كلمة فضيلة الشيخ الدكتور علي القره داغي – الأمين العالم للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين – والتي ألقاها اليوم في الجلسة الافتتاحية “للمؤتمر العالمي للتعليم الشرعي وسبل ترقيته” والذي حضره سعادة الدكتور غيث بن مبارك الكواري – وزير الأوقاف القطري – نيابة عن معالي الشيخ عبد الله بن ناصر بن خليفة آل ثاني – رئيس مجلس الوزراء بدولة قطر وراعي المؤتمر، وبحضور رئيس الاتحاد فضيلة العلامة الشيخ يوسف القرضاوي ، ونخبة من العلماء والباحثين والمفكرين والأكاديميين من بلدان عديدة .
وجائت كلمة فضيلته كالتالي :
بسم الله الرحمن الرحيم
سعادة الدكتور غيث بن مبارك الكواري – وزير الأوقاف بدولة قطر ، وممثل معالي رئيس مجلس الوزراء الشيخ عبد الله بن ناصر بن خليفة آل ثاني بالمؤتمر .
أصحاب السعادة والسماحة ، والفضيلة
إخواني وأخواتي الكرام
يشرفني ويسعدني أن أرحب بحضراتكم أجمل ترحيب ، وأحييكم بتحية مباركة طيبة ، وأن أقدم باسمكم جميعاً الشكر الجزيل لمعالي رئيس الوزراء ووزير الداخلية معالي الشيخ عبدالله بن ناصر بن خليفة آل ثاني حفظه الله على رعايته حفلنا هذا ، وما ذلك إلاّ تكريم لأهل العلم والعلماء والحضور الكرام ، وإنابته لسعادة وزير الأوقاف ليحضر ويلقي كلمة الشرف بالمؤتمر نيابة عن معاليه ، فجزاه الله تعالى خيراً، ولا يمكننا ونحن في ظلال دوحة الخير إلاّ أن نحيي وندعو لبناة دولة قطر الحديثة حضرة صاحب السمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني حفظه الله ، وحضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد بن خليفة آل ثاني أمير البلاد المفدى ، وحكومته الرشيدة ، والشعب القطري الكريم على مواقفهم المشرفة ، ورعايتهم الكريمة للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ، ولاهتمامهم بالعلم وتطويره من خلال تخصيص 2.8% من الناتج الإجمالي للبحث العلمي والتطوير، وبالتربية والتعليم معاً .
السادة الكرام
لقد أثبتت التجارب العملية على مرّ التأريخ بأن العلم بجميع أنواعه نور ومفتاح للعمران والحضارات ، وبه تبنى الأمجاد وتزاح الظلمات ، يقول شوقي
بالعلم ساد الناس في عصرهم **** واخترقوا السبع الطباق الشداد
فهذه تجربة أوروبا ، وأمريكا، واليابان، وكوريا الجنوبية التي حققت ما يشبه المعجزات ، بينما كانت قبل الأخذ بالعلوم تعيش في ظلمات الجهل والتخلف والخرافات، فبالعلم يتحقق العمران والحضارات إذا بني على المنهجية الصحيحة المحققة لسعادة الدنيا والآخرة ، وأن هذه المنهجية إنما تكون مؤثرة إذا بنيت على أسس سليمة هادية، وبرامج هادفة، وتعتمد على رؤية واضحة وأهداف مرحلية واستراتيجية هادئة.
وهذا ما فعله رعيلنا الأول بدءاً بالصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان ، حيث استطاعوا أن يحققوا حضارة عظيمة إنسانية وصناعية خلال أقل من قرنين من الزمن وذلك بسبب اعتمادهم على المنهج التجريبي ، وعلى التجديد في الاجتهادات ، والاتقان والجودة والابداع في التقنيات والماديات.
ويوم توقفنا عن التجديد والابداع بدأ العد التنازلي لحضارتنا العظيمة ، ويوم بدّلنا إبداعنا المادي بالابتداع الديني والخوض في الغيبيات والانشغال بالجزئيات فقدنا العقل الكلي المقاصدي المبدع فتأخرنا وتخلفنا عن الحضارات ، فتلك سنة الله القاضية في الأمم.
ولهذه الأهمية للعلم جعل الله تعالى امتحان أبينا آدم والملائكة عليهم السلام بالعلم الاجتهادي الاستنباطي فنجح فيه أبونا آدم فأكرمه الله تعالى بالاستخلاف وجعل رسالته وإحدى غاياته تعمير الأرض فقال تعالى : (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [هود : 61].
