الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعامين محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين

وبعد

 فإن كون الشريعة الإسلامية واجبة التطبيق في كل زمان ومكان يقتضي صلاحيتها لهذا الدور من خلال نصوصها العامة ، ومبادئها العظيمة ، وقواعدها الكلية ، وهذا ما أثبتتها العصور السابقة التي تعاملت معها ، ومختلف الأعراق والأجناس والألوان التي طبقت عليها ، ومختلف الظروف التي تكيفت معها .

 وفي عصرنا الحاضر ازدادت المستجدات بشكل لم يسبق لها مثيل ، وبلغ حجم النوازل والقضايا الجديدة خلال النصف الأخير من القرن العشرين كل ما سبقه منذ الحقب البائدة ن وبالأخص في مجالات الاقتصاد والطب والعلوم .

  ومن هذه المستجدات مسألة الأسهم والصكوك (السندات المشروعة) والوحدات الاستثمارية ، حيث اعتورتها أحكام كثيرة ، من أهمها وأخطرها حينما تتضمن هذه الأسهم أو الصكوك ، أو الوحدات الاستثمارية نقوداً ، او ديوناً ، أو بعبارة أخرى تصبح النقود أو الديون ، أو كلاهما مجتمعين تشكل نسبة كبيرة من محتوياتها ، وليس هذا أمراً عرضياً أو أنه لا يشكل مشكلة ، بل إنه يشكل مشكلة كبيرة ، حيث تشكل الديون او النقود  ، او كلاهما هما نسبة عالية جداً قد تصل إلى 95% في معظم البنوك الإسلامية .

 لذلك نوقشت هذه المسألة في عدة ندوات وملتقيات ، ولكنها يبدو أنها لا زالت تحتاج إلى مزيد من البحث والدراسة .

 ونحن في هذه الدراسة نتطرق إلى التعريف بالأصالة والتبعية ، والأدلة على اعتبار هذه القاعدة ، والفرق بينها وبين قاعدة القلة والكثرة وقاعدة الندرة والغلبة ، والضابط الشرعي للتبعية الموجبة للترخيص ، والتعريف بقاعدة : (يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها ، وتحديد نطاق الاغتفار بموجب التبعية ، وتطبيقاتها في الغرر ، وربا البيوع ، وما يلحق بذلك ثم نختم الدراسة بمدى صلاحية هذه القاعدة لحل مشكلة تداول الأسهم والصكوك والوحدات الاستثمارية التي تشكل الديون أو النقود ، أو كلاهما جزءاً أساسياً ، أو كبيراً من مكوناتها .

 والله أسأل أن يكتب لنا التوفيق في جميع أعمالنا ، ويجعلها خالصة لوجهه الكريم ، ويعصمنا عن الخطأ والزلل في العقيدة والقول والعمل ، إنه حسبي ومولاي فنعم المولى ونعم النصير .

                                                                     كتبه الفقير إلى ربه

علي بن محيى الدين القره داغي

29 جمادى الآخرة 1424هـ الدوحة

معنى الأصالة والتبعية :

 الأصالة لغة : مصدر أصُل بضم الصاد ، وأصل الشيء هو أساسه الذي يقوم عليه الشيء ، ومنشؤه الذي ينبت منه ، وجمعه أصول ، وأصول الفقه هي القواعد التي تبنى عليها الأحكام ، ويقال : أصل الشيء ـ بفتح الصاد المشددة ـ أي جعل له أصلاً ثابتاً يبنى عليه[1].

 والفقهاء يطلقون الأصل على عدة معان منها قولهم : إن الكفالة تشغل ذمة الأصيل والكفيل ، وأن الحوالة توجب براءة الأصيل عند جمهورهم[2] ، ومنها الأصل كذا ؛ أي القاعدة العامة .

والتبعية نسبة إلى التبع ، من تبع الشـيء تبعاً ، وتبوعاً ، أي سـار في أثره أو تلاه ، أو اقتدى به[3].

وفي الاصطلاح الفقهي يقصد بالأصالة والتبعية هو أن الأصالة يعنى بها كون الشيء أساساً ومقصوداً بذاته وغير مرتبط بغيره ،وأن التبعية هي كون الشيء مرتبطاً بغيره بحيث يدخل فيه،أو لا ينفك عنه .

 والخلاصة أنه يقصد بالأصالة هنا ما كان الشيء بذاته هو المقصود الأساس في العقد ، أو على الأقل يكون مقصوداً ، أي أن نية العاقدين كانت متجهة عليه أصالة ، فمثلاً الذي يشتري المنـزل يكون قصده الأساس ما هو المعد للسكن دون ملحقاته من الأشجار ونحوها .

 وأما التبعية فالمقصود بها هنا ما يدخل في الشيء تبعاً مثل الحمل بالنسبة لشراء الحيوان الحامل ،   فالتبعية هي كون الشيء مرتبطاً بغيره إما ارتباطاً يتعذر انفراده مثل الحمل مع الحامل ، ولذلك تحصل ذكاة الجنين بذكاة أمه عند الجمهور أو يمكن انفصاله ولكن له ارتباط به عن متبوعه مثل مرافق المنـزل ونحوها[4].

وقد انبثقت عدة قواعد فقهية منها :

أ . التابع تابع ، والتابع لا يفرد بالحكم ، وهي القاعدة التي ذكرتها مجلة الأحكام العدلية في مادتها 48 والمقصود بذلك أن التابع المرتبط بمتبوعه لا يفرد بالحكم مثل الحمل فلا يجوز بيعه منفرداً ، ومما يذكر مع هذه القاعدة : ( التابع لا يفرد بالحكم ما لم يصر  مقصوداً ) مثل زوائد المبيع المنفصلة المتولدة إذا حدثت قبل القبض تكون تبعاً للمبيع ، ولا يقابلها شيء من الثمن ، ولكن لو اتلفها البائع سقطت حصتها من الثمن فيقسم الثمن على قيمة الأصل يوم العقد وعلى قيمة الزيادة يوم الاستهلاك[5].

ب . من ملك شيئاً ملك توابعه مثل ملحقات الدار والحمل .

جـ . التابع يسقط بسقوط المتبوع مثل إذا سقطت صلاة الفرض بالجنون سقطت سننها الراتبة[6].وإذا برئ الأصل برأ الكفيل .

د . يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في المتبوع ، ومن فروعها : أن النسب لا تثبت ابتداءً بشهادة النساء أما لو شهدن بالولادة على الفراش فقد ثبت النسب تبعاً حتى ولو كانت الشاهدة القابلة وحدها[7].

 ومنها جواز رمي المسلمين الذين تترس بهم الكفار تبعاً ، ولا يجوز أصالة[8] ، ومنها أن بيع الثمرة التي لم يبد صلاحها جائز مع أصلها ، ولكن لا يجوز بيعها دونه ، لما في ذلك من الغرر ، قال ابن قدامه : ( لأنه إذا باعها مع الأصل حصلت تبعاً في البيع فلم يضر احتمال الغرر فيها )[9] .

الأدلة على اعتبار هذا الأصل :

  يدل على اعتبار هذه القاعدة استقرار فروع الفقه الإسلامي وجزئياته ومسائله التي اعتبرت في عدد غير يسير منها رعاية الأصالة والتبعية .

  ويدل على ذلك أيضاً الحديث الصحيح المتفق عليه  الذي رواه الشيخان بسندهما عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله r يقول : ( من ابتاع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلاّ أن يشترط المبتاع ، ومن ابتاع عبداً وله مال فماله للذي باعه إلاّ أن يشترطه المبتاع )[10] ، فالحديث يدل بوضوح على جواز بيع ثمرة النخل مطلقاً ( بدا صلاحها أم لا) إذا كانت تبعاً للنخل في حين أنه لا يجوز بيعها منفردة إلاّ بعد بدو صلاحها كما يدل على أنه لا ينظر عند بيع العبد الذي معه مال إلى نوعية ماله نقداً ، أو عرضاً ، أو ديناً ، أو ربوياً أو غيره ، فقد ذكر الحافظ ابن حجر أن اطلاق الحديث يدل على جواز بيعه ولو كان المال الذي معه ربوياً ، لأن العقد وقع على العبد خاصة ، والمال الذي معه تبع له لا مدخل له في العقد [11].

 وهذا رأي مالك حيث قال : ( الأمر المجتمع عليه عندنا أن المبتاع إن اشترط مال العبد فهو له نقداً كان أو ديناً ، أو عرضاً يُعلم أو لا يُعلم وإن كان للعبد المال من أكثر مما اشترى به كان ثمنه نقداً أو ديناً أو عرضاً …. )[12].

 وكلا م مالك هذا يدل على عدم اشترط كون المال التابع أقل من ثمنه ، وفي هذا دلالة على عدم النظرة إلى الكثرة والقلة عند كون الشيء تابعاً .

 قال ابن القاسم ، عن مالك يجوز أن يشترى العبد وماله بدراهم إلى أجل وإن كان ماله دراهم ، أو دنانير ، أو غير ذلك من العروض[13] . وفي هذا دلالة على عدم اشتراط أحكام الصرف ما دامت دراهمه ودنانيره وذهبه وفضته تبعاً للعبد حتى ولو كان ثمنه من نفس الجنس .

أ . فعلى ضوء رأي مالك أنه لا يشترط لصحة ذلك البيع أن يكون القصد متجهاً نحو العبد فقط ، وإنما الحكم هو أنه إذا اشترى العبد ومعه مال أي مال بأي ثمن كان فإن العقد صحيح وأن ماله للمشتري إن اشترط وإلاّ فلسيده ، قال ابن عبدالبر : ( ويجوز عند مالك شراء العبد وإن كان ماله دراهم بدراهم إلى أجل وكذلك لو كان ماله ذهباً أو ديناً )[14] .

 وهذا قول الشافعي في القديم ، وأبي ثور وأهل الظاهر[15] ، وقال الشاطبي : ( فالحاصل أن التبعية للأصل ثابتة على الاطلاق )[16]. وقد ذكر النووي أنه لو باع داراً بذهب ، فظهر فيها معدن ذهب …صح البيع على الأصح ، لأنه تابع)[17].        

ب . وذهب عثمان البتي إلى رعاية القصد حيث قال : ( إذا باع عبداً وله مال ألف درهم بألف درهم جاز إذا كانت الرغبة في العبد لا في الدرهم )[18] .

 وهذا هو المنصوص عن أحمد حيث ذكر الخرقي أن البيع صحيح وإن كان مع العبد مال أي مال بشرط أن يكون قصده للعبد ، لا للمال ، وهذا منصوص أحمد وهو قول الشافعي ـ أي في القديم ـ وأبي ثور وعثمان البني ، فمتى كان كذلك صح اشتراطه ودخل في البيع به سواء كان ديناً أو عيناً وسواء كان مثل الثمن أو أقل أو أكثر[19] .

 ج. وذهب إلى عدم صحة ذلك مطلقاً الحنفية ، والشافعي في الجديد ، لما فيه من الربا[20] ولحديث فضالة بن عبيد الأنصاري الذي اشترى قلادة فيها ذهب وخرز بذهب فذكر ذلك لرسول الله r فأمر بنـزع الذهب فقال : ( الذهب بالذهب وزناً )[21].

 ولكن الحديث واضح في دلالته على أن شراء الذهب كان مقصوداً أصالة لفضالة فيختلف عن موضوع العبد ، ولا تعارض بينهما ، فمسألة مال العبد داخلة في التبعية التي لا جدال فيها .

  ومما يتعلق بهذا الموضوع ما يسميه الفقهاء بمسألة ” مد عجوة ” وهي أن يبيع مالاً ربوياً ـ كالدراهم والدنانير ـ بجنسه ومعهما أو مع أحدهما ما ليس من جنسه ، مثل أن يكون غرضهما بيع دراهم بدراهم فيبيع كيلو من التمر مع عشرة دراهم بخمسة عشر درهماً مثلاً ، فهذا غير جائز وغير صحيح عند المالكية والشافعية والحنابلة ، وأجازه الحنفية[22].

 ولكن شيخ الإسلام طبق على هذه المسألة أيضاً مسألة التبعية والأصالة ، ومسألة الحيل ، فقال :     ( وأما إن كان كلاهما مقصوداً كمد عجوة ودرهم بمد عجوة ودرهم ، أو مدين ، أو درهمين ففيه روايتان عن أحمد ، والمنع قول مالك والشافعي ، والجواز قول أبي حنيفة وهي مسألة اجتهاد)[23].

 وقد فرق المالكية بين مسألة ” مد عجوة ” التي حرموها وبين بيع العبد الذي له مال من النقود والديون بالنقود ، مع أنهم أجازوه ـ كما سبق ـ بأن موضوع العبد داخل في باب التبعية ، لأن  العبد هو المقصود بالبيع وليس ماله إضافةً إلى أن الحديث الوارد فيه واضح الدلالة على الجواز مطلقاً ، وليس هناك دليل يقيده في نظرهم فيبقى على اطلاقه ، كما أن ذلك يحقق مصالح معتبره ، حيث قال الإمام أبو بكر بن العربي : ( إن ما جاء في مال المملوك ينبني على القاعدة العاشرة وهي المقاصد ، والمصالح التي تقتضي جوازه ، لأن المقصود ذاته ، لا ماله ، والمال وقع تبعاً )[24].

اعلى الصفحه

الفرق بين قاعدة الغلبة والكثرة ، وقاعدة الندرة والغلبة وبينهما وبين قاعدة التبعية :

 وقد فرق بعض الباحثين بين الغلبة والكثرة بأن الغلبة هي ما يقرب من الكل مثل الثمانين أو التسعين في المائة[25] ، وأن الكثرة هي ما زاد عن 50 % .

ولم أرَ هذه التفرقة في اللغة ، بل جاء فيها : الأغلب هو الأكثر ، والأغلبية : الكثرة[26] ، وجاء في المعجم الوسيط ” الأغلبية الكثرة ، والأغلبية المطلقة في الانتخاب أو الاقتراع : أصوات نصف الحاضرين بزيادة واحد ( محدثة ) والأغلبية النسبية : زيادة أحد المرشحين في الأصوات بالنسبة إلى غيره. ( محدثة )[27] . وعرف التهانوي التغليب في الاصطلاح بأنه ( إعطاء الشيء حكم غيره وقيل : ترجيح أحد المغلوبين على الآخر إجراء للمختلفين مجرى المتفقين )[28].

وأما الأكثر في اللغة فهو ما فوق النصف ، والأكثرية الأغلبية ، والكثر : معظم الشيء وأكثره ، والكثرة نماء العدد ، والكثير نقيض القليل[29].

 والخلاصة أن الكثرة تطلق في اللغة على ما هو كثير حسب النظر والعرف دون ملاحظة النسبة المئوية بأن تزيد على 50% ، فالعرب يطلقون على الشيء أنه كثير ، ولا يتصورون انه أكثر من الباقي أو الآخر ، وإنما يراد به أنه كثير في حد ذاته ، فالكثير هو نقيض القليل ، فما خرج عن كونه قليلاً فهو كثير دون ملاحظة النسبة المئوية ، جاء في لسان العرب : الكثرة نقيض القلة ..وقوم كثير، وكثيرون ، والكثرة نماء العدد يقال : كثر الشيء يكثر كثرة فهو كثير ، وكثر الشيء ـ بتشديد الثاء ـ أي جعله كثيراً ، وأكثر الرجل أي كثر ماله)[30] . 

 فالكثرة تعني ضد القلة ،والكثير هو ما لم يكن قليلاً حسب النظر والعرف والحال والمقام ، وأما التفاضل فهو يتم بلفظ الأكثر الذي هو من صيغ المفاضلة ، لذلك خصص العرب الأكثر لما هو فوق النصف[31] ، فيقال هذا اكثر من هذا أي يتفوق عليه ويزيد عليه بأي زيادة ، وهذا يجري عادة في المقابلة بين شيئين متماثلين ، أو معدودين ، وقد يكون الشيء كثيراً بالنسبة لهذا ، وقليلاً بالنسبة لذلك ،وهذا ما استعمله القرآن الكريم حيث قال : (ألم تر ان الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض ..وكثير من الناس ، وكثير حق عليه العذاب …)[32] فاستعمل الكثير مرتين مرة للمساجد ،ومرة للمستحقين للعذاب من الكفرة والمشركين ، فكيف يتأتى ذلك ؟

 للجواب عن ذلك أن المراد بالكثير هنا هو ما قاله ابن عباس في رواية عطاء : (وكثير من الناس يوحده وكثير حق عليه العذاب ممن لا يوحده)[33] النص يفهم منه أن هذه الكثرة للفريقين ليست من باب المقابلة ،أي فالذين يسجدون سجدة الطاعة ،ويدخلون الجنة كثيرون ، وكذلك الذين يدخلون النار كثيرون أي ليسوا قليلين ، كما يقال للجيشين المتقابلين أنهما كثيران ، حيث لا يقصد بذلك إلاّ الكثرة العادية التي لا ينظر إليها المقابلة الحقيقية ،أو الكثرة العرفية أي أن ذلك كثير عرفاً .

 وعلى هذا المعنى العام ،والعرفي يحمل حديث رسول الله r حينما قال لسعد : (الثلث ،والثلث كثير)[34] حيث لا يقصد به أن الثلث كثير بالنسبة للباقي ، وإنما يقصد به أنه انفاق كثير وتبرع كبير حسب العرف دون النظر إلى المقابلة بينهما ، وإلا فالثلث هو يساوي حوالي 33% والباقي حوالي 67% . ولذلك إذا أريد الزيادة فيستعمل لفظ الأكثر لهذه المفاضلة والمقابلة .

 فلو سرنا على هذا المعنى فيمكن القول بأن الأعيان والمنافع والحقوق المعنوية لو بلغت الثلث ، او تجاوزته فهي كثيرة وليست قليلة ،وبالتالي يجوز إجراء العقود عليها دون ملاحظة قواعد الصرف ، والدين .     

  ولكن بعض الفقهاء يذكرون النادر في مقابل الغالب ، حيث قالوا ( العبرة بالغالب ، والنادر لا حكم له ) ولكن أكثرهم عندما يذكرون النادر يصفون الغالب بالشايع فيقولون ( العبرة بالغالب الشايع ، لا بالقليل النادر )[35] ، ولكنني أرى تفرقة وجيهة أخرى في نظري من جانب آخر ، وهو أن الكثرة للأعداد ، والماديات ، والغلبة للكيفيات ونحوها ، ولذلك يطلق الفقهاء غلبة الظن في كثير من الأحكام الفقهية وفي معظم أبواب الفقه مثل أبواب الطهارة ، والحيض ، والقبلة ، وأوقات الصلاة ، والشك في عدد الركعات ، وفي تميز الفقير وغيره من أصناف الزكاة ، معرفة دخول شهر رمضان ، وطلوع الفجر ، وغروب الشمس للصائم إذا اشتبه عليه ذلك يحبس ونحوه ، وفي الحج إذا شك الحاج هل أحرم بالإفراد ، أو بالتمتع ، أو بالقران ، وفي مَنْ التبست عليه المذكاة بالميتتة ، أو وجد شاة مذبوحة ببلد فيه من تحل ذبيحته من المسلمين وأهل الكتاب ، ووقع الشك من ذابحها ، وفي الدماء في باب القسامة ، ونحو ذلك[36]  ، ويتبين من ذلك أن الكثرة العددية معتبرة ، كما أن الغلبة الكيفية من حيث القوة أيضاً معتبرة ، إذن يمكن اعتبارهما قاعدتين معتبرتين بدل قاعدة واحدة ، يقول القرافي : (اعلم أن الأصل اعتبار الغالب وتقديمه على النادر ، وهو شأن الشريعة)[37] ويقول ابن العربي : (والفرق بين القليل والكثير أصل في الشريعة معلوم)[38] .

وأما الفرق بين ما ذكر وبين قاعدة التبعية فهو أن التبعية أعم ، أي أن ما بينهما علاقة العموم والخصوص المطلق ، فقاعدة التبعية أعم من قاعدة القلة والكثرة ، والندرة والغلبة ، فالقليل تابع للكثير ، والنادر تابع للغالب كقاعدة عامة ، ولكن ليس كل تابع داخلاً في القليل ، أو النادر ، إذ أن التابع قد يتحقق بغير ذلك كما سيأتي .

LinkedInPin