الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ، محمد وعلى آله وصحبه ، ومن تبع هداه إلى يوم الدين
وبعد
فلما كانت رسالة الاسلام خالدة خاتمة ضمن الله تعالى فيها عناصر الخلود والبقاء ، فتكفل الله تعالى بحفظها ، وأودع فيها من القواعد والمبادئ والتشريعات ما يمنحها قوتها واستمراريتها وصلاحيتها في كل زمان ومكان ، ودعا الجماعة المسلمة إلى حفظها ونشرها ، وتمكين القلوب منها ، واستمالتها إليها ، وتأليفها بكل الوسائل المشروعة المتاحة حتى يعم الخير وتصل عقيدة الفطرة إلى قلوب الجميع …
ومن هذه الوسائل لنشر الاسلام وتمكينه من القلوب ، ودفع الأذى عنه وعن أتباعه … وسيلة المال الذي يعتبر الجهاد به صنو الجهاد بالنفس ، ولذلك ذكرهما القرآن الكريم مقرونين مع البعض في أكثر من آية ، بل قدم الأموال على الأنفس في أكثرها ، لما لها من أثر ودور كبيرين في خدمة الدعوة ونشرها .
ومن هذا المنطلق جعل الله تعالى سهماً خاصاً ضمن الأسهم الثمانية من الصدقات للمؤلفة قلوبهم ، حتى يكون بمثابة دعم مادي لتنشيط الدعوة الاسلامية ونشرها ، وتأليف القلوب ، وبمثابة ضمان مالي اجتماعي لأولئك الذين يدخلون في الاسلام فيحاربون من كل الجهات ، فلا أقل من أن يؤلفوا من قبل المسلمين ، ويجبر خاطرهم ، ويدفع عنهم أذى المؤسسات التنصيرية والصليبية والالحادية التي تريد تأليف قلوب المسلمين على الكفر ، وتخطط من خلال امكانياتها العادية والمعنوية الضخمة أن تجعل قارة أفريقيا قارة مسيحية ، بل تحاول جاهدة تحويل المسلمين في أندونيسيا ، وبنغلاديش وغيرهما إلى مسيحين ، أو شيوعيين .
وأما هذه المخاطر ، ولعدم وجود خلافة اسلامية راشدة حامية يجب على المسلمين أفراداً وجماعات ومؤسسات أن يبذلوا بقدر الامكان لسد هذه الثغرة والقيام بتأليف القلوب بشتى الوسائل .
وعن معنى ” المؤلفة قلوبهم ” وصورهم القديمة والمعاصرة ، وعلة الدفع ، ومدى الحاجة إلى التأليف في عصرنا يدور بحثنا معتمدين على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وعلى تراثنا الفقهي الأصيل ، وما يمكن استنباطه في هذا الباب سائلين الله تعالى أن يوفقنا جميعاً لخدمة دنيه وشرعه ويعصمنا عن الخطأ في القول والعمل ….
وهو المستعان
التعريف بـ ” المؤلفة قلوبهم ” للغة واصطلاحاً :
حتى تكون الصورة واضحة لدينا نذكر بإيجاز معاني ” المؤلفة قلوبهم ” في اللغة ، وموردها في القرآن الكريم ، وأقوال المفسرين فيها ، وفي النسة المشرفة ، ثم نذكر أقوال الفقهاء في التعريف بها .
التعريف بـ ” المؤلفة قلوبهم ” لغة :
يتألف هذا المصطلح من كلمتين هما ” المؤلفة ” و ” قلوبهم ” فالأولى : اسم مفعول من الألفة تعني الألفة والاجتماع والالتئام ، يقال : ألف بينهم تأليفاً إذا جمعت بينهم بعد تفرق ، أو وصلت بعضه ببعض ، ومنه تأليف الكتب ، ويقال : ألف ايلافاً ، ومنه قوله تعالى : ( لايلاف قريش ايلافهم )[1] أي أهلكت أصحاب الفيل لأؤلف قريشاً بمكة ، ولتجمع بين رحلة الشتاء والصيف ، ويقال ألف بينهم أي استأنس بهم ، وداراهم حتى يثبتوا ويتقربوا[2] .
واما الكلمة الثانية ـ أي القلوب ـ فهي الجزء الصنوبري المعروف ، والمراد بها هنا ما يتعلق بها من العقل والوعي والادراك مثل قوله تعالى : ( إن في ذلك لذكرى لمن كان قلب)[3] قال الفراء : أي عقل ، وقال غيره : أي لمن كان له فهم وتدبر[4] .
وأما المؤلفة قلوبهم فقد قال صاحب التهذيب : ( هم قوم من سادات العرب ، أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في أول الاسلام بتآلفهم ، أي بمقاربتهم ، واعطائهم ليرغبوا من وراءهم في الاسلام ، فلا تحملهم الحمية مع ضعف نياتهم على أن يكونوا البا مع الكفار على المسلمين ….. )[5] .
موردها في القرآن الكريم ، وأقوال المفسرين فيها :
لقد وردت هذه الكلمة مرة واحدة في القرآن الكريم وهي قوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )[6] يقول الطبري في تفسيرها : ( وأما ” المؤلفة قلوبهم “, فإنهم قوم كانوا يُتَألَّفون على الإسلام، ممن لم تصحّ نصرته، استصلاحًا به نفسَه وعشيرتَه, كأبي سفيان بن حرب، وعيينة بن بدر، والأقرع بن حابس, ونظرائهم من رؤساء القبائل…… ) ثم قال : ( وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ) ثم روى بسنده عن ابن عباس قال : ) “والمؤلفة قلوبهم ” ، وهم قوم كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أسلموا, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرضَخ لهم من الصدقات فإذا أعطاهم من الصدقات فأصابوا منها خيرًا قالوا: هذا دين صالح ! وإن كان غير ذلك, عابوه وتركوه )[7] .
16846- ثم ذكر الطبير بسنده عن يحيى بن أبي كثير أسماء الأشخاص المؤلفة قلوبهم وقبائلهم ، فقال : ( أن المؤلفة قلوبهم من بني أمية: أبو سفيان بن حرب ، ومن بني مخزوم: الحارث بن هشام, وعبد الرحمن بن يربوع ، ومن بني جُمَح: صفوان بن أمية ، ومن بني عامر بن لؤي: سهيل بن عمرو, وحويطب بن عبد العزى ، ومن بني أسد بن عبد العزى: حكيم بن حزام ، ومن بني هاشم: سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، ومن بني فزارة: عيينة بن حصن بن بدر ، ومن بني تميم: الأقرع بن حابس ، ومن بني نصر: مالك بن عوف ، ومن بني سليم: العباس بن مرداس ، ومن ثقيف: العلاء بن حارثة ، أعطى النبي صلى الله عليه وسلم كل رجل منهم مئة ناقة, إلا عبد الرحمن بن يربوع، وحويطب بن عبد العزى, فإنه أعطى كلَّ رجل منهم خمسين ) .
ثم أورد قريباً من ذلك عن مجاهد ، والحسن البصري ، وقتادة ، وغيرهم ، ونقل عن الزهري قوله : ( هم من أسلم من يهودي أو نصراني … وان كان غنياً )[8] .
ونقل الفخر الرازي عن ابن عابس قوله : ( هم أشراف من الأحياء ، أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وكانوا خمسة عشر رجلاً ، أعطى كل رجل منهم مائة من الابل ، ورغبهم في الاسلام إلاّ عبدالرحمن بن يربوع أعطاه خمسين من الابل ، وأعطى حكيم بن حزام سبعين من الابل ، فقال : يا رسول الله ما كنت أرى أن أحداً من الناس أحق بعطائك مني فزاده عشرة ، ثم سأله فزاده عشرة ، وهكذا حتى بلغ مائة ” لكن حكيم لم يأخذ إلا الأعطية الأولى )[9] .
وقد تنبه الرازي لنكتة لطيفة وهي أن سبب ذكر ابن عابس هذه القصة في تفسير آية الصدقات ـ مع انها خاصة بغنائم حنين ـ يعود ـ والله أعلم ـ إلى أنها تدل في الجملة على صرف الأموال إلى المؤلفة …. )[10] .
وقال الجصاص : ( انهم كانوا قوماً يتآلفون على الاسلام بما يعطون من الصدقات ، وكانوا يتآلفون بجهات ثلاث : إحداها للكفار لدفع مضرتهم كف أذيتهم عن المسلمين والاستعانة بهم على غيرهم من المشركين ، والثانية : لاستمالة قلوبهم ، وقلوب غيرهم من الكفار إلى الدخول في الاسلام ، ولئلا يمنعوا من أسلم من قومهم من المسلمين حديثي العهد بالكفر لئلا يرجعوا إلى الكفر …. )[11] .
وقريباُ من ذلك ذكره الماوردي[12] ، وابن العربي[13] ، وابن الجوزي[14] ، وابن كثير[15] ، والسيوطي[16] ، والآلوسي[17] ، وصاحب المنار[18] ، والقاسمي[19] ، وغيرهم[20] .
ورودها في السنة البنوية المطهرة :
تكررت لفظة ” المؤلفة قلوبهم ” في السنة النبوية المطهرة أكثر من مرة ، فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما بسندهم عن عبدالله بن زيد بن عاصم قال : ( لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم ، ولم يعط الأنصار شيئاً …. )[21] وفي رواية أخرى صحيحة : ( لما كان يوم حنين آثر النبي صلى الله عليه وسلم ناساً : أعطى الأقرع مائة من الابل وأعكى عيينه مثل ذلك ، وأعطى ناساً ….. )[22] وفي وراية لمسلم عن رافع بن خديج ، قال : ( أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب ، وصفوان بن أمية ، وعيينة بن حصن ،والأقرع بن حابس ، كل إنسان منهم مائة من الابل وأعطة عباس بن مرداس دون ذلك ، فأنشد شعراً فأتم له مائة )[23] .
يقو الحافظ بن حجر في بيان معنى ” المؤلفة قلوبهم ” انهم : ناس من قريش أسلموا يوم الفتح اسلاماً ضعيفاً ، وقيل كان فيهم من لم يسلم بعد كصفوان بن أمية .. وأما المراد بالمؤلفة قلوبهم هنا هذا الأخير ـ أي الذين أسلموا من الطلقاء ـ لقوله في رواية الزهري في الباب : ( فإني أعطي رجالاً حديثي عهد بكفر أتآلفهم ) ثم ذكر أن أبا الفضل بن طاهر سرد في ” المبهمات ” أسماء المؤلفة قلوبهم فبلغت أكثر من أربعين شخصاً [24]، بل عد ابن الجوزي أسماءهم في جزء مفرد فبلغوا نحو الخمسين شخصاً [25] .
” المؤلفة قلوبهم ” في اصطلاح الفقهاء :
اختلف الفقهاء في تعريف ” المؤلفة قلوبهم ” تبعاً لوجهات نظرهم ، ولذلك نذكر تعريفات كل مذهب بإيجاز ثم نذكر التعريف المختار :
يقول الكاساني الحنفي : ( وأما المؤلفة قلوبهم فقد قيل : أنهم كانوا قوماً من رؤساء ، وصناديد العرب مثل أبي سفيان ، ولهم شوكة وقوة وأتباع كثيرة ، بعضهم أسلم حقيقة ، وبعضهم أسلم ظاهراً لا حقيقة وكان من المنافقين ، وبعضهم كان من المسالمين ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم من الصدقات تطييباً لقلوب المسلمين عنهم وتقريراً لهم على الاسلام ، وتحريضاً لأتباعهم على أتباعهم ، وتأليفاً لمن لم يحسن إسلامه ، وقد حسن إسلام عامتهم …. )[26] .
ويقول الخرشي : ( المؤلفة قلوبهم كفار يعطون ليتآلفوا على الاسلام) ، هذا هو الصحيح عند المالكية ، ولذلك ذكر القول الثاني بما يشعر الضعف حيث قال : ( وقيل : المؤلفة مسلم حديث عهد بالاسلام يعطى ليتمكن اسلامه )[27] .
وعرف الشافعية المؤلفة قلوبهم بمن يشمل المسلم حديث العهد بالاسلام ، والكافر الذي يرجى اسلامه ، أو يخاف شره ، لكنهم يقولون : يعطى للكافر منهم من غير الزكاة[28] .
وعمم الحنابلة المؤلفة للمسلم والكافر ، وقالوا : يعطون منها مطلقاً ، وذكروا أربعة أصناف سواء كانوا مسلمين ، أم كفرة[29] .
قال ابن حزم الظاهري : هم قوم لهم قوة لا يوثق بنصيحتهم للمسلمين فيتآلفون بأن يعطوا من الصدقات ومن خمس الخمس لكنه اشترط الاسلام في حالة الدفع من أموال الزكاة حيث قال : ( ولا يجوز أن يعطى منها كافراً )[30] .
والزيدية فسروهم بمثل تفسير الشافعية ، حيث يشملون الكافر والمسلم…..[31] ، وكذلك الاباضية[32] .
والذي يظهر لي رجحانه ، تعريف المؤلفة قلوبهم بكل من يقصد بالدفع إليهم معونة الاسلام ، أما بتمكينه من قلوبهم ، أو بدفع آذاهم وصدهم عن سبيل الله ، وذلك بأن تتحقق مصلحة له سواء اكانوا كفاراً ذوي تأثير فيشجعون بتأليفهم على الاسلام ، أو يتشجع بهم قومهم من خلالهم ، او يدفع بهم أذاهم عن المسلمين ، أم كانوا مسلمين حديثي العهد بالاسلام مهددين من قبل الاعداء ، فيكون تأليفهم عوناً على تمكن الاسلام منهم .
ويدل على هذا التعميم ورود الأحاديث الثابتة الدالة على أن المؤلفة قلوبهم الذين دفع لهم الرسول صلى الله عليه وسلم الأموال كانوا من حديثي العهد بالاسلام ، بل ومن الكفار ، حيث ورد في بعض الروايات الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم دفع لبعضهم واعترف بأنه حينما أعطى كان أبغض الناس لديه فأعطاه حتى صار أحب الناس إليه ، يقول النووي : (حديث أعطاء النبي صلى الله عليه وسلم مؤلفة الكفار صحيح مشهور ، من ذلك أنه صلى الله عليه وسلم أعطى صفوان بن أمية من غنائم حنين ) صفوان يومئذ كافر ، قال صفوان : (لقد أعطاني ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليّ ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليّ)[33] قال النووي : ( وسمي هذا الصنف مؤلفة ، لأنهم يتآلفون بالعطاء ، وتستمال به قلوبهم)[34] .
بالاضافة إلى أن هذه الكلمة وردت في الآية مطلقة تشمل كل من يراد تأليف قلبه سواء أكان مسلماً أم كافراً ، ولم يرد دليل صحيح بتقييدها بالاسلام ، فتبقى على إطلاقها ، ناهيك عن ورود دليل صحيح على شمولها للكافر أيضاً ، فالكلمة نفسها توحي بأن المقصود هو تأليف القلوب ( بالاستمالة إلى الاسلام ، او التثبيت عليه ، أو بكف شرهم عن المسلمين ، أو رجاء نفعهم في الدفاع عنهم ، او نصرهم على عدو لهم ، أو نحو ذلك )[35] .
العلة في صرف الزكاة لهم :
إن الصياغة القرآنية في ذكر المؤلفة قلوبهم بهذه الصورة تشعر بأن العلة هي تأليف القلوب ، وذلك لأن تعليق الحكم ـ كما قال الأصوليون ـ بوصف مشتق مؤذن بعلية ما كان منه الاشتقاق[36] وأكثر من ذلك أن هذه العلة في نظرنا منصوصة في أحاديث صحيحة ، منها قوله صلى الله عليه وسلم : ( فإني أعطي رجالاً حديثي عهد بكفر أتآلفهم )[37] وقوله : ( أن قريشاً حديث عهد بجاهلية ومصيبة ، وإني أردت أن أجبرهم وأتآلفهم )[38] .
قال الحافظ ابن حجر : ( وقد ذكر السبب ـ أي العلة ـ في ذلك في رواي قتادة عن أنس : (ثم قال في بيان سبب تقسيم الأموال على المؤلفة : ( لأن فيه استجلاب قلوب أتباعهم الذين كانوا يرضون إذا رضي رئيسهم ، فلما كان ذلك العطاء سبباً لدخولهم في الاسلام ، ولتقوية قلب من دخل فيه قبل تبعهم من دونهم في الدخول ، فكان في ذلك عظيم المصلحة )[39] .
وقد عقد مسلم بابين بهذا الخصوص : باب : إعطاء من يخاب على إيمانه ، وباب : إعطاء المؤلفة قلوبهم على الاسلام ، وتصبر من قوي ايمانه ، وأخرج فيها أحاديث منها ما ذكرناه ومنها ما رواه بسنده عن سعد بن الوقاص قال : ( أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطاً وأنا جالس فيهم ، قال : فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً لم يعطه ، وهو أعجبهم إلي ، فقمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فساررته ، فقلت : يا رسول الله ! مالك عن فلان ؟ والله إني لأراه مؤمناً .. فسكت قليلاً ، ثم غلبني ما أعلم منه ، فقلت يا رسول الله ! مالك عن فلان ؟ فوالله إني لأراه مؤمناً .. ) ثم كرر سعد مقالته للنبي صلى الله عليه وسلم حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إني لأعطي الرجل ، وغيره أحب إلي منه ، خشية أن يكب في النار على وجهه ) وفي رواية أخرى لما أكثر سعد من تكرار مقالته والنبي صلى الله عليه وسلم لم يعطه قال : ( اقتالاً أي سعد ، إني لأعطي الرجل …….. )[40] .
فهذه الأحاديث صريحة في أن العلة في إعطاء الأموال إلى المؤلفة قلوبهم ـ سواء أكانت من الزكاة أم من غيرها ـ هي تأليف القلوب ، واستمالتها إلى الاسلام ، أو استمالة الأتباع إليه.
أصناف المؤلفة قلوبهم :
يظهر لنا من خلال دراسة أقوال الفقهاء والمفسرين ، وشراح الحديث أن الذين ينطبق عليهم وصف ” المؤلفة قلوبهم ” عدة أصناف منهم المؤمنون حديثو عهد بالاسلام ، ومنهم الكفار الذين يؤثر فيهم العطاء ـ على خلاف بينهم في مدى صرف الزكاة للكفار ـ ونحن نذكر نصوصهم بهذا الصدد ، ثم تلخصها في الأصناف الممكنة .
فقد ذكر الكبري أن المؤلفة قلوبهم منهم الذين أسلموا لكنهم كانوا حديثي عهد بالاسلام ، ومنهم الكافر الذي لم يسلم بعد مثل صفوان بن أمية ، ودخل الاسلام بسبب كثرة العطاء[41] .
وذكر القاضي ابن العربي عدة أقوال منها : ( من قال : انهم مسلمون يعطون لضعف يقينهم حتى يقووا مثلهم بأبي سفيان بن حرب ، ومنهم من قال : انهم كفار مثلهم بعامر بن الطفيل ، ومنهم من قال : انهم كانوا مسلمين ، ولهم إلى الاسلام ميل ) .
ورورى ابن وهب عن مالك : ( ….وكان صفوان يوم الهطية مشركاً وأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى المؤلفة قلوبهم فحسن اسلامهم …. )[42] .
قال ابن العربي : ( ان أصناف المؤلفة قلوبهم مختلفة ، فمنهم ضعيف الايمان قوي بالأدلة والعطاء ولم يكن جميعهم كافراً )[43] .
وسبق أن ذكرنا أن الجصاص الحنفي ذكر لهم جهات ثلاثاً ، وقال الكاساني : ( بعضهم أسلم حقيقة وبعضهم أسلم ظاهراً لا حقيقة وكان من المنافقين ، وبعضهم كان من المسالمين ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم من الصدقات تطييباً لقلوب المسلمين منهم ، وتقريراً لهم على الاسلام ، وتحريضاً لأتباعهم على أتباعهم ، وتأليفاً لمن لم يحسن إسلامه)[44] .
وحصرهم المالكية في الراجح عندهم في نوع واحد ، وهم الكفار حيث يعطوون ليتآلفوا على الاسلام ، وذهب بعضهم ـ ومنهم ابن عرفة ـ إلى أنهم مسلمون حديثو عهد بالاسلام يعطى لهم ليتمكن اسلامهم[45] .
وأما الشافعية فقد فصلوا في أنواع المؤلفة تفصيلاً جيداً وذكروا حكم كل نوع حيث قال الشيرازي والنووي : ( قال أصحابنا : المؤلفة ضربان مسلمون وكفار ، والكفار صنفان ، من يرجى إسلامه ، ومن يخاف شره ، فهؤلاء كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم ـ كما ذكرنا ـ من الغنائم ، لا مانع من الزكاة ، لأن الزكاة لا حق فيها للكافر ، وإنما يعطون من سهم المصالح ، وذكر النووي أن الأصح عندهم لايعطون بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، وبعضهم قال : لا يعطون إلاّ أن ينزل بالمسلمين حاجة .
وأما المؤلفة المسلمون فأصناف : صنف لهم شرف في قومهم يطلب بتأليفهم اسلام نظرائهم ، وصنف أسلموا ، ونيتهم في الاسلام ضعيفة فيتآلفون لتقوى نيتهم ، ويثبتوا وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي هذين .
وهل يعطون بعده ؟ فيه قولان مشهوران : أحدهما لا يعطون ، لأن الله تعالى أعز الاسلام فأغنى عن التآلف بالمال ، والثاني : يعطون ، لأن المعنى الذي به أعطوا قد يوجد بعد النبي صلى الله عليه وسلم .
ومن أين يعطون ؟ ف