكذلك الالتزام بإحضار نفس راجع إلى الحق المتعلق بالعين  .

ويقابل هين المصطلحين الشرعيين مصطلحان في القانون المدني هما : الحق الشخصي ، والحق العيني ، فالحق الشخصي ـ ويسمى الالتزام أيضاً ـ : هو رابطة بين شخصين دائن ومدين ، بمقتضاها يطالب الدائن المدين بإعطاء شيء ، أي بنقل ملكية شيء أو القيام بعمل ، أو بالامتناع عن عمل ، وأما الحق العيني : فهو سلطة يمنحها القانون لشخص على عين بالذات  ، ونحن لسنا بصدد الخوض في تفاصيل هذه المسألة ، إذ أن بحثنا معقود لبيان الديون المالية  .

تقسيمات الدَّين :

يقسم الدين باعتبار الزمن إلى : حال ، ومؤجل ، فالدين الحال هو : ما يجب أدؤه عند طلب الدائن ، ويقال له الدين المعجل أيضاً .

والدين المؤجل هو : ما لا يجب أداؤه قبل حلول الأجل ، لكن لو أدّي قبله يصح ويسقط عن ذمته  ، وقد ذكر الزركشي أن الدين المؤجل يحل بموت المدين إلاّ في ثلاث صور :

الأولى : المسلم إذا لزمته الدية ولا مال ولا عصبة ، تحمّل عنه بيت المال ، فلو مات أخذ من بيت المال مؤجلاً .

الثانية : إذا لزمت الدية في الخطأ وشبه العمد الجاني كما لو اعترف وأنكرت العاقلة فإنها تؤخذ من الجاني مؤجلة ، فلو مات هل تحل الدية ؟ وجهان : أصحهما : نعم .

الثالثة : ضمن ديناً مؤجلاً ومات الضامن ، يحل عليه الدين على الأصح ولو مات الأصيل حلّ عليه الدين ، ولم يحل على الضامن على الصحيح  .

وكذلك تحل الديون المؤجلة بالفلس عند جماعة من العلماء  .

قال الزركشي : (ليس في الشريعة دين لا يكون مؤجلاً إلاّ الكتابة والدّية ، وليس فيها دين لا يكون إلاّ حالاً إلاّ في القرض  ، ورأس مال السلم ، وعقد الصرف ، والربا في الذمة …. )  .

وأما الدين الحال ، فقد قال الإمام المتولي والإمام الروياني : إنه لا يتأجل إلاّ في مسألتين :

إحداهما : إذا قال صاحب الدين عند حلوله ، لله على أن لا أطالبه إلاّ بعد شهر ، لزم  .

الثانية : إذا أوصى من له الدين الحال أن لا يطالب إلاّ بعد شهر فإنه تنفذ وصيته ، وقيدها ابن الرفعة في المطلب بأن يكون في حدود الثلث .

وقد قسم التهانوي الدين إلى : دين صحيح : وهو الدين الثابت الذي لا يقسط إلاّ بالأداء أو الإبراء كدين القرض ونحوه ، وإلى دين غير صحيح : وهو ما يسقط بغيرهما بسبب آخر مطلقاً مثل دين الكتابة فإنه يسقط بتعجيز العبد المكاتب نفسه  .

 

فسخ الدَّين بالدّين ، أو في الدَّين (تحرير المراد) :

بما أن المجمع الفقهي الإسلامي قد ناقش بيع الدين بالدين في أكثر من دورة ، وناقش مجموعة من البحوث ، وكان منها بحثي الموسوم : بيع الدين بالدين ، لذلك لن نتعرض لهذا الموضوع ، وإنما نتعرض لفسخ الدين بالدين ، أو في الدين ، وكلاهما بمعنى واحد وهو نقض عقد آجل بثمن آجل أو عاجل .

فالمراد بالنقض هو : إنتهاء العقد سواء كان بإرادة العاقدين أو لفساد العقد ، أو بالقضاء .

والمراد بالعقد الآجل هو : كل عقد يكون الثمن ، أم المثمن آجلين أو أحدهما ، وبذلك يشمل القرض ، والسلم والبيع الآجل ، والأجرة المؤجلة والمهر المؤجل ، ونحوها.

والمراد بثمن آجل : هو البدل الآجل لما يدفعه الطرف الآخر مثل البائع ، سواء كان ديناً أم عيناً ، وسواء كان نقوداً آجلة ، أم أعياناً مؤجلة (أي في الذمة) .

فالثمن وإن كانت له معان متعددة في اللغة ، لكنه في عرف الفقهاء هو : ما يقع به التراضي ، قال الراغب : (الثمن اسم لما يأخذه البائع في مقابلة المبيع : عيناً كان أو سلعة ، وكل ما يحصل عوضاً عن شيء فهو ثمنه)  .

فالثمن في الاصطلاح الفقهي هو : ما يكون بدلاً للمبيع ويتعين في الذمة  .

أركان الفسخ :

إذا كان الفخ ملزماً وبالتالي يتم بتراضي الطرفين فإن أركانه تنحصر في ثلاثة أركان ، وهي :

1.العاقدان ، وهما (الفاسخ والقابل للفسخ)

2.الصيغة (وهي اللفظ مثل قول : فسخت العقد أو كل ما يدل على ذلك ، والكتابة ، والإشارة ، والفعل مثل قيام البائع بالتصرف في المبيع في حالة وجود شرط فاسخ (وهو خيار المجلس والشرط)  .

3.المعقود عليه ، وهو محل العقد المفسوخ أياً كان .

أما إذا كان أصل العقد من العقود الجائزة (غير الملزمة) فغنه يتم بإرادة طرف واحد فقط.

وأما إذا كان أصل الفسخ يتم بالقضاء فإنه يتم بوجود العقد ، وسبب الفسخ ، وحكم القاضي بذلك .

وأما إذا كان الفسخ يتم بذاته مثل الفسخ في حالة التخالف (أي اختلاف العاقدين دون بينة وحلفهما) فإنه لا يحتاج إلى لفظ ، ولا حكم حاكم ، بل يتم مباشرة بعد التخالف والتحالف .

 

كيفية تحقق الفسخ في العقود :

فقد ذكر السيوطي تفاصيل جيدة حول كيفية فسخ عدد من العقود نذكر بعضها بالقدر الذي يتعلق بموضوعنا ، وهو :

( 1ـ السلم : يتطرق إليه : الفسخ بالإقالة وانقطاع السلم فيه عند الحلول ووجود المسلم إليه في مكان غير محل التسليم ولنقله مؤنة .

2ـ القرض : يتطرق إليه بالفسخ قبل التصرف فيه.

3ـ الرهن : يتطرق إليه الفسخ بالإقالة وهو معنى قولهم : وينفك بفسخ المرتهن وبتلف المرهون وبتعليق حق الجناية برقبته ، وباختلاط الثمرة المرهونة .

4ـ الحوالة : يتطرق إليه الفس فيما لو أحال بثمن مبيع ثبت بطلانه ببينة او بإقرارهما ، والمحتال .

5ـ الضمن : يتطرق إليه الفسخ بإبراء الأصيل الضامن .

6ـ الشركة والوكالة ، والعراية ، والوديعة ، والقراض : كلها تنفسخ بالعزل من المتعاقدين أو أحدهما ، ويجنون كل منهما وإغعمائه ، وتزيد الوكالة ببطلانها بالانكار ، حيث لا غرض فيه .

7ـ الهبة : يتطرق إليها الفسخ بالرجوع في هبة الأصل للفرع ، ولا يحصل بالإقالة .

8ـ الإجارة : يتطرق إليها الفسخ بالإقالة وتلف المستأجر ، كموت الدابة ، وانهدام الدار ، وغصبه في أثناء المدة ، واستمر حتى انقضت ، وقيل : بل يثبت الخيار كما لو لو لم يستمر وموت مؤجر دار أوصى له بها مدة عمره ، أو هي وقف عليه فانتقلت إلى البطن الثاني ، ومضت المدة قبل التسليم ، وشفاء سن وجعة استؤجر لقلعها ، ويد متآكلة استؤجر لقطعها والعفو عن قصاص استؤجر لاستيفائه ، فيما أطلقه الجمهور .

ويثبت فيها خيار الفسخ بظهور عيب تتفاوت به الأجرة ، قديم ، أو حادث .

منه : انقطاع ماء أرض استؤجرت للزرع والغصب ، والإباق حيث لم يستمر ، وموت المؤجر في الذمة ، حيث لا وفاء في التركة وفي الوارث ، وهرب الجمال بجماله ، حيث يتعذر الاكتراء عليه.)  .

 

صور فسخ الدّين بالدّين ، أو في الدين ، وتقسيماته:

لفسخ الدين في الدين صور كثيرة باعتبارات كثيرة :

التقسيم الأول : باعتبار سبب الفسخ :

وقد ذكر الإمام السيوطي ثلاثين سبباً لفسخ العقد يباشره العاقد دون الحاكم ، ولكن يمكن جمعها كلها وضبطها في خمسة أنواع ، وهي :

السبب الأول : فسخ الدين بسبب الاتفاق ، وذلك مثل أن يتفق العاقدان في السلم ، أو البيع الآجل ، أو الأجرة المؤجلة ، أو الموصوفة في الذمة ، أو المهر المؤجل على فسخ القعد.

ومن هذا الباب الإقالة حيث تعتبر فسخاً عند الشافعية والحنابلة ، وزفر ، فذهبوا إلى أنها فسخ يقتضي رجوع كل من العوضين إلى صاحبه ، فيرجع الثمن في البيع إلى المشتري والمبيع إلى البائع  .

وذهب المالكية في المشهور عنهم ، وأبو يوسف إلى أن الإقالة بيع ثان في حق العاقيدن وغيرهما ، وبالتالي فلا بدّ أن يتوافر فيها شروط البيع ، إلاّ إذا تعذر جعلها بيعاً فحينئذٍ تكون فسخاً مثل أن تقع الإقالة في الطعام قبل قبضه  في حين ذهب إلى عكس ذلك محمد بن الحسن الشيباني حيث اعتبرها فسخاً إلاّ إذا لم يمكن جعلها فسخاً فتجعل بيعاً للضرورة  .

وذهب أبو حنيفة إلى أنها فسخ في حق العاقدين ، وبيع في حق غيرهما  .

والراجح أن الأصل في الإقالة أنها فسخ ، لأن معنى الإقالة في اللغة التي وردت بها أحاديث الإقالة هي الفسخ والرفع ، وأن الأصل في مثل هذه الأمور أن اللفظ يبقى على معناه اللغوي إلاّ إذا دل دليل على إرادة معنى آخر ، ناهيك عن استعمال الإقالة في الشرع ، إضافة إلى أن البيع مختلف اسماً ومحتوى ومعنى مع الإقالة فلا بدّ أن يختلفا في الحكم ، يقول الكاساني : (هذا هو الأصل ، فإذا كانت الإقالة رفعاً لا تكون بيعاً ، لأن البيع إثبات ، والرفع نفي ، وبينهما تناف، فكانت الإقالة على هذا التقدير فسخاً محضاً…في حق كافة الناس)  .

ولكن هذا الأصل تستثى منه : حالة ما إذا لم يمكن حمل الإقالة على الفسخ بأن تكون في حق غير العاقدين ، أو كانت بزيادة أو نقصان مشروع فحينئذٍ تحمل على البيع اعتباراً بالمآل والمقصود وتطبيقاً للقاعدة القاضية بأن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني ، وحفظاً لعبارة المكلف وصوناً لها من الإلغاء والإهمال .

آثار هذا الاختلاف :

فقد ذكر الإمام الكاساني آثار هذا الاختلاف نذكرها لأهميتها فقال : (وثمرة هذا الاختلاف إذا تقايلاولم يسميا الثمن الأول أو سميا زيادة على الثمن الأول أو أنقص من الثمن الأول أو سميا جنساً آخر سوى الجنس الأول قل أو كثر أو أجلا الثمن الول فالإقالة على الثمن الأول في قول أبي حنيفة رحمه الله وتسمية الزيادة والنقصان والأجل والجنس الآخر باطلة سواء كانت الإقالة قبل القبض أو بعدها والمبيع منقول أو غير منقول لأنها فسخ في حق العاقدين والفسخ رفع العقد ، والعقد وقع بالثمن الأول فيكون فسخه بالثمن الأول ضرورة لأنه فسخ ذلك العقد وحكم الفسخ لا يختلف ما قبل القبض وبين ما بعده وبين المنقول وغير المنقول وتبطل تسمية الزيادة والنقصان والجنس الآخر والأجل وتبقى الإقالة صحيحية ، لأن إطلاق تسمية هذه الأشياء لا يؤثر في الإقالة ، لأن الإقالة لا تبطلها الشروط الفاسدة .

وبخلاف البيع لأن الشرط الفاسد إنما يؤثر في البيع لأنه يمكن الربا فيه ، والإقالة رفع البيع فلا يتصور تمكن الربا فيه فهو الفرق بينهما .

وقي قول أبي يوسف : إذا كان بعد القبض فالإقالة على ما سميا لأنها بيع جديد كأنه باعه فيه ابتداء ، وإن كان قبل القبض والمبيع عقاراً فكذلك لأنه يمكن جعله بيعاً ، لأن بيع العقار قبل القبض جائز عنده ، وإن كان منقولاً فالإقالة فسخ ، لأنه لا يمكن جعلها بيعاً ، لأن بيع المبيع منقول قبل القبض لا يجوز .

وروي عن أبي يوسف : أن الإقالة بيع على كل حال فكل ما لا يجوز بيعه لا تجوز إقالته ، فعلى هذه الرواية لا تجوز الإقالة عنده في المنقول قبل القبض لأنه لا يجوز بيعه ، وعند محمد إن كان قبل القبض فالإقالة تكون على الثمن الأول وتبطل تسمية الزيادة على الثمن الأول والجنس الآخر والنقصان والأجل يكون فسخاً كما قاله أبو حنيفة رحمه الله لأنه لا يمكن جعلها قبل القبض بيعاً لكن بيع المبيع قبل القبض لا يجوز عنده منقولاً كان أو عقاراً .

وإن كان بعد القبض ، فإن تقايلامن غير تسمية الثمن أصلاً او سميا الثمن الأول من غير زيادة ولا نقصان ، أو نقصا عن الثمن الأول فالإقالة على الثمن الأول وتبطل تسمية النقصان وتكون فسخاً أيضاً كما قال أبو حنيفة رحمه الله أنها فسخ في الأصل ، ولا مانع من جعلها فسخاً فتجعل فسخاً ، وإن تقايلاعن الزيادة أو على الثمن الأول أو على جنس آخر سوى جنس الثمن الأول قل أو كثر ، فالإقالة على ما سميا ويكون بيعاً عنده لأنه لا يمكن جعلها فسخاً ههنا ، لأن من شأن الفسخ أن يكون بالثمن الأول وإذا لم يمكن جعلها فسخاً تجعل بيعاً بما سميا ، بخلاف ما إذا تقايلاعلى أنقص من الثمن الأول أن الإقالة تكون بالثمن الأول عنده وتجعل فسخاً ولا تجعل بيعاً عنده ، لأن هذا سكوت عن نقص الثمن وذلك نقص الثمن ، والسكوت عن النقص لا يكون أعلى من السكوت عن الثمن الأول ، وهناك يجعل فسخاً لا بيعاً فههنا أولى ، والله عزوجل أعلم .

وعلى هذا يخرج ما إذا كان المشترى داراً ولها شفيع فقضى له بالشفعة ثم طلب منه المشتري أن يسلم الشفعة بزيادة على الثمن الأول أو بجنس آخر أن الزيادة باطلة .

وكذا تسمية الجنس الآخر عند أبي حنيفة ومحمد وزفر رحمهم الله ، لأنه لما قضي للشفيع بالشفعة فقد انتقلت الصفقة إليه بالثمن الأول ، فالتسليم بالزيادة على الثمن الأول ، او بجنس آخر يكون إقالة على الزيادة على الثمن الأول أو على جنس آخر فتبطل التسمية ويصح التسليم بالثمن الأول عندهما وإنما اتفاق جوابهما ههنا على أصل محمد لأنه يرى جواز بيع المبيع العقار قبل القبض فيبقى فسخاً على الأصل ، وعند أبي يوسف : الزيادة صحيحة .

وكذا تسمية جنس آخر ، لأن الإقالة عنده بيع ولا مانع من جعلها بيعاً فتبقى بيعاً على الأصل ، ولو تقايلاالبيع في المنقول ، ثم إن البائع باعه من المشتري ثانياً قبل أن يسترده من يده يجوز البيع ، وهذا يطرد على أصل أبي حنيفة ومحمد وزفر ، أما على أصل زفر فلأن الإقالة فسخ مطلق في حق الكل .

وعلى أصل أبي حنيفة فسخ في حق العاقدين والمشتري أحد العاقدين ، وعلى أصل محمد فسخ عند عدم المانع من جعله فسخاً ولا مانع ههنا من جعله فسخاً بل وجد المانع من جعله بيعاً ، لأن بيع المبيع المنقول قبل القبض لا يجوز فكانت الإقالة فسخاً عندهم فلم يكن هذا بيع المبيع المنقول قبل القبض فجاز .

وأما على أصل أبي يوسف فلا يطرد ، لأن الإقالة عنده بعد القبض بيع مطلق وبيع المبيع المنقول قبل القبض لا يجوز بلا خلاف بين أصحابنا فكان هذا الفعل حجة عليه إلاّ أن يثبت عنه الخلاف فيه .

ولو باعه من غير المشتري لا يجوز ، وهذا على أصل أبي حنيفة وأبي يوسف يطرد ، أما على أصل أبي يوسف فلأن الإقالة بعد القبض بيع جديد في حق العاقدين وغيرهما إلاّ لمانع ولا مانع من جعلها بيعاً ههنا لأننا لو جعلناها بيعاً لا تفسد الإقالة لأنها حصلت بعد القبض فتجعل بيعاً فكان هذا بيع المنقول قبل القبض فلم يجز .

وأما على أصل أبي حنيفة فهي وإن كانت فسخاً لكن في حق العاقدين ، وأما في حق غيرهما فهي بيع والمشتري غيرهما فكان بيعاً في حقه فيكون بيع المبيع المنقول قبل القبض.

وأما على أصل محمد وزفر فلا يطرد لأنها عند زفر فسخ في حق العاقدين وغيرهما وعند محمد الأصل فيها الفسخ إلاّ لمانع ولم يوجد مانع فبقى فسخاً في حق الكل ولم يكن هذا بيع المنقول قبل القبض فينبغي ان يجوز ، وإن كان المبيع غير منقول والمسألة بحالها جاز بيعه من غير المشتري أيضاً على أصل أبي حنيفه وأبي يوسف ، وكذا على قياس أصل محمد ، لأن على أصله الإقالة بيع في حق الكل إلاّ أن لا يمكن وههنا يمكن لما قلنا.

وعلى أصل أبي حنيفة : بيع في حق غير العاقدين فكان هذا بيع المبيع العقار قبل القبض وأنه جائز عندهما ، وعلى أصل محمد فسخ إلاّ عند التعذر ولا تعذر ههنا لأنها حصلت بعد القبض على الثمن الأول فبقيت فسخاً فلم يكن هذا بيع المبيع قبل القبض ، بل بيع المفسوخ فيه البيع قبل القبض ، وهذا جائز عنده منقولاً كان أو غير منقول ، وعند زفر هو فسخ على الاطلاق فلم يكن بيعه بيع المبيع المنقول قبل القبض فيجوز .

وعلى هذا يخرج ما إذا اشترى داراً ولها شفيع فسلم الشفعة ثم تقايلاالبيع أو اشتراهما ولم يكن بجنبها دار ثم بنيت بجنبها دار ثم تقايلا البيع ، فإن الشفيع يأخذها بالشفعة عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، لأن الإقالة بيع جديد في حق الكل على أصل أبي يوسف ولا مانع من جعلها بيعاً .

وعلى أصل أبي حنيفة بيع في حق غير العاقدين والشفيع غيرهما فيكون بيعاً في حقه فيستحق ، وأما على قياس أصل محمد وزفر لا يثبت حق الشفعة ، لأنها فسخ مطلق على أصل زفر .

وعلى أصل محمد فسخٌ ما أمكن ، وههنا ممكن والشفعة تتعلق بالبيع لا بالفسخ كالرد بخيار الشرط والرؤية ونحو ذلك ، ولو تقايلا ، ثم وهب البائع المبيع من المشتري قبل الاسترداد وقبل المشتري جازت الهبة وملكه المشتري ولا تنفسخ الإقالة ، ولو كان هذا في البيع لا تجوز الهبة وينفسخ البيع بأن وهب المشتري المبيع قبل القبض من البائع وقبله البائع ، وهذا يُشكل على أصل أبي يوسف لأنه أجرى الإقالة بعد القبض مجرى البيع ، ولو كانت كذلك لما جازت الهبة ولكانت فسخاً للإقالة كما كانت فسخاً للبيع .

ثم الفرق على أصل من يجعلهما فسخاً ظاهراً ، لأن الفسخ لا يحتمل الفسخ فلا يمكن جعل الهبة مجازاً عن الإقالة فلا تنفسخ الإقالة بخلاف البيع فإنه يحتمل الفسخ فأمكن جعل الهبة مجازاً عن إقالة البيع .