يتكون المنهج الاصلاحي للسيد من عدة معالم رئيسية مهمة ، وهي :

أولاً : العودة إلى القرآن الكريم ، حيث كان يرى أن القاعدة الأساسية للاصلاح هو القرآن الكريم قائلاً : (القرآن من أكبر الوسائل في لفت نظر الإفرنج إلى حسن الإسلام، فهو يدعوهم بلسان حاله إليه. لكنهم يرون حالة المسلمين السوأى من خلال القرآن فيقعدون عن اتباعه والإيمان به”. فالقرآن وحده سبب الهداية وأساس الإصلاح، والسبيل إلى نهضة الأمة: “ومن مزايا القرآن أن العرب قبل إنزال القرآن عليهم كانوا في حالة همجية لا توصف؛ فلم يمض عليهم قرن ونصف قرن حتى ملكوا عالم زمانهم، وفاقوا أمم الأرض سياسة وعلمًا وفلسفة وصناعة وتجارة .. فالإصلاح الديني لا يقوم إلا على القرآن وحده أولاً، ثم فهمه فهمًا صحيحًا حرًا، وذلك يكون بتهذيب علومنا الموصلة إليه، وتمهيد الطريق إليها، وتقريبها إلى أذهان متناوليها) .

   إن دعوة الأفغاني إلى العودة إلى القرآن الكريم تنبع من إيمانه الوثيق بأن الله تعالى جعله شفاء لأمراض هذه الأمة ، فقال تعالى : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء)[1] وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ)[2].

 بل إن القرآن الكريم يبدي منتهى العجب لأمة يكون لديها كتاب ربها ، ويتلو آياته ومع ذلك تختلف وتتفرق ، حيث قال تعالى : (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)[3] وقد نزلت هذه الآية الكريمة حينما حاول اليهود زرع بذور الفرقة والنزاع بين الأوس والخزرج من أصحاب رسول الله صلى الله وعليه وسلم ، وسمى الله تعالى الفرقة كفراً لخطورتها وشدة مخالفتها لأمر الله تعالى فقال : (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ ) أي تتفرقون ، وتتنازعون ، وتعودون إلى العصبية الجاهلية ؟ !! كما سمى الرسول صلى الله عليه وسلم الحرب بين المسلمين كفراً فقال : (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ) .

 وشاهدنا في هذه الآية أنها تدل بصراحة ووضوح أن أمة الاسلام ما دامت لديها القرآن الكريم ، فتتلوه ، وتطبق أحكامه فلا ينبغي أبداً ولا يجوز شرعاً أن تفترق في الأصول وتختلف اختلاف القلوب والتضاد ، فهو البلسم الشافي والدواء الناجع .

 فالقرآن الكريم هو دستور الأمة الاسلامية ، وهو المرجع الحقيقي للأمة جمعاء ، ولا أحد من المسلمين يختلف حول ذلك ، وهو الجامع لأصول الوحدة ومبادئها ، ولقواعد الأخوة الاسلامية ، وحينما نتحدث عن القرآن الكريم تدخل معه السنة الصحيحة المبينة له .

 أما أنه كيف يوفر القرآن العظيم الحل والدواء لآلام ومشاكل المسلمين في عصرنا الحاضر ، فهو يتم من خلال ما يأتي :

‌أ)  تأريخنا الاسلامي خير شاهد على ذلك ، فقد نزل القرآن الكريم ، والناس أجمعون في غياهب الضلالة ، والجهل ، والفرقة ، والخلاف والنزاع ، وكانت العرب تعاني أشد ما تعاني من فرقة ونزاع ، وقتال داخلي بسبب العصبية الجاهلية ، والقبلية حتى قال الشاعر في وصف ذلك :

وأحياناً على بكر أخينا إذا لم نجد إلاّ أخانا

ومع ذلك جمع العرب ، ووحدهم ثم وحد كل المسلمين تحت راية التوحيد ( لا إله إلاّ الله محمد رسول الله ) .

‌ب) القرآن الكريم يضع بصورة واضحة المبادئ العامة والقواعد العامة ، والأسس لتحقيق الوحدة الاسلامية من خلال ما يأتي :

1.  ايجاب الوحدة ، وايجاب كل ما يمكن لتحقيق الوحدة من خلال عدة آيات كريمة منها قوله تعالى : (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ)[4] .

2.    بيان خطورة الفرقة والنزاع في آيات كثيرة منها قوله  تعالى : (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)[5].

3.  بيان عقوبة من يسعى للفرقة والخلاف فقال تعالى : (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ  يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ )[6] .

  بل إن الله تعالى بين عواقب الفرقة من الفتنة والمشاكل والمصائب على مستوى الفرد والأمة.

4.  بيان أسس الوحدة ، حيث بيّن القرآن الكريم أسس وحدة الأمة العقدية والفكرية ، والاجتماعية من حيث العقيدة ، والأصول ، ومن حيث وحدة المرجعية ، والتشريع ، ومن حيث الاخوة القائمة على الايمان (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)[7] .

5.  بيّن القرآن الكريم أن الوحدة كما هي فريضة فهي أيضاً ضرورة تقتضيها مصالح المسلمين ، بل وجودهم ، فقال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ)[8] فهذه الآية صريحة وواضحة في ان الكفر مهما اختلفت ملله ، وتفرقت طوائفه فهو ملة واحدة يقف بعضهم مع البعض ، وينصرون كفرهم في مقابل الايمان الحقيقي ، فإن لم تتم الولاية بين المؤمنين ولم ينصر بعضهم بعضاً ، ولم تتكون منهم أمة واحدة تقف في وجه العدو صفاً واحداً كالبنيان المرصوص فإن الأمة الإسلامية تكون في خطر داهم وفي فتنة عظيمة ، وفساد كبير.

6.    بيّن القرآن الكريم  مجموعة من الوسائل العملية لتوحيد الأمة منها وسيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومنها ضرورة وجود الخلافة الراشدة والدولة الواحدة في مبادئها ومصالحها ، وإن تنوعت أقاليمها وولاياتها .

 

 وقد ركز الإمام الأفغاني الحسيني في اعتماده على القرآن على ثلاثة أمور تمثل منهجه في هذا المجال ، وهي :

‌أ- بيان سنن الله تعالى في الخلق ، ونظام الاجتماع البشري ، وأسباب ترقى الأمم ، وتدينها ، وقوتها وضعفها .

‌ب- بيان أن الاسلام دين سيادة وسلطان ، وجمع بين سعادة الدنيا ، وسعادة الآخرة ، ومقتضى ذلك أنه دين روحاني اجتماعي ومدني وعسكري ، وان القوة الحربية فيه لأجل المحافظة على الشريعة العادلة ، والهداية العامة ، وعزة الملة ، لا لأجل الاكراه على الدين بالقوة .

‌ج-   أن المسلمين ليس لهم جنسية إلاّ دينهم ، فهم اخوة لا يجوز أن يفرقهم نسب ، ولا لغة ، ولا حكومة[9] .

 

ثانياً : الدعوة إلى احياء الاجتهاد ، وتجديد الفكر ، وتصحيح الفهم ، ونبذ التقليد التعصب الأعمى ، واحياء السنن ، وإماتة البدع والخرافات ، خالصاً من الشوائب ، بعيداً عن الشعوذة والانحرافات ، وإلى تشجيع العلم والابداع والابتكار ، والأخذ بالأحسن في كل شيء من العلم والعمل بعيداً عن الافراط والتفريط وغلو المتطرفين ، وتقصير المضيعين ، وإلى تجديد في الأمة تجدياً يقوم على الوعي والفهم ، والفقه والاستنباط ، وقراءة الكون ، والفقه لآيات الله في الأنفس والآفاق ، وللسن الالهية في الكون حتى تكون أمتنا قادرة على التعمير ، والتمكين من الأرض بل الكون كله والأخذ بكل تكنولوجيا وعلوم العصر .

 

ثالثاً : الجامعة الاسلامية ، بدل الجامعة العرقية ، أو غيرها :

  فقد سعى سعياً جاداً بكل الوسائل لتوحيد الأمة الاسلامية ، وتحقيق الجامعة الاسلامية على أساس الفكر الاسلامي الشامل ، حيث تجوّل في العالم الاسلامي بدءاً من أفغانستان مسقط رأسه ، إلى ايران ، والهند ، استنابول ، ومصر وغيرها ، سعياً منه لتوحيد الأمة الاسلامية ، حيث يقول الأفغاني : (….لقد جمعت ما تفرق من الفكر ، ولممت شعث التصور ، ونظرت إلى الشرق واهله ، فاستوقفتني الأفغان ، وهي أول أرض مس جسمي ترابها ، ثم الهند ، وفيها تثقف عقلي ، فإيران بحكم الجوار والروابط ، فجزيرة العرب ، من حجاز هي مهبط الوحي ، ومن يمن وتبابعتها ، ونجد ، والعراق وبغداد وهارونها ومأمونها ، والشام ودهاة الأمويين فيها ، والأندلس وحمراؤها وما آل إليه أمرهم ، فالشرق الشرق ، فخصصت جهاز دماغي لتشخيص دائه ، وتحري دوائه ، فوجدت أقتل أدوائه داء انقسام أهله ، وتشتت آرائهم ، واختلافهم على الاتحاد ، واتحادهم على الاختلاف ، فعملت على توحيد كلمتهم وتنبيههم للخطر الغربي المحدق بهم )[10] .

  ويقول في مقالة أخرى تحت عنوان : ماضي الأمة وحاضرها وعلاج عللها : ( وا أسفا ما أصعب الداء، وما أعز الدواء ! وما أقل العارفين بطرق العلاج !.كيف يمكن جمع الكلمة بعد افتراقها ؟ وهى لم تفترق إلا لأن كلاَّ عكف على شأنه ؟ أستغفر الله ..لو كان له شأن يعكف عليه لما انفصل عن أخيه وهو أشد أعضائه اتصالاً به ، ولكنه صُرف لشئون غيره وهو يظنها من شئون نفسه ..نعم ، ربما ألتفت كل الى ما هو فى فطرة كل حي من ملاحظة حفظ حياته بمادة غذائه وهو لا يدري من أي وجه يحصلها ولا بأي طريقة يكون في أمن عليها ، كيف تبعث الهمم بعد موتها وما ماتت الا بعد ما سكنت زمناً غير قصير إلى ما ليس من معاليها ، هل من السهل رد التائه إلى الصراط المستقيم ؟ وهو يعتقد أن الفوز في سلوك سواه ! خصوصا بعدما استدبر المقصد ، وفى كل خطوة يظن أنه على مقربة من الحظوة . كيف يمكن تنبيه المستغرق في منامه ، المبتهج بأحلامه؟ وفى أذنه وقر، وفى ملامسه خدر . هل من صيحة تقرع قلوب الآحاد المتفرقة من امة عظيمة تتباعد أنحاؤها ، وتتنائى أطرافها وتتباين عاداتها وطبائعها ؟ هل من نبأة تجمع أهواءها المتفرقة ؟ وتوحد آراءها المتخالفة ؟ بعد ما تراكم جهل و ران غبن ، وخُيل للعقول أن كل قريب بعيد ، وكل سهل وعر ، أيم الله إنه لشيء عسير يعيى في علاجه النطاسي، ويحار فيه الحكيم البصير بالأمور.

هل يمكن تعيين الدواء، إلا بعد الوقوف على أصل الداء. وأسبابه الأولى والعوارض التي طرأت عليه؟ إن كان المرض في أمة، فكيف يمكن الوصول إلى علله وأسبابه إلا بعد معرفة عمرها وما اعتراها فيه من تنقل الأحوال وتنوع الأطوار ؟ أيمكن لطبيب أن يعالج شخصا بعينه ويختار له العلاج ، قبل أن يعرف ما عرض له من قبل فى حياته ليكون على بينة من حقيقة المرض)[11] .

 ثم يقول : ( فعلاجها الناجع إنما يكون برجوعها إلى قواعد دينها والأخذ بأحكامه على ما كان في بدايته ، وارشاد العامة بمواعظه الوافية بتطهير القلوب ، وتهذيب الآخلاق وايقاد نيران الغيرة ، وجمع الكلمة ، وبيع الأرواح لشرف الأمة ، ولأن جرثومة الدين متأصلة في النفوس بالوراثة من أحقاب طويلة والقلوب مطمئنة إليه وفي زواياها نور خفي من محبته ، فلا يحتاج القائم باحياء الأمة إلاّ إلى نفخة واحدة يسري نفثها في جميع الأرواح لأقرب وقت ، فإذا قاموا لشؤونهم ووضعوا أقدامهم على طريق نجاحهم وجعلوا أصول دينهم الحقة نصب أعينهم فلا يعجزهم بعد أن يبلغوا بسيرهم منتهى الكمال الانساني .

 ومن طلب اصلاح أمة شأنها ما ذكرنا بوسيلة سوى هذه فقد ركب بها شططاً وجعل النهاية بداية وانعكست التربية وخالف فيها نظام الوجود فينعكس عليه القصد ولا يزيد الأمة إلاّ نحساً ولا يكسبها الا تعساً .

  هل تعجب أيها القارئ من قولي أن الأصول الدينية الحقة المبرأة عن محدثات البدع تنشئ للأمم قوة الاتحاد وائتلاف الشمل وتفضيل الشرف على لذة الحياة ، وتبعثها على اقتناء الفضائل وتوسيع دائرة المعارف ، وتنتهي بها إلى أقصى غاية في المدنية ، ان عجبت فإن عجبي من عجبك أشد ، هل نسيت تأريخ الأمة العربية وما كانت عليه قبل بعثة الدين من الهمجية والشتات واتيان الدنايا والمنكرات حتى اذا جاءها الدين فوحدها وقواها وهذبها ونور عقولها وقوم أخلاقها وسدد أحكامها فسادت على العالم وساست من تولته بسياسة العدل والانصاف ، وبعد أن كانت عقول أبنائها في غفلة عن لوازم المدنية ومقتضياتها نبهتها شريعتها وآيات دينها إلى طلب الفنون المتنوعة والتبحر فيها ، ونقلوا إلى ديارهم طب بقراط وجالينوس وهندسة اقليدس وهيئة بطليموس وحكمة أفلاطون وأرسطو، وما كانوا قبل الدين في شيء من هذا ، وكل أمة سادت تحت هذا اللواء إنما كانت قوتهاومدنيتها في التمسك بأصول دينها)[12].

  والخلاصة إن نظرية جمال الدين حول الوحدة الاسلامية تقوم على الأسس القرآنية ، فلنترك المجال للسيد جمال الدين نفسه ليحدثنا عن نظريته ، حيث يقول : ( لا بد إذن من بعث القرآن ، وبعث تعاليمه الصحيحة بين الجمهور ، وشرحها على وجهها الثابت ، ، من حيث يأخذ بها إلى ما فيه سعادتهم دنيا وآخرة )) ، ويقول مؤكداً على أن هذا البعث لا يتحقق إلاً : (( بقلع ما رسخ في عقول العوام ومعظم الخواص من فهم بعض العقائد الدينية والنصوص الشرعية على غير وجهها ، مثل حملهم نصوص القضاء والقدر على معنى يوجب عليهم أن لا يتحرموا إلى طلب مجد أو تخلص من ذل ، ومثل فهمهم لبعض الأحاديث الشريفة الدالة على فساد آخر الزمان وقرب نهايته ، فهماً يثبط هممهم عن السعي وراء الاصلاح والنجاح ، مما لا عهد للسلف الصالح به ))[13] .

  وقد أخذ السيد جمال الدين بضرورة الفصل بين النص القرآني المقدس المعصوم الخالد ، وبين تفسيرات البشر التي تقبل الخطأ والصواب في معظمها إلاّ إذا كان النص القرآني قطعي الدلالة ، فأوضح أن هذه التفاسير يمكن الاستئناس بها ، والاستفادة منها ، ولكن لا يجوز تقديسها وحملها على أنه من القرآن الكريم ، ولذلك تبنى السيد جمال الدين منهجاً متكاملاً في صياغة تفسير متكامل يعالج من خلال القرآن الكريم أمراض العصر ، والأمراض الاجتماعية المتفاقمة ، كقضية التخلف ، والانحطاط الحضوري ، وغلبة الاستعمار ، وهمينته على ديار الاسلام ، والعجز النفسي ، وعقدة الانصهار والذوبان والانسلاب الحضاري .

  ولم يكتف السيد جمال الدين بالجانب النظري ، بل طبق منهجه من خلال مجلته ( العروة الوثقى ) حيث بدأ مقالاته الأساسية بآيات قرآنية ، فافتتح العدد الأول بقوله تعالى : (رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)[14] وفي المقال الذي يليه بدأ بالآية (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا)[15] وفي معرض حديثه عن “انحطاط المسلمين وسكوتهم ، وسبب ذلك ” استهل مقالته بقوله تعالى : (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ)[16].

 فحينما تقرأ مقالات السيد جمال الدين تحسّ بأنه يستوحي أفكاره ونظراته من آيات القرآن الكريم على منهجه الشامل للجوانب الاجتماعية والسياسية إضافة إلى القضايا الفكرية والحضارية .

  والشيخ جمال الدين الأفغاني ، يعتمد في تفسيره ، وفي علاجه لمشاكل المسلمين على سنن الله تعالى التي ذكرها في القرآن الكريم ، وهي عبارة عن مجموعة من القوانين والسنن المبثوثة في كتابه المقروء ( القرآن ) وفي كتابه المفتوح ( الكون والتأريخ ) وهي سنن تضبط المسار الحضاري للأمم ، ومعالم حقيقية لنصرها أو هزيمتها ، وتقدمها أو تخلفها ، ونهوضها أو انحطاطها ، وقوتها أو ضعفها ، ووحدتها أو تفرقها ، وهذا ما بينه العلامة ابن خلدون منذ عدة قرون ، وأحياه السيد جمال الدين ، فقد كتب بحثاً معمقاً بعنوان ” سنن الله في الأمم ، وتطبيقها على المسلمين “[17].

  وقد وضع السيد مجموعة من الاجراءات الأساسية لاحياء وحدة المسلمين ، وذلك في رسالته الموجهة إلى السلطان عبدالحميد بشأن الوحدة الاسلامية ، بيّن فيها أمراض الأمة المتمثلة في : نوم الغفلة ، والاستلقاء على أسرة الجهل ، والركون إلى الكسل ، والخمول ، وملذات الدنيا وشهوات الأنفس ، والجهل بعواقب الأمور ، وعدن وجود إرادة قوية للتغيير ، ولذلك فالحل هو في التضحية والفداء ، والجهاد بشتى أنواعه بحكمة وعقل وتوفير شروط كل نوع منه .

  ومن أهم هذه الاجراءات هي القضاء على وسائل التفرقة بين المسلمين وهي العصبية القومية والوطنية والقبلية ، فكتب عن هذا المبدأ في بحث نشر في العروة الوثقى وهو أن : “لا جنسية للمسلمين إلاّ في دينهم ” وأكد على مبدأ آخر وهو : أن تتعاون الأحزاب السياسية وتتضامن في سبيل المصالح العليا ، ونبذ المصالح الشخصية .

  والخلاصة أن السيد جمال الدين الأفغاني قد سعى بمفرده بفردية ممتازة ، واستطاع ان ينشئ تياراً اصلاحياً وحدوياً جديداً لم تقف جهوده عند جمع أهل السنة فقط ، بل جمع أهل السنة مع أهل التشيع في إطار وحدة اسلامية جامعة شاملة تحقق مصالح الجميع .

 

رابعاً :  الدعوة إلى النهضة والتقدم ، والحرية ، وكرامة الانسان ، ورعاية حقوقه ، ومحاربة الظلم والاستبداد ، والدكتاتورية ، حتى حينما أنشأ مع الشيخ الامام محمد عبده جمعية العروة الوثقى وصحيفتها الناطقة ، جعل لها أهدافاً منها ( لتكون منبراً للتحريض ضد الظلم والاستبداد ، والدعوة إلى التحرير والنهوض ) .

 

الخلاصة :

ان منهج السيد جمال الدين يتلخص فيما يأتي :

1.  اصلاح النظام التعليمي بكل ما تعنيه هذه الكلمة .

2.  اصلاح النظام السياسي من خلال الحرية ، ونبذ الاستبداد والدكتاتورية .

3. اصلاح الفكر من خلال الاجتهاد ، والابداع والابتكار ، وأن وسيلته في ذلك هو القرآن الكريم ن وما بينه من مبينات الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم .

 

وأخيراً يرد السؤال الآتي :  هل نفس تلك الأساليب والآليات التي كان يطرحها السيد جمال الدين يمكن أن تلبي حاجتنا وتحل مشاكل المجتمع الاسلامي ؟

فالجواب :

  نعم  إن المبادئ العامة التي طرحها السيد جمال الدين الأفغاني لا زالت صالحة ، وفي غاية من الأهمية ولكن الأساليب والآليات التي طرحها قد تختلف بعضها ، ففي عصره كانت الخلافة العثمانية لا زالت قائمة مع ضعفها ، إذن كانت هناك مرجعية سياسية واحدة على الأقل لأهل السنة ، وكان للشيعة مرجعيتهم في ذلك الوقت .

  أما اليوم فالعالم الاسلامي تمزق إلى دول ودويلات مختلفة تستفيد مما طرحه السيد جمال الدين من الآليات ، ولكن قد يتغير بعضها .

 

ونحن في الختام نرى أن نستثمر الآثار الايجابية لهذا المؤتمر الذي تقيمه المستشارية الثقافية للجمهورية الاسلامية الايرانية في قطر من  :

1)    إحياء فكرة جمال الدين ، والتعريف به وبأفكاره .

2)    محاولة تأصيل الوحدة والتقارب والتقريب بين المسلمين .

3)    عدم الاغترار بما حدث لهذه الأمة من أعدائها على مرّ التأريخ .

 

وفي ظل الأخطار التي تواجه العالم الاسلامي المتمثلة في

أ‌)   محاولة عودة المحتلين إلى ديار الاسلام والمسلمين مرة باسم الحرية والديمقراطية ، ومرة باسم الأمن والارهاب ، كما حدث في أفغانستان ، والعراق .

ب‌)  محاولة السيطرة على سيادتنا ، وثرواتنا .

وأخيراً فإن السيد جمال الدين اعتبر الاحتلال الأجنبي أخطر ما يهدد هذه الأمة لأنه يريد تفريق الأمة حتى يسود ( فرق تسد ) يريد القضاء على سيادة الأمة حتى تذل الأمة وتفتقر ، يريد جهل الأمة حتى لا تحس بالمخاطر ، وبالتالي نهب ثرو