بسم الله الرحمان الرحيم

منع المرأة المتوافرة فيها الشروط والضوابط المطلوبة من القضاء ليس عليه دليل من الكتاب والسنة.

القضاء اليوم مؤسسة والحكم فيها جماعي وليس قضاء فرديا كما كان في السابق.

الحديث الوارد في منع تولي المرأة محمول على الولاية العامة فقط.

أثارت مسألة تعيين عدد من النساء قاضيات في مصر مسألة مشروعية قضاء المرأة في الشريعة الإسلامية الغراء.

ونحن نبحث الموضوع في إطاره الشرعي الفقهي بعيدا عن الجوانب السياسية، وما تعلق بها من حيث الزمن وما يمكن استغلاله لصالح جهة دون أخرى.

 

حكم المسألة في الفقه الإسلامي:

اختلف الفقهاء في حق المرأة في توليها القضاء على رