ننشر ملخصاً لبحث الإعجاز الاقتصادي في مجال المال والاقتصاد ، والتخطيط الاقتصادي – دراسة لإعجاز القرآن في ضوء الكتاب والسنة – ، والذي ألقاه الدكتور الشيخ علي القره داغي – الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ونائب رئيس المجلس الأوروبي للافتاء والبحوث – وذلك في المؤتمر العالمي الحادي عشر للإعجاز العلمي في القرآن والسنة والذي عقد مؤخراً بالمركز الإسلامي الثقافي في العاصمة الإسبانية مدريد .
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا وحبيبنا وقدوتنا محمد المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى اخوانه من الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله الطيبين ، وصحبه الميامين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
وبعد
فإن المقصود بالاعجاز الاقتصادي هو أن يتضمن القرآن الكريم أو السنة المشرفة ( منفردين أو مجتمعين ) حقائق اقتصادية في المال والأنشطة الاقتصادية والتخطيط الاقتصادي يعجز العقل البشري أن يصل إليها في عصر الرسالة ، أو أن يتضمن القرآن الكريم أو السنة المشرفة (منفردين أو مجتمعين) حقائق اقتصادية في المال والأنشطة الاقتصادية ، والتخطيط الاقتصادي يعجز العقل البشري أن يصل إليها في عصر الرسالة ، أو أن يتضمنا أخباراً غيبية في عصر الرسالة تحققت في عصرنا الحاضر ، مثل الاخبار عن الربا بأنه محق ، وعن الصدقات بأنها زيادة – كما سيأتي – .
كيفية شمول الإعجاز القرآني للإعجاز الاقتصادي :
تمهيد
حينما تتدبر الآيات التي وردت في الإعجاز ، والتحدي بالقرآن العظيم نجد ان هذا التحدي ليس موجهاً إلى العرب فحسب ، ولا إلى الإنسان فقط بل إلى الجن والانس ، مما يشعرنا بأن هذا التحدي بوجوه تعجز هؤلاء جميعاً .
كيفية الإعجاز الاقتصادي :
يتحقق الإعجاز الاقتصادي من خلال إبراز الجوانب الآتية :
الجانب الأول : الجانب العلمي والتنظيري ، بحيث أثبت القرآن الكريم أو السنة المطهرة مجموعة من المبادئ والقواعد العامة والمعلومات الدقيقية حول إدارة الثروة إدارة رشيدة لم يُسبق بها ، ولم تصل إليها النظريات الحديثة .
الجانب الثاني : الجانب الغيبي المتعلق بالاقتصاد ومحق الربا .
الجانب الثالث : التخطيط الإداري الاقتصادي كما في قصة يوسف عليه السلام .
الجانب الرابع : ما يتعلق بالتطبيقات العملية والتطبيقية من خلال العقود المنظمة للأنشطة الاقتصادية ، أو النظريات العملية الناجحة .
هذه هي النظرة الشمولية للإعجاز الاقتصادي ، ولكن طبيعة البحث لا تسمح بهذا التوسع ، ولذلك سنقتصر على بعض النقاط الجوهرية .
الحل المعجز في النظام الاقتصادي الاسلامي :
أمام فشل النظامين الدوليين – كما يراه العالم – نجد أن النظام الاقتصادي الاسلامي قد تفادى كل هذه العيوب الجوهرية والعملية ، وأعتقد أن الصيغة المناسبة في هذه المسألة هي ( الشفاء ) الذي يدل على أن علاجه منضبط متوازن ، ومتواز ، لا تترتب عليه آثار جانبية على عكس ( العلاج ) الذي قد يترتب عليه بعض الآثار الجانبية التي تظهر مخاطرها فيما ، وقد تكون أكثر ضرراً وخطراً من أصل المرض السابق ، وهذا ما حدث فعلاً حيث إن الرأسمالية الحرة حينما طغت ترتب عليها رد فعل عنيف أكثر ضرراً ، وهو الفكر الشيوعي الذي طبق على أشلاء الدكتاتورية الظالمة وهكذا .
“موريس آلي” الاقتصادي الفرنسي الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد :
كتب كتابا بعنوان “الشروط النقدية لاقتصاد الأسواق: من دروس الأمس إلى إصلاحات الغد”،ذكر فيه شرطين من أجل إعادة التوازن للأسواق والاقتصاد، وهما:
الشرط الأول أن يكون معدل الضريبة في حدود دنيا لا تتجاوز 2% في المائة .
الشرط الثاني : وأن يكون معدل سعر الفائدة في حدود الصفر ( أي بلا ربا ) .
وهذا ما يتطابق وينسجم تماما مع مبادئ الاقتصاد الإسلامي.
والفاتيكان قالت أمام الأزمة الاقتصادية : نحن بحاجة إلى إرجاع القيم الأخلاقية ، وأن الاقتصاد الإسلامي قادر على المساهمة في إعادة تشكيل قواعد النظام المالي الغربي .
الخلاصة أن النجاة في اقتصاد موزون …
ولذلك فإن الهدف الأسمى للاقتصاد الإسلامي من خلال نصوص الشريعة ومقاصدها هو الوصول إلى اقتصاد متزن متوازن موزون .
إن الله تعالى خلق كل ما في هذا الكون فأعطى لكل شيء وزنه ، ووضع كل شيء في مكانه بتوازن دقيق للوصول إلى كوْن موزون بجميع عناصره وطبائعه ، فقال تعالى : (وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ ) .
وهكذا صناعة الحياة في هذه الدنيا لن تستقيم إلاّ بالتوازن الدقيق ، وذلك لأن كل ما في هذا الكون زوج وشفع ، وهذا أثبته العلم الحديث ، وعبّر عنه القرآن الكريم بوضوح قبل أكثر من 14 قرناً فقال تعالى : (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) .
ومن طبيعة الشيء المزدوج قابليته لأحد عنصريه أي نحو اليمين أو اليسار ، فاإنسان بما أنه مكون من روح ومادة طينية يمكن أن يميل كثيراً نحو أحدهما ، فإذا مال كثيراً إلى الأول تحققت الرهبانية والانعزال ، وإذا مال ميلاً كبيراً إلى الجانب المادي تحققت الفلسفة المادية ، وهكذا جميع تصرفاته ، لذلك فهو في ذاته ، وفي جميع تصرفاته وأفعاله يحتاج حاجة ماسة إلى التوازن ، وهكذا نشاطه الاقتصادي ، ونشاطه السياسي ، والاجتماعي . .
وقد دلت التجارب والتأريخ والوقائع على أن هذا التوازن لن يستطيع البشر أن يحققه وحده بدون هداية ربانية ، ولذلك كانت الرسالة الخاتمة ( رسالة الإسلام ) قائمة على هذا التوازن في جميع أوامرها ونواهيها وإرشاداتها وتوجيهاتها ، ولذلك جعل هذا الميزان الدقيق بهذا التوازن منزلاً من عند الله تعالى مثل القرآن الكريم نفسه فقال تعالى : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) فبدون الميزان الدقيق لهذا التوازن لن يتحقق العدل قطعاً ، بل يكون العالم مرة يميل نحو اليمين ، ومرة نحن اليسار ، والحق دائماً هو الوسط والصراط المستقيم ، ولذلك نرى الآية بوضوح تربط بين الميزان وتحقيق العدل ( لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) .
وقد ذكرنا لذلك أمثلة كثيرة .
وأما الجانب الغيبي الذي تحدث عنه القرآن الكريم فهو محق الربا حيث يقول تعالى : (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) وهذا ما تحقق فعلاً خلال الأزمات المالية وبخاصة الأزمة المالية الحالية التي بدأت من عام 2008 ولا زالت آثارها قائمة إلى اليوم .
التنبأ بهذا الانهيار :
1- هذا التنبأ قد جاء في القرآن الكريم في قوله تعالى : (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا ) وفي الأحاديث النبوية الشريفة التي ذكرناها .
2- كذلك توصل بعض الاقتصاديين إلى ذلك من خلال الدراسات التحليلية ، منهم : الدكتور شاخت مدير بنك الرايخ الألماني سابقاً في محاضرة له بدمشق عام 1953م ، ومنهم الشيخ أبو الأعلى المودودي في كتابه القيم : أسس الاقتصاد بين الاسلام والنظم المعاصرة .
الاعجاز أيضاً تحقق في ميزان العدل في جميع العقود الإسلامية ، والظلم والاختلال في الربا ونحوه فالله تعالى أنزل نظاماً دقيقاً يقوم يقوم على أساس التوازن ، والمساواة الحقيقية بين الحقوق والواجبات لكل من العاقدين ( المقرض والمقترض ) لتصبح كفتا الميزان متعادلتين ، وأن الربا هو ظلم وخلل في هذا الميزان كما سماه القرآن الكريم بالظلم فقال تعالى : (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) حيث وزع الاسلام حقوق العقد وواجباته على كفتي الميزان ( أي العاقدين ) بعدالة ومساواة دقيقة ، فحينما يختل هذا التوازن يصبح العقد باطلاً ومحرماً ، فمثلاً في عقد القرض وضع في كفة المقرض ايجابية وسلبية : فالايجابية هي ضمان مبلغه في جميع الأحوال بمجرد قبضه ، والسلبية هي انه ليس له حق المطالبة بأي ظيادة مهما كانت النتائج ، وأما كفة المقترض فتضح إجيابية تتمثل في عدم مطالبته بأي زيادة حتى ولو استثمر القرض وحقق أرباحاً ، ولكنها تضم أيضاً سلبية ضمان المقرض له في جميع الأحوال .
وحينما يكون العقد عقد ربا تجتمع جميع الايجابيات لصالح المقرض ، فقرضه مضمون ، والزيادة المشروطة أيضاً مضمونة ، في حين أن المقترض محمل بكل السلبيات ، فهنا اختل التوازن ، ويترتب على هذا الاختلال اختلال اقتصادي واجتماعي له آثاره الخطيرة التي ظهرت خلال الأزمات الاقتصادية ولا سيما خلال الأزمة المالية الأخيرة .
ولذلك شدد الاسلام في تحريم الربا ، وقدم بدائل تحقق العدالة والتوازن الدقيق بين حقوق وواجبات العاقدين ، مثل المضاربة حيث إن كفة المضارب فيها ايجابية عظيمة وهي حرية التصرف فيه ، وعدم ضمانه لرأس المال إلاّ في حالة التعدي والتقصير والاهمال ومخالفة الشروط ، والعرف التجاري ، وفي مقابلها سلبية أن الأرباح التي حققها المضارب بخبرته العظيمة يشارك فيها رب المال الذي لم يشترك في الإدارة أصلاً ، وأما كفة رب المال فتضم إيجابية وهي المشاركة في الأرباح المحققة حسب الاتفاق ، وفي مقابلها أن ماله ليس مضموناً إلاّ في الحالات التي ذكرناها .
وكذلك شرع الاسلام المشاركة في الأموال والمساقاة والمزارعة ، ففي هذه الحالات فإن رأس المال يأخذ قسطاً من الأرباح المحققة ما دام في مقابله ، وهذا يدل على أن للزمن قيمة محسوبة لرأس المال ولكن ليس له وحده وإنما عندنا تطبق قاعدة ( الغنم بالغرم ) .
وكذلك نحد فعلاً الاعجاز الاقتصادي في التخطيط الاداري الاقتصادي كما في قصة يوسف عليه السلام ، وفي سبق الاسلام بمبدأ سلطان الارادة ، ونحوه .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم