وإذا كانت الحضارة في أبسط تعريفاتها: بناء الشيء، فإن الثقافة عند شيخنا الفاضل هي التعليم أي تعليم كيف يكون الإنسان إنساناً، فهي تهذيب.
وإذا كانت الحضارة فناً يتعلق بالصناعة والنفوذ والشيئية وتقدم مطرد في عالم التقنية، ولا يشترط أن يسير التقدم مع الازدهار الروحي، وإذا كان ساسة الغرب قد نجحوا في بذر فلسفة "تأليه الإنسان" و"أنسنة الإله" فإن الثقافة المتحضرة عند علي القرةداغي تعني الحضور المبني على الاختيار الحر القائم على قيم تنتمي وترتقي. وإذا كانت الحضارة تعلم فإن الثقافة عند القرةداغي تؤنسن وتهذب.
يقول علي القره داغي: وحينما يكون الإنسان متقياً صالحاً ومصلحاً ونافعاً وعدلاً تكون حركة التعمير والاستخلاف متناسقة مع ما يريد الله تعالى من العدل الشامل، والتعمير النافع للجميع، والتمكين الخيّر، ومنع الشرور والظلم والعدوان عن الإنسان والبيئة والحيوان، ومن توجيه القوة العلمية والاقتصادية والعسكرية لتحقيق هذه المقاصد.
وأما إذا لم يتحقق ذلك فستتجه القوة والحضارة نحو الهيمنة والسيطرة والطغيان.
بنى القره داغي فلسفته على وعي بحرية وكرامة الإنسان، وقد جاء في كتاب "الأخلاق" لسبينوزا ما لا يمكن منعه يجب السماح به.
وهذا المبدأ هو الأهم في شؤون الإيمان والقرار الحرّ، وهو الفضيلة التي لا غنى عنها للتطور والتعايش وهي أس نظرة أستاذنا الفقيه علي القره داغي.
لقد خاض أستاذنا نضالاً معرفياً على جبهات مختلفة، وفي مجالات عديدة، وكانت ثقته بالحرية والإنسان وحق الكرامة حاضرة في كل جولاته.
لا شك أن الراهن بتجلياته القاسية أفضى إلى فقدان الثقة بالنخب على اختلاف مشاربها، ومما لاشك فيه أيضاً أن تعقيدات المشهد وترهلاته اشترك فيها كثيرون ومن كل التوجهات الدينية والسياسية والعلمانية والقومية والطائفية.
وعلى الرغم من تنصل كل جهة من المسؤولية وقذفها الآخر، وتحميله وزر المرحلة، إلا أن الالتزام بالحق يوجب علينا أن نعترف أن الجميع ساهم وبنسب مختلفة في التدهور العام، هذا الاضطراب الفظيع أفضى إلى كفر عموم الناس بقيادتها الدينية، والسياسية، والعلمانية، والقومية، والطائفية، وذلك وفق خطة ممنهجة تدار بها منطقة الشرق الأوسط وهي توجب:
"أن يفقد الجميع الثقة بالجميع" حيث ينبغي "للكل أن يهاجم الكل" و"يفقد الكل أي انتماء كلي" لتظل تلك المنطقة الخصبة بالثروات الروحية والإنسانية والطبيعية في تلاش وذوبان وتحت السيطرة والتحكم.
من بين من نجا من تلك الاستنزافات كان أستاذنا العلامة د. علي الذي ثابر وصابر على درب الحق والحقيقة، والجمال، والحرية، والكرامة، والفقه العمراني، والشهود الحضاري.
لم يخض أي معركة جانبية تستنزف العقل والوسع والعمر فيما لاجدوى منه وركز على القضايا الأساسية:
– العقل والنقل والإنسان وفقه الميزان والعمران والواقع والتنمية وبصر القرآن.
مثَل الشيخ قمة مستشرفة وسقفاً مرتفعاً وقرأ المستقبل والراهن، بدراية نفسية وفكرية واجتماعية، فأفاد واستفاد منه كثيرون، وإنني واحد من بين مئات الآلاف ممن تعلم على يد د. علي القرةداغي، وغرف من معارف هذا العالم في الدين والتزكية والعمران.
لابد هنا أن أبين أن سطوة حروفه لا تكمن في سلطة سياسية، ولا وعظية منومة، ولا راية حزبية دينية أو قومية، بل في تمثلاتها الواقعية التي تلتزم القيم والراهن وتشتغل على الفكر والوجدان.
أفكار د. علي تتدفق من معين الإسلام وتسهم في الحيلولة دون الوقوف في دورة رديئة، وتسهل تعبيد الفهم بآليات تعيش الهوية، دون أن يأسرها التاريخ، وتلتزم القيم دون أن تخاصم الراهن، وتكتب المستقبل دون أن تقفز فوق الواقع.
يعتقد د. علي أنّ المسلم، كي يفهم الواقع ويحلّله ويوجهه، لابد أن يقوم جهده ووعيه وفكره على تنمية شاملة لا على خطاب تبريري أو تدين مغفل أو علمانية متطرفة.
بل لابد من برامج وآليات توعوية يرتبط فيها مفهوم التنمية بالمعنى القرآني الشامل.
على الرغم من كفاح أستاذنا في ميادين العلم والاقتصاد والفقه والتربية ومعركته مع الإشكاليات الراهنة وتفانيه في استحضار ركائز الإيمان والإصلاح والمعاصرة والوعي والانفتاح والالتزام إلا أنه لم يمل ولم يتعب فهو جواب جوال في الآفاق بين الفقه والاقتصاد، وهموم الشعوب المستضعفة، والسياسة الشرعية، وتقرير المقولات الفقهية الاقتصادية، وتحرير العقل من رهقه ووهنه، والنص من انكماشه، وتخصيب الفكر كي يتجاوز العقم والمراوحة في الزمن، فمن توقف تخلف، ومن تخلف تحنط وجمد، وشاخ ومات وتخطاه الزمن.
أدوات أستاذنا في معاركه ليست فتاوى تأجيجية، ولا رصاصات طائشة، ولا استعداء جهة على جهة، ولا تهويمات وطلاسم وتخدير للعقول. بل هي علم وفلسفة ووعي وفقه وتقديم معرفة وفق ما يريده الله لا حسب مزاجية حاكم أو ما يطلبه الجمهور أو رغبة جهة ما.
يدعو في مجمل نتاجه الفكري كما سنلاحظها في كتابنا هذا ، ويتجلى في كتبه الأخيرة، إلى:
– البناء العقلي الفقهي المتحرر من أي إملاء ماضوي أو راهن.
– التعريف بالإسلام وفق فضاء حضاري واجتماعي وحسب فقه الميزان القائم على العدل من دون نواقص أو ما يشوش صورته.
– التأكيد على الترابط العقلي والنقلي، وقد تجلى هذا في كتابه الفريد "فقه الميزان" بديلاً عن القراءة المتطرفة والظاهرية أو المتسيبة وحسب زعمي أن هذا الكتاب هو كتاب الأمة أو كتاب العصر ومدرسة فقهية ينبغي تأصيلها.
– المحاربة لمعنى العنف الديني الذي يتستر بالغش الثقافي وبالسطحية والغلو.
– الشهادة على جاذبية الإسلام وقدرته على مد الحياة بما ينقصها بما يحمله من بعد أخلاقي وإنساني تحاصر القصور والشذوذ والتشوه.
– تحرير الإسلام من المناهج والبرامج والمواقف التي تفسد صورته وتجور عليها، وتيسّر إصابته والإساءة إليه، وربما أيضاً إقصاءه من لوح الوجود الحيّ.
– التحريم والتجريم لأي صدام مسلح داخل المجتمعات.
– التأكيد على أن الفكر الصدامي الذي يهدف إلى تأبيد الصراع ليس من الإسلام في شيء ويتجلى هذا في كتابيه "التنمية الشاملة" و"الإصلاح".
– إن النظر المدقق في المعطيات التاريخية وفي الوقائع الحديثة يؤدي بنا إلى ضرورة إقامة تمايزات واضحة في الرؤى الاجتهادية والمدراس الفكرية والفقهية، ومن الحق البين أن نوضح أن الإمام القرةداغي كان يسير على خطى موكب مدرسة الإصلاح التي أطلق شرارتها ورفع شارتها الإمام جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وسعيد النورسي رحمهم الله تعالى.
لقد وظف القره داغي معارفه في بناء متكامل غايته السلم الأهلي والبناء المجتمعي، فتجاوز فكر التبرير، والتفجير، والتحريض، والطائفية.
وانتقل د. القره داغي – من فكر الخصام مع غير المسلمين إلى قاعدة الأصل في العلاقة السلام وليس الإسلام – يقول الإمام القرةداغي:
صحة العقيدة لا تقتضي إعلان الحرب على الآخرين، بل تستوجب تهيئة جوّ التعامل والتعاون والحوار.
وهذه نقطة مهمة في الحقل المعرفي الإسلامي، حيث يبنغي ضبط الانفعالات وتقويم الحالة المواطنية على أساس التلاقي الإنساني وليس الخلاف العقدي.
بل واجتهد شيخنا في مجالات مسكوت عنها وقبل منازلة مسائل عويصة في الفقه الاقتصادي وفي السياسة الشرعية وفي العمق الفكري وفي شرعة حقوق الإنسان.
يقول أستاذنا د. علي: فقد أحصيتُ الكتب والرسائل والمقالات المتشددة في البدع بصورة عامة، وفي البدع الجزئية بصورة خاصة، فوجدتها تقترب من الألف، ولم أجد عشر معشارها فيما يتعلق بحقوق الإنسان وكرامته وبالتنمية الشاملة وبالعدل الشامل إن هذا الملمح العاتب يستدرج العقل المسلم إلى أن يكون في مستوى ثراء "اللوح المحفوظ"، الذي لا تنقطع عجائبه ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ﴾ (الجن: 1-2) حيث يجتهد مولانا القره داغي في رصد التفسيرات الخاطئة المبنية على اختلالات وقصور.
الخلاصة في فكر د. علي القره داغي:
أن السلاح في بناء الأمم ليس مجرد فوهة البندقية فحسب كما يظن البعض بل ثمة سلاح غير الرصاص، إنه بناء الفكر الناظم للمجتمع وفق فقه الميزان وعلى أسس السلم والعلم وشرعة حقوق الإنسان.
لقراءة الخبر عبر شبكة روداو الإعلامية، يرجى الضغط على الرابط الآتي: https://www.rudaw.net/arabic/opinion/300920191