الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين
صاحب الفضيلة الأستاذ الدكتور / يوسف القرضاوي / رئيس الاتحاد .
أصحاب الفضيلة والسماحة إخواني وأخواتي ، الحضور الكرام أرحب بكم ، أجمل ترحيب وأحييكم بتحية مباركة طيبة من عند الله تعالى فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته .
لا يسعنا ونحن في ظلال هذه الدولة العزيزة ، جمهورية تركيا ، وفي هذا البلد الطيب الكريم استنبول الذي يعجز عن جلالِه وجمالِه اللسانُ ويستحضر الجَنانُ فاتحه السلطان محمداً بالرحمة والغفران ، ومن تبعه من آل عثمان، وتقر العين بحضارته الرائدة وعزة قادته الشامخة وتنبهر الأبصار اليوم بما حققه قادته المعاصرون من هذه النهضة الرائعة الرائدة الجامعة الهادئة الهادفة ملتزمين بالقيم وبالوقوف مع الحق مهما كانت الأثمان غالية ، فلا يسعنا إلا أن نقدم بعد الحمد لله تعالى الشكرَ الجزيلَ والثناء العامر للشعب التركي العظيم ، ورئيسه المنتخب ، الأستاذ رجب طيب أردوغان ، ورئيس الجمهورية المنتهية ولايته الأستاذ عبد الله جول والحكومة التركية على تهيئة الظروف المناسبة لعقد هذا المؤتمر والخدمات الجليلة التي قدموها ويقدمونها لاتحادكم الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ، فجزاهم الله عنا خيراً .
والشكر والدعاء لحضراتكم حيث تجشمتم عناء السفر ، وتحملتم الكثير في سبيل المساهمة في هذا المؤتمر ، فالله تعالى هو القادر على جزاكم بالجنة والرضوان ، فقال تعالى (ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون) وقال قبله (إن الله لا يضيع أجر المحسنين ) .
شكرتُ جميل صنعكم بدمعي ودمع العين مقياس الشعور
لأول مـرة قــد ذاق جـفــنـي على ما ذاقــه دمــــــعَ السرور
سادتي وسيداتي الكرام
لا يخفى على شريف علمكم أحوال أمتنا الإسلامية التي تواجه مجموعة كبيرة من التحديات الداخلية من التفرق والتمزق والتخلف والفقر والمجاعة بالإضافة إلى التحديات الخارجية التي تتمثل في المشروعات الصهيونية الصليبية الوثنية والأطماع الاقتصادية والسياسية الغربية والشرقية والهيمنة على إرادتنا وثرواتنا ومواردنا .
وقد رأينا جميعاً حالة ضعف الأمة ومعظم حكامها في غزة العزة ، حيث تآمر مع الصهاينة بعض الحكام، و ناصروهم وتولوهم على إخوانهم المجاهدين الأبطال حماس والجهاد وكافة فصائل المقاومة ، وفعلوا ما يندى له جبينهم أمام الله سبحانه وتعالى ، ثم أمام التاريخ الذي لا يرحم ، في حين وقفت بعض الدول مثل تركيا وقطر وبعض دول أمريكا اللاتينية وقفة مشرفة ، وفي بطن هذه المحنة الشديدة كانت المنحة الربانية المتمثلة بالجهاد البطولي والإبداعي بصمود هؤلاء المجاهدين الأبطال وأهلنا في غزة بصورة خاصة ، وفلسطين كلها بصورة عامة ، حتى فشلت خطة الصهاينة أمام الصمود ، والإبداع والمفاجآت التي هي كرامات لأولياء الله لكل ما تعني هذه الكلمات ، وكأن سورة الأحزاب نزلت فيهم ، فلو قرآت الآيات الكريمة من الآية 8 إلى الآية 27 فكأنك تعيش في هذا الجو حيث تتحدث عن ثبات المؤمنين وهم قلة أمام اليهود والقبائل العربية (ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً) . كما تحدثت عن المنافقين (وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا) ثم النتيجة (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا) ، ربما كان الفارق الكبير هو أن الأحزاب لم يستعملوا الأسلحة المدمرة في حين أن الصهاينة استعملوا كل أسلحتهم المتطورة .
كما أن ضعف الأمة وقادتها يظهر في مأساة الشعب السوري التي تعتبر بحق مأساة القرن الواحد والعشرين ، ومأساة الشعب العراقي حيث التهجير والإقصاء للسنة ، ونأمل عهداً جديداً في ظل حكومة العبادي ، وكذلك مأساة الشرعية في مصر ، والإعدامات والاعتقالات ، ومأساة إخواننا في ميانمار ، وأفريقيا الوسطى الذين يهددون بالإبادة الجماعية ، وكذلك إخواننا في كشمير والصومال وإرتيريا وبنجلاديش وغيرها ، فأينما تتجه تجد مآسي المسلمين ، ونرى دماءهم التي تسال كالأنهار ، وإنا لله وإنا إليه راجعون .
ولكن مما لا شك فيه أن أخطر تحدٍ هو التحدي الداخلي وبخاصة تحدي التفرق والتمزق والتشرزم الذي أصاب هذه الأمة ، حيث استطاع أعداء الإسلام أن يقضوا على خلافة عثمانية كانت رمزاً لوحدة الأمة من خلال مؤامرات التفريق على أساس القوميات حيث ضربوا أكبر مكونين لهذه الأمة بعضهما بالبعض وهما العرب والترك في بداية القرن العشرين وفي بداية القرن الواحد والعشرين يعيد التاريخ نفسه ولكن مع تغيير الأدوات والآليات وهو ضرب السنة بالشيعة وبالعكس لتسقط الاثنتان معاً ، وليكون الرابح الوحيد هو أعداء الإسلام وأكثر من ذلك وأخطره هو ضرب الإسلام السني في ظل شعار الإسلام نفسه، من المتشددين التكفيريين ومن المنحرفين الضالين كما شاهدناه في بعض الدول العربية والإسلامية .
إن ما يفعله هؤلاء المتشددون في سورية واليمن والعراق وليبيا وتونس قد شوه صورة الإسلام، وأدى إلى ضرب الإسلام الحقيقي، وإبعاده عن أداء دوره الحضاري.
وهذا الأسلوب الجديد في محاربة الإسلام والمسلمين في طياته ثلاثة معان أساسية ، أولها : أن مشروع اللاديني قد فشل ولم تبق فيه حياة حتى يقاوم الإسلام ، ولذلك لابد من اللجوء إلى من يحمل شعار الإسلام نفسه ، وثانيها : أن ذلك دليل على قوة الإسلام وقبوله لدى الشعوب المسلمة ، والأمر الثالث أن هذا المكر ليس جديداً فقد استعمله الجاهليون في عصر الخليفة أبي بكر رضي الله عنه حيث لم يحاربوه باسم اللات والعزى ، وإنما حاربوه باسم الأنبياء الكاذبين (أتواصوا به بل هم قوم طاغون) .
أمام هذه التحديات يأتي دور أولي الأمر بشقيه : العلماء والأمراء ، بحيث إذا صلحا صلحت الأمة ، وإذا فسدا فسدت الأمة .
ونحن هنا نتحدث عن دور العلماء الذي بينه الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) في حديث ثابت فقال : (العلماء ورثة الأنبياء) . فهذه الوراثة ليست خاصة بالعلم ، وإنما هي شاملة لكل فعله وتركه صلى الله عليه وسلم، ما عدا الوحي من الدعوة والتبليغ، وفي بيان الحكم الشرعي وفي الإصلاح والتجديد والتغيير، وفي الحفاظ على نقاء الرسالة الإلهية، وصفاء الوحي ومنهج الاعتدال والوسطية، ومنع الإفراط والتفريط والغلو والانحراف، وفي التيسير على الناس ورفع الحرج؛ لأنهم بمثابة الأنبياء كما أكد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: { علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل } فهم حقاً بمثابة القلب النابض الذي يوصل الدماء الزكية إلى جميع البدن، من الرأس الذي يقصد به في جسد الأمة الأمراء والسياسيون وأهل الرأي والفكر بالإضافة إلى بقية البدن من أفراد الأمة، وهكذا كان العلماء الربانيون المصلحون على مر تاريخنا الإسلامي.
أيها الإخوة والأخوات الكرام
ذلكم هو ما يتمناه الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين منذ تأسيسه في عام 2004 م على يد ثلة من العلماء الكرام برئاسة واقتراح فضيلة العلامة الشيخ يوسف القرضاوي.
وخلال السنوات العشر الماضية قام الاتحاد بأعمال جليلة في مختلف المجالات، ففي السنوات الأولى التي قام أمينه العام السابق الأستاذ الدكتور محمد سليم العوا حفظه الله بجهود عظيمة لمراحل التأسيس والتأطير، ثم سُلمت الأمانة العامة التي انطلقتْ بفضل الله تعالى انطلاقته الكبرى الطيبية برعاية رئيسه الدكتور يوسف القرضاوي ومجلس أمنائه ولجانه، فجزاهم الله خيراً، وسوف يتضمن التقرير هذه الإنجازات التي تأتي في مقدمتها مؤسسة الاتحاد والعناعة بالدعوة، حتى أسلم على يدي دعاة الاتحاد عشرات الآلاف، منهم ملكان من ملوك قبائل ماساي وغيرها، ومنها العناية بالصلح والإصلاح الذي نجح في قرغيزيا وداغستان وغيرهما، ومنها العناية بترسيخ المنهج الوسطي من خلال مؤتمراته في روسيا وغيرها ، ومنها العناية بالتعليم مثل جامعة الاتحاد، ومنها التوسع في الدورات وفتح الفروع في عدد من بلدان العالم الإسلامي، ومنها تثبيت التعايش السلمي والسلم الاجتماعي بين المسلمين وغيرهم، وبخاصة بدعو الأقليات الإسلامية إلى سياسة تأسيس المؤسسات والاندماج الإيجابي، وإعطاء حقوق المواطنة أيضاً.
فالاتحاد ليس مجرد بيانات، وإنما كيان فعال يعمل بكل جهوده لصالح الأمة، بل لصالح الإنسانية كلها، لأننا جميعاً شركاء في هذه الأرض قال تعالى { والأرض وضعها للأنام }.
وأود هنا أن أسجل شهادة يجب أداؤها، وهو أن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ليس ضد أحد من المسلمين، لا حكاماً ولا محكومين، بل يحب لهم الخير ويدعو لهم ، بل لو كانت لهم دعوة مستجابة لخصصوا بها أهل السياسة والرأي والفكر، وإنما هو ضد أعداء الدين، ضد المخططات والمشاريع التي تضر بالأمة وتمزقها، ضد الظلم والطغيان، ضد الاستبداد والاستكبار والعدوان، ومع ذلك يدعو على بصيرة بالحكمة والموعظة الحسنة، ويتبنى الحوار بالتي هي أحسن مع غير المسلمين، فما بالك مع المسلمين.
والعلماء قد أخذ الله تعالى منهم العهد أن يبينوا الحق مهما كان الثمن، فلا يخضعون لسلطان
الأهواء والأمراء ، ولا لسلطان عامة الناس، فقد أمر الله تعالى أن يكونوا ربانيين { ولكن كونوا ربانيين }، وأوجب عليهم الشهادة والقيام بالقسط مع الله تعالى والملائكة بقوله { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط } وفرض عليهم أن يبلغوا الحق ورسالات الله دون خوف من أحد ، قال تعالى { الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه وى يخشون أحداً إلا الله } كما بين أن من أهم واجباتهم الإصلاح بين الناس وتحقيق التعاون بينهم وبذل كل الجهود لتحقيق وحدة الأمة الإسلامية التي هي فريضة شرعية وضرورة واقعية وعقلية ومصلحية، ونبْذُ الفرقة والشقاق والتخلف والاختلاف، فالفرقة سماها االله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم كفراً، وإن كان دون كفر، قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين } وقال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع { لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض }؛لذلك ندعو إلى تطبيق القاعدة الذهبية { فلنتعاون فيما اتفقنا عليه، ونتسامح فيما اختلفنا فيه }.
وأخيراً…
فإن هذه الجمعية العامة الرابعة سوف تناقش وتقيم أعمال الاتحاد خلال هذه السنوات ، و تختار رئيسه، ونوابه، ومجلس الأمناء، والأمين العام، كما أنه يعقد بهامش الجمعية مؤتمر كبير حول دور العلماء في النهوض بالأمة ودور العلماء في تحرير القدس وفلسطين، كل ذلك من خلال إقامة ورشات العمل التي بذلت لإعدادها جهود طيبة، منذ أكثر من ستة أشهر، حيث رتبت محاورها وأسئلتها بشكل مفعل ؛
لتيسير الأمور على الحاضرين، وهذه المحاور كالآتي:
المحور الأول: دور العلماء في تكوين الفكر الوسطي المتجدد.
المحور الثاني: دور العلماء في الحفاظ على الهوية الإسلامية.
المحور الثالث: دور العلماء في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي.
المحور الرابع: دور العلماء في الوساطة والصلح وحل النزاعات، ودعم الوحدة والتعاون بين المسلمين.
المحور الخامس: دور العلماء في ضبط الفتوى وترشيد الخطاب الإسلامي.
المحور السادس: التعليم الشرعي في العالم الإسلامي، واقعه ومصطلحاته.
وقد خصص يوم الجمعة لمحاور القدس وفلسطين بكل تفاصيلها.
والاتحاد سيسير على تحقيق هذه المحاور بإذن الله تعالى في السنوات اللاحقة محارباً الفتن الداخلية التي فرقت الأمة، والإرهاب المقيت والتشدد، كما أنه سيبدي جل اهتمامه بالمفاهيم الحضارية والنهضوية،
و توجيه الأمة نحو العلم والتقدم؛ لتصبح هذه الأمة أمة الشهود الحضاري ، وخير أمة أخرجت للناس في جميع مجالات الحياة.
وفي الختام أكرر شكري لكل من حضر، من السادة العلماء الذي حضروا من جميع أنحاء العالم الإسلامي، و وسائل الإعلام الجنود المجهولين خلف الكاميرات،و رجال الشرطة، واللجنة المنظمة، وكل من
ساهم في إنجاح هذا المؤتمر.
وأتوجه بالشكر الجزيل لدولة قطر أميراً وحكومة وشعباً،التي وفرت لنا مقر الاتحاد ولمواقفها المشرفة تجاه قضايا الأمة الإسلامية. شكراً لكم على حسن إصغائكم . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته