ومصدر الغرابة  ليس في أن موضوع الحجاب من المنصوص عليه في الكتاب والسنة في آيات وأحاديث كثيرة وأنه من المجمع عليه بين الفقهاء ، وأن فتوى شيخ الأزهر ليست فتوى بجواز السفور ، وإنما الغرابة فيما يأتي :
أولاً : أن الأزهر الشريف ظل واقفاً وداعماً لمواقف المسلمين المستضعفين في العالم أجمع وظل منبراً للدفاع عن حقوقهم داخل مصر وخارج مصر ، فقد وقف الأزهر مع الحركات الجهادية والتحررية في الجزائر ، والمغرب العربي ، وفي العالم العربي والإسلامي (في أفغانستان والشيشان وفليبين) .

 هكذا كان المعهود من الأزهر وهو المفروض المطلوب ، وكان شيوخ الأزهر في السابق لهم مواقفهم المشرفة مع الملوك والحكام ، ويكفي أن نذكر مواقف بعض شيوخهم مثل الشيخ العمروسي الذي حينما طالبه الخديوي اسماعيل بالدعاء لنصرة الجيش المصري ضد الحبشة ، قال : كيف يستجاب دعاؤنا ، والخمور تباح في بلدنا الإسلامي (مصر) وحرمات الله تنتهك علناً ، فأنى يستجاب لنا ؟ وقال شيخ آخر حينما نصح الملك فاروق ، وأرسل له الملك كمية من المال فقال : الذي يمد يده لا يمد رجله ، فقصد بذلك : أنني لو كنت من أرباب المال ومن هواته لما صرحت بهذا النصح الصريح لك .

 فعلى ضوء ذلك كان المفروض ـ بل المطلوب ـ أن يقف شيخ الأزهر مع إخوانه المسلمين وأخواته المسلمات في هذا الموقف الذي يتطلب الدعم والعون والتأييد والنصرة ، حيث استغاثت المسلمات (بالملايين) بشيخ الأزهر أن يقف معهنّ بالنصر والتأييد ، أو على الأقل أن لا يخذلهنّ في هذا الموقف ، فإذا بشيخ الأزهر يقف مع فرنسا ضد هؤلاء .

السبب الثاني : أن الفتاوى المخالفة لثوابت الإسلام كانت تعطى للحكام الظلمة داخل العالم الإسلامي خوفاً منهم من بطشهم وظلمهم ، حيث قتل الكثيرون عندما لم يصدروا الفتاوى المطلوبة كما حدث بالنسبة للسيد قطب رحمه الله ، والشيخ عبدالعزيز البدري ، والسيد باقر الصدر ، وغيرهم كثيرون منذ عهد الحجاج إلى وقتنا الحاضر .

 وأما الفتوى الأخيرة فقد صدرت لأجل دولة غير إسلامية ليس لها هيمنة ولا سيطرة على صاحب هذه الفتوى ، فقد جاءت هذه الفتوى بعد لقاء فضيلة شيخ الأزهر بوزير الداخلية الفرنسي نيكولاس سركوزي ، كما أنها صدرت بحضور الوزير نفسه ، وكانت بمثابة صدمة شديدة لكل علماء الأزهر الذي حضروا هذا اللقاء بمن فيهم فضيلة المفتي الدكتور علي جمعة ، ورئيس المجلس الأعلي الإسلامي فعارضوا هذه الفتوى بشدة ، وأعلنوا عن معارضتهم فوراً .

السبب الثالث : أننا نجد مع هذا الموقف من شيخ الأزهر مواقف جريئة من الأساقفة ورجال الدين المسيحي ، فقد انتقد الدكتور روان ويليامز رئيس أساقفة كانتربري بفرنسا وهو أرفع منصب في الكنيسة الانجيلكانية في خطبة عيد الميلاد خطط الحكومة الفرنسية الرامية إلى حظر الرموز الدينية الظاهرة في المدارس العامة بما في ذلك الحجاب الإسلامي .

 وقال ويليامز ، الذي يترأس كنيسة يبلغ أتباعها نحو 70 مليون فرد في العالم ، أن دعوة الرئيس الفرنسي جاك شيراك لتأييد القانون المقترح تأتي صورة غير مفاجئة في مناخ علماني ينظر إلى الدين ليس فقط بتشكك أو قلة فهم ، وإنما أيضاً بخوف .

 وأضاف أن مشروع القانون الفرنسي يوضح أن هناك حالة من العصبية تجاه من يحاولون اظهار التزامهم بالدين علناً .
 بل إن بعض الدول الغربية اعترضت حيث أعربت واشنطن عن قلقها إزاء التدابير التي تتخذها فرنسا لحظر الرموز الدينية مثل الحجاب في المدارس الحكومية ، وقال المسؤول عن ملف الحرية الدينية في العالم بوزارة الخارجية جون هانفورد : إن واشنطن تتابع بقلق هذه التدابير ، وحتى أن بعض الأحزاب اليسارية الفرنسية انتقدت بشدة هذا الموقف الفرنسي ، واعتبرته انتهاكاً لحقوق الأقلية المسلمة في ممارسة معتقداتها ، وتراجعاً حقيقياً عن مكاسب العلمانية ، وحتى رئيس تحرير ليموند دبيلوماتيك يرى أن هذا المشروع غير مبرر فقال : هل تصبح عشرات من الفتيات اللواتي يضعن الحجاب  في المباني المدرسية هن اللواتي يهددن هذا الميثاق ، أم هي المظالم وأشكال التمييز والبطالة .

وأما الأمر الثاني الغريب أيضاً فهو مشروع قانون منع الحجاب في بلد الحرية والديمقراطية ، وبلد  النور كما صور ذلك دائماً أمام العالم حيث دعم الرئيس الفرنسي جاك شيراك هذا المشروع ، وأعتبر ارتداء تلميذات المدارس الحجاب الاسلامي “أمرا عدوانيا”، واعرب عن قلقه إزاء ظاهرة الاصولية الاسلامية مع تزايد الميل العام في فرنسا لحظر كل الرموز الدينية في المدارس العامة.

وقال شيراك، خلال زيارته لتونس لحضور قمة خمسة زائد خمسة الاوروبية المتوسطية، إن الحكومة الفرنسية ذات النظام العلماني الصارم لا يمكنها السماح لطالبات يرتدين ما اعتبره “علامات للتباهي بالاهتداء الديني”، مضيفا أنه يرى “عدوانية ما” في ارتداء الحجاب.

وزادت تصريحات شيراك، التي ادلى بها في مدرسة فرنسية بتونس، من حدة الجدل وصخبه حول الحجاب في بلاده، حيث تشهد فرنسا جدلا وخلافا وقلقا عاما حول العقيدة الإسلامية وعلاقتها بحقوق المرأة وهجرة المسلمين، وهو ما يتفاقم ليصبح رأيا يتسع ويكبر لحظر الحجاب.

وقد أصدرت أكثر من ستين امرأة فرنسية من الشخصيات الشهيرة والبارزة، منهن الممثلتان ايزابيل ادغاني وايمانويل بيرت، ومصممة الأزياء سونيا ريكييل، بيانا ناشدن فيه فرض حظر على “هذا الرمز المرئي لخنوع المرأة”.
وقال شيراك: “لا يمكن أن نقبل علامات للتباهي بالاهتداء الديني، مهما كان نوعها ومهما كان الدين”.
واعتبر شيراك أن “ارتداء ملابس أو علامات تعبر بشكل ظاهر عن انتماء ديني يجب أن يحظر” في المؤسسات والمدارس العامة, وأن الحجاب والقلنسوة والصلبان الكبيرة “لا مكان لها” في المؤسسات التعليمية الرسمية. كما أعلن رفضه لإضافة أعياد جديدة “على جدول العطل المدرسية الكثيرة”, لكنه أشار إلى حق التلاميذ بالتغيب إذا رغبوا لمناسبة أعياد كبرى مثل الأضحى والغفران.

ودعا شيراك إلى إعداد “مدونة علمانية” تكون ملزمة لجميع الموظفين الذين يلتحقون بالإدارات العامة.
إلا أن معارضي هذا التوجه ومنتقديه يرون أن حظر ارتداء قطعة قماش على الرأس يبسط ويتجاهل السبب الحقيقي للمشكلة الاصلية المتمثلة بالفشل في دمج خمسة ملايين مسلم، أغلبهم من شمال أفريقيا، في المجتمع الفرنسي.
 يشار إلى أنه سبق أن طردت مدارس فرنسية عامة بعض الطالبات لاصرارهن ارتداء الحجاب ، بل منع وزير العدل الفرنسي امرأة من المشاركة في هيئة محلفين قضائية بسبب ارتدائها الحجاب .

وتظهر استطلاعات الرأي أن أغلبية الناخبين الفرنسيين مع حظر ارتداء الحجاب، وهناك ميل متزايد عند نواب البرلمان للموافقة على قانون في هذا الخصوص.
 
إلا أن بعض السياسيين المحافظين يحذرون من أن منع الرموز الدينية قد يعني أيضا حرمان مرتدي الصلبان المسيحية، والطاقية اليهودية.

 والحجة الفرنسية هي كما تقول كارولين وايات مراسلة BBC أنه رغم مرور 40 عاما تقريبا مازال المهاجرون المسلمون إلى فرنسا، وهم في أغلبهم من شمال أفريقيا، لم يندمجوا في المجتمع الذي هاجروا إليه ولم يصبحوا فرنسيين خالصين، بخلاف اندماج الأجيال السابقة من المهاجرين في المجتمع الفرنسي على اختلاف عقائد هؤلاء المهاجرين السابقين، وهو ما أثار قلق الكثيرين هنا.

ويقول النائب جاك ميار : الدين في الحياة الخاصة، ولكن في المدرسة الالتزام بالقانون، فالمعلم لا ينبغي أن يعرف ما إذا كانت التلميذة التي تجلس أمامه يهودية أو كاثوليكية أو مسلمة .

ففرنسا تتوقع من المهاجرين إليها أن يتبنوا أسلوب الحياة الفرنسي، وليس أن تتبنى فرنسا عادات المهاجرين وثقافاتهم، أي أن قليلين فقط في فرنسا هم الذين يعتقدون أن التعددية الثقافية تمثل حلا لمسألة الحجاب.
 
وبدلا من ذلك يصر السياسيون الفرنسيون على أن الولاء للدولة الفرنسية ومبادئها العلمانية يأتي أولا قبل أي شعائر دينية. ويعتقد أغلب النواب الفرنسيين أن الحل الوحيد يكمن في فرض قانون يلزم بذلك.

وحتى النواب الوسطيون مثل جاك ميار من اتحاد الحركة الشعبية الحاكم يمين الوسط يعبرون عن أنفسهم بلغة يمكن أن ينظر إليه في مجتمعات أكثر تعددية ثقافية على أنها تنزع إلى التعصب.

ويقول ميار “كثير من الفتيات المسلمات يقلن إنهن يرتدين الحجاب عن اقتناع شخصي”.
ولكنه يضيف “غير أنه في الواقع حينما تدقق النظر في الأمر تجد أنهن في بعض الحالات، أو في الواقع في أغلب الحالات، مدفوعات من جانب الأصوليين الدينيين وإذا أعطيت هؤلاء عقلة إصبع فسوف يلتهمون ذراعك حتى الكوع”.
ويتابع “وعلى ذلك علينا أن نكون حازمين وثابتين تماما – ونقول: هذه هي الطريقة التي تسير بها الأمور في فرنسا”.

ان أغلب المسلمات في مسجد بباريس يرفضن هذا القول.
فنورا جاب الله، التونسية المولد، تقول إن ارتداء الحجاب هو اختيارها الشخصي، وتوافقها فاطمة عياش القول.
وتعتقد الاثنتان أن مرجع الجدل الشعبي الصاخب بشأن هذا الموضع هو بالأساس لعدم ارتياح الفرنسيين لتنامي المسلمين في فرنسا، وليس بالأساس للتمسك بالعلمانية.

وتقول نورا جاب الله “الناس غير سعداء بهذا التنامي، ولذا فهم ينقبون عن مشكلات”.
وتضيف “ولهذا السبب أصبح الحجاب مشكلة، بينما في الواقع لم يكن الحجاب أساس أي مشاكل، سواء في المدارس أو غيرها”.

وتقول “الأمر فحسب هو أن بعض المدرسين لا يرتاحون لممارسة الشعائر الإسلامية بشكل ظاهر ويصرون على حظر الحجاب من المدارس”.خيار شخصي
وتقول إن الحجاب جزء أساسي من هويتها، وليس أمرا يجعلها في وضع من الدرجة الثانية كامرأة، حسبما يصر بعض الفرنسيين.
 
وتضيف “من وجهة نظر المسلمة فالعكس صحيح، فبالنسبة لنا الحجاب رمز للتحرير، فبهذا الحجاب يمكن للمرأة أن تخرج إلى العمل وغيره جنبا إلى جنب مع الرجل، دون اهتمام خاص بجنسها”.

وتستطرد “إنه يسهل من العلاقة بين الرجال والنساء. إنني متكافئة مع الرجل بما في رأسي وليس ما عليها”.
وإذا أقر قانون بحظر الحجاب في المدارس الحكومية، فربما لن تجد التلميذات المسلمات اللاتي تصر على ارتداء الحجاب من خيار إلا الانتقال إلى مدرسة خاصة، أو ترك المدارس .

غير أن الكثيرين في فرنسا يقولون إن الحل ليس في مدارس منفصلة، حيث يخشون من أن يعيق ذلك الاندماج داخل المجتمع بشكل أكثر. كما يعرب آخرون عن قلقهم من أن فرض قانون بحظر الحجاب في المدارس قد يدفع ببساطة المسلمين إلى أحضان الأصوليين.

وبالطبع سيكون هذا بعيدا كل البعد عن رغبة فرنسا في خلق نموذج أوروبي معتدل من الإسلام يتناغم مع المبادئ التي تفخر بها فرنسا كبلد ودولة.

 وأسباب الغرابة تعود إلى ما يأتي :
أولاً : فرنسا جمهورية موحدة علمانية ديموقراطية اشتراكية”. هذا ما تنص عليه المادة الأولى من دستور عام 1946 الذي صادق عليه الشيوعيون، والاشتراكيون، والديموقراطيون المسيحيون أيضاً، وهذا ما يوضح كثيرا مما حدث من تطورات بعد إقرار قانون 1905 في فرنسا الذي يقضي بفصل الدين عن الدولة والذي حدد مرحلة حاسمة في المعركة من أجل العلمانية.

 ولذلك انتقد غريش، رئيس تحرير ليموند ديبلوماتيك هذا المشروع ،  ويرى أنه عندما يصر وزير الداخلية الفرنسي نيكولا ساركوزي على أنه يجب أن تظهر النساء سافرات في صور بطاقات الهوية فإنما هو يطرح قضية لها علاقة بالنظام العام وليس بالعلمانية.

ويتساءل غريش: هل العلمانية مهددة اليوم في فرنسا؟ وهل يجب التحرك كما حدث في العام 1905؟ ويجيب: إن سيطرة الكنائس قد تقلصت وما من واحدة منها تضاهي من قريب أو بعيد النفوذ الكاسح للكنيسة الكاثوليكية في مطلع القرن الماضي.

وبالعكس فان جان بوبيرو، في تأمله في صيغة “الاكليروسية هي العدو” يتساءل عما إذا كانت “قد بقيت هي الراية للعلمانية المناضلة. لكن من هم اليوم رجال الاكليروس الجدد؟ ومن هم الذين يشكلون خطراً ملموساً على حرية التفكير؟. هل هم بدرجة أولى الديانات المنظمة أم بالأحرى “اكليركاتور” (كاريكاتور رجال الدين) المال أو وسائل الإعلام؟

ويعيد غريش التساؤل: هل بضع عشرات من الفتيات اللواتي يضعن الحجاب في المباني المدرسية هن اللواتي يهددن هذا الميثاق؟ أم هي المظالم وأشكال التمييز والبطالة وكل هذه القضايا المهملة التي تستبعدها “الإصلاحات”؟ واصفًا ذلك بعمليات “الإلهاء”.

وينظر إلى هذا الجدل حول الحجاب في فرنسا بوصفه “تعبيرًا عن رفض أن تلعب الثقافة (غير السائدة) دورًا معلنًا في النسيج الأيديولوجي الوطني”.

 وبالتالي فإن هذا المشروع مخالف لحرية الإنسان الدينية والثقافية والاجتماعية ، وللحريتين من الحريات التي هي أهم من حقوق الإنسان ، وهما الحرية الشخصية ، والحرية الدينية .

ثانياً : أن فرنسا عهد منها من الناحية الرسمية أنها تقف ضد تيار العنصرية والكراهية للأجانب ، ومواقفها المؤيدة للقضايا العربية ، وكل ذلك يقتضي أن تعالج الموضوع بعقلانية وحكمة ، وأن تساعد مواقفها لتهدءة المسلمين ، والتيارات التي تثير بعض المشاكل ، وتبرز الأدلة الكثيرة على أن الغرب يسعى للقضاء على الإسلام والمسلمين ، وطرد المسلمين من الغرب إن رأى أن في وجودهم خطراً عليهم .

 وقد ثبت علمياً وتجريبياً ، وحضارياً وتأريخياً أن الارهاب ليس خاصاً بالمسلمين ، بل هو موجود في معظم الشعوب والأديان ، وحتى لو وجد فإنه لا يمكن القضاء عليه بإرهاب مثله ، بل بالفكر والقناعة والمواقف ، وبالتهدءة والحكمة وعدم الإثارة .

 فهذه المواقف ضد الإسلام والمسلمين ستجسد مواقف الذين يقولون : بأن الغرب (وبالأخص فرنسا) يسعى جاهداً للقضاء على الإسلام والمسلمين ، وأن هذا يعتبر حملة صليبية ومؤامرة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ، وبالأخص بعدما أصبح الإسلام الدين الثاني في فرنسا ، الذي ما زال ينمو بمعدل سريع ، وأنه يمكن أن يكون الدين الأول بعد عدة عقود .

ثالثاً : كيف يمكن لما يسمى بلد النور أن يمنع نور العلم من هؤلاء التلميذات المسلمات ، ولذلك سيفسر ذلك بالتضييق على المسلمين لترك فرنسا ، والعودة إلى بلادهم ، او ترك مستلزمات دينهم .

رابعاً : أن الاندماج في المجتمع الفرنسي وقيمه وثقافته لن يتم عن طريق منع الحجاب ، بل إن ذلك ستكون له آثار سلبية ، وعزلة اجتماعية وعلمية ، وكراهية ومخاطر لا تعد ولا تحصى ، وإنما الاندماج يتم عن طريق العدل والانصاف والحرية كما أن الاندماج ليس بمنع الواجبات الدينية ، وإنما عن طريق التحاور والتشاور والتفاكر .

 كما أنه من المعلوم أن الحجاب ليس رمزاً كما هو الحال بالنسبة للقلنسوة لليهود ، وإنما واجب إسلامي يخص المسلمين .
 وأخيراً فإن جميع المسلمين الملتزمين بعلمائهم وعامتهم متفقون على أن الحجاب فريضة إسلامية ، ويطالبون فرنسا بالرجوع عن موقفها ، وليس من باب التدخل في شؤون فرنسا ، وإنما من باب المطالبة بالحفاظ على هذا الواجب الإسلامي ، وأن هذه سنة سيئة سوف يقلدها  بقية الدول الغربية حيث بدأت بلجيكا تسن مشروع منع الحجاب .

 ولذلك نبه لذلك العلماء واتحاد المنظمات الإسلامية الأوربية فأصدروا بيانات ، فقد أصدر فضيلة العلامة الشيخ يوسف القرضاوي فتوى ، وأرسل رسالة حول الموضوع إلى الرئيس الفرنسي جاك شيراك ناشده فيها بالرجوع عن هذا المشروع ، وألخص هذه البيانات في بيان المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث في دورته الثانية عشرة الصادر في   3 يناير 2004 جاء فيه :

 ( إن المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث بصفته ممثلا للمرجعية الدينية الكبرى للمسلمين في أوروبا قد فوجئ ، كما فوجئ المسلمون في العالم بالتوجه لمنع ارتداء ما يسمى “بالرموز الدينية” في فرنسا ، والذي سيؤثر بالدرجة الأولى على حق المسلمات في فرنسا في ارتداء الحجاب في المدارس والمؤسسات العامة.

 وإن المجلس إذ يثمن اعتراف فرنسا بالمجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، وإذ يشيد بمواقف فرنسا العادلة تجاه قضايا عربية وإسلامية أساسية وبوقوفها ضد العولمة المهيمنة ودعوتها المتكررة إلى احترام التنوع الحضاري والثقافي والتعايش بين الثقافات والحضارات والديانات، وإذ يتفهم كذلك قلق قطاع كبير من المجتمع الفرنسي إزاء بروز بعض الشعائر والتقاليد الإسلامية غير المعهودة في ثقافته ومحاولته أن يتعامل مع هذه الظاهرة بما يحفظ وحدته وهويته، ويحقق التعايش بين مكوناته، فإن المجلس يود أن يوضح الأمور التالية:

1- أن التعايش بالنسبة للمسلم يعتبر أصلا في بناء المجتمعات الإنسانية، ويقتضي الاعتراف بالتعددية والتنوع ، في إطار الوحدة القومية والإنسانية ، وإشاعة أجواء الحوار بين الثقافات والتعاون بين ومع الجماعات الدينية والعرقية المختلفة، والمحافظة على السلم الاجتماعي . ولطالما أكد المجلس في كل بياناته على حث المسلمين في أوروبا على العيش المشترك والاندماج في المجتمعات التي يعيشون فيها دون فقدان هويتهم ، والإسهام في رقيّ وتقدم وأمن هذه المجتمعات ، وذلك انطلاقا من إيمانهم بالله تعالى رب الجميع وبأواصر الأخوة الإنسانية وما بينها من قواسم مشتركة رغم تنوعها الثقافي والحضاري.

2- أن المبادئ السابقة للعيش المشترك لا يمكن أن تطبق إلا باحترام الحريات الشخصية للأفراد والجماعات والحفاظ على حقوق الإنسان . وقد كان للثورة الفرنسية دورا مهما في ترسيخ هذه المفاهيم مما جعل فرنسا توصف بأنها “أم الحريات” ومن أهم البلاد التى يحافظ فيها على حقوق الإنسان.

3- أنه ليس هناك تعارض حقيقي بين مقتضيات التعددية والتنوع البشري وبين مقتضيات الوحدة الوطنية والتى لا يجوز أن تكون مبررا لمصادرة الحريات الشخصية والدينية أو تهديد فرص المسلمين الفرنسيين أو غيرهم في التعليم والتكسب وتهميش دورهم كمواطنين، وبالتالي الدفع بهم إلى مزيد من العزلة بدلا من التلاحم على إخوانهم المواطنين الفرنسيين ، كما لا يجوز أن تكون العلمانية الليبرالية مبررا لسن “قوانين صارمة” من شأنها الانقضاض على أهم حقوق الإنسان وحرياته وهما الحرية الشخصية والدينية . ولا يجوز كذلك أن تتخذ بعض التجاوزات في سلوك بعض المسلمين أو غيرهم بما لا يتفق ومتطلبات العيش المشترك كمسوغ لحرمان خمسة ملايين مسلم في فرنسا من حقوقهم المشروعة. إن احترام التنوع والمحافظة على الحريات هو الأساس المتين والضمان الأكبر للوحدة الوطنية والأمن العالمي وخاصة في الأمد البعيد.

4- أن ارتداء الحجاب أمر تعبدي وواجب شرعي وليس مجرد رمز ديني أو سياسي وهو أمر تعتبره المرأة المسلمة جزءا مهما من ممارستها المشروعة لتعاليم دينها، وأن هذا الالتزام أمر غير مرهون بأي مكان عام سواء أكان من أماكن العبادة أم كان من المؤسسات الرسمية أو غير الرسمية، فإن تعاليم الإسلام بطبيعتها لا تعرف التناقض والتجزؤ في حياة المسلم الملتزم بدينه. وهو أمر أجمعت عليه كل المذاهب الإسلامية قديما وحديثا، وأقره أهل التخصص من علماء المسلمين في جميع أنحاء العالم. ويدخل في ذلك موقف فضيلة شيخ الجامع الأزهر الذي صرح بوضوح أن الحجاب الإسلامي فريضة شرعية وليس “رمزا دينيا”. أما ما نسب إليه من حق فرنسا كدولة ذات سيادة في سن ما تراه مناسبا من قوانين وتشريعات فهو أمر وارد ومقبول دوليا، ولكننا نحسب أنه كان من المفيد كذلك أن يضيف فضيلته أن هذا الحق مشروط كذلك بمواثيق حقوق الإنسان والمعاهدات الدولية وميثاق الأمم المتحدة، فلا يتصور أن تكون سيادة أي دولة مبررا لتشريعات تناقض حقوق الإنسان وحريته الشخصية والدينية. ولعل هذا التوضيح من فضيلته كان حريّا بأن يمنع سوء تأويل موقفه الذي ظنّه البعض تخليا عن واجبه في معاضدة إخوانه المسلمين. أو غيرهم في المطالبة بحقوقهم المشروعة وأداء واجباتهم الدينية وبذلك يكون موقفه مطابقا لما أجمع عليه علماء الأمة بشتى مذاهبها في القديم والحديث.

5- أن إكراه المسلمة على خلع حجابها المعبّرعن ضميرها الديني واختيارها الحر يعتبر من أشد أنواع الاضطهاد للمرأة بما لا يتفق مع القيم الفرنسية الداعية إلى احترام كرامة المرأة وحريتها الشخصية والإنسانية والدينية. وإن المجلس ليؤكد على أن ارتداء المرأة المسلمة للحجاب يجب أن يكون مؤسَّسا على القناعة الشخصية والفهم ، وإلا فقد قيمته الدينية، وبالمثل فإنه لا يجوز إجبار المرأة المسلمة على خلع حجابها كثمن لتعليمها أو استفادتها المشروعة بمرافق الدولة.

6- أن هذا القانون المقترح وإن بدا أنه يشمل كل “الرموز الدينية” فإنه في المحصلة يستهدف تحديدا الحجاب الإسلامي مما يمثل تفرقة دينية ضد المسلمين، و يخالف كل الدساتير والأعراف في ما يسمى بالعالم الحر.

7- أن المجلس ينصح المسلمين في فرنسا في مطالبتهم بحقوقهم المشروعة ومعارضتهم لمثل هذا القانون الظالم أن يلتزموا بالوسائل السلمية والقانونية ، قولا وعملا ، في إطار الديمقراطية وبالأسلوب الحضاري، وأن يثمّنوا إسهام إخوانهم وأخواتهم من المسلمين الذين أيّدوهم رغم اختلافهم معهم في موضوع ارتداء الحجاب، وكذلك إخوانهم وأخواتهم من غير المسلمين الذين وقفوا معهم دفاعا عن حريتهم الشخصية والدينية والإنسانية وإن لم يشاركوهم في اعتقادهم وممارساتهم الدينية، فإن قضية الحريات الأساسية لا تتجزأ.

8- وفي النهاية يدعو المجلس المسؤولين في فرنسا على شتى المستويات أن يعيدوا النظر في هذا المشروع بما يتفق مع غايات الوحدة الوطنية والأمن الاجتماعي والتعاون والتلاحم بين شتى قطاعات المجتمع الفرنسي في عصر حوار الحضارات لا صراعها.

9- ولمتابعة هذا الأمر شكل المجلس لجنة من أعضائه لعرض رؤية المجلس على الجهات المعنية في فرنسا بما في ذلك المسلمين في فرنسا وذلك لفتح باب الحوار.

  وأخيراً هل تتراجع فرنسا عن مشروعها في منع الحجاب ، أم ستمضي قدماً ؟ هذا يعتمد أيضاً على جهود المسلمين داخل فرنسا وخارجها ، وعلى جهود الدول الإسلامية ، وإن كان الأمر الأخير ضعيفاً لدى بعضها ، إذا أن بعضها هي التي تشجع على ذلك ، بل تلوم الغرب على منح الحرية للأصوليين على حد قولهم .
 ومهما يكن من أمر فنحن جميعاً في سفينة واحدة ومسؤولون أمام الله تعالى ، والله المستعان .