وإذا كانت أمة الإسلام مكلفة بتوارث الأرض والتمكين منها فإن ذلك لن يتحقق بالتمني والادعاء ، وإنما بالأخذ بسنن العلم المنهجي والتعمير والحضارة، ولذلك جاءت أول آية في القرآن الكريم آمرة بالقراءة الشاملة للكتاب المقروء وللكون المفتوح وآفاقه ، ولأعماق الانسان وتركيبته فقال تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق :1-5] .
وبناء على هذه المقدمات جاء اهتمام الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين برئاسة شيخنا العلامة القرضاوي بالارتقاء بالعلوم الشرعية، فتمّ تشكيل لجنة برئاسة نائبه الأستاذ الدكتور أحمد الريسوني الذي بذل جهوداً طيبة ومخلصة في سبيل إنجاح هذا المؤتمر العظيم ، ونحن في الأمانة العامة للاتحاد سخرنا لهذه اللجنة كل الإمكانيات المتاحة إدارياً ومالياً .
وكلنا أمل في الوصول إلى مشروع علمي شامل يتحقق به الارتقاء بتعليم العلوم الشرعية من خلال بيان المنهج والبرامج والأهداف والمقررات التي تجمع بين الأصالة والمعاصرة ، وبين القديم الصالح ، والجديد النافع من العلوم المعاصرة ، ويؤدي إلى التجديد والتطوير والابداع في الاجتهادات المرتبطة بالأصول والمعتمدة على المنظومة المقاصدية الشاملة لمقاصد الخلق والانسان ، ولمقاصد الشريعة والمكلفين ، ولفقه المآلات وسدّ الذرائع وفتحها.
سعادة الوزير ، أصحاب السعادة ، والفضيلة ، الحضور الكرام
إن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين لا يسعى من هذا المؤتمر إلى مجرد إثارة إعلامية ، وإنما يريد أن يحقق فعلاً الوصول إلى مشروع علمي وعملي مرن قابل للتطبيق في كل دولة ، بحيث يضم الخطوط العامة دون الخوض في التفاصيل .
إن مناهج وبرامج معظم المدارس الشرعية لم ينلها التطوير منذ عدة قرون ، ولا زالت تعيش على الكتب القديمة دون التجديد ، وتناقش أفكار المعتزلة والجبرية والقدرية دون الخوض في مناقشة الأفكار المعاصرة ، وبذل الجهود لربط طالب العلم بالواقع المعاصر وتزكيته ، وبالحكمة وفقه الميزان ، وإعداده ليكون هادياً هادئاً هادفاً، قادراً على الاستنباط المنضبط، والترجيح والتجديد ، وصناعة العقل الكلي المقاصدي.
سادتي الكرام
إن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين مؤسسة علمية وسطية حضارية مستقلة ، وليست مرتبطة بأي جهة، وإنما هي لجميع علماء الأمة الإسلامية بجميع أطيافهم ومذاهبهم ما داموا ملتزمين بميثاق الاتحاد الذي يمثل الإسلام دين العلم والعدل والسلم والسلام ، ودين الرحمة والأمان للجميع.
والاتحاد ليس له غرض إلاّ قول الحق والوقوف مع مشروع الأمة الحضاري وتوصيل الرحمة للعالمين ، ويسعى لتحقيق السلام، والتعاون بين جميع بني البشر، وقد وفقه الله تعالى للإصلاح في عدد من الدول مثل قرغيزيا ، وأنغوشيا، وداغستان، والشيشان، كما أن الاتحاد مهتم بالدعوة ، وبقضايا أمته في كل مكان، في فلسطين ، ومصر، وسوريا، والعراق واليمن وغيره، ويؤمن بأن قضية الأمة الأولى هي قضية فلسطين والأقصى المبارك.
وعلى مستوى القضايا الاجتماعية فإن الاتحاد بذل جهوداً طيبة ، منها أن الله وفقه لاعتماد ميثاق عالمي للأسرة بمنظور إسلامي وافق عليه ممثلو 360 مؤسسة أهلية في العالم الإسلامي وبحضور حوالي 150 فقيهاً وقانونياً واجتماعياً ، ليتم تقديمه من خلال منظمة التعاون الإسلامي برئاسة الأستاذ رجب طيب أردوغان وإخوانه ليكون هذا الميثاق بديلاً أو موازياً لاتفاقية سيداو.
وفي الختام أكرر شكري لمعالي رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية، ولسعادة وزير الأوقاف ، ولجميع الوزراء المكرمين ، والسادة العلماء ، والباحثين ، ووسائل الإعلام ، والحضور الكرام ، ولجميع من ساهم في هذا المؤتمر .
ودمتم في رعاية الله وعنايته
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أ.د. علي محيى الدين القره داغي
الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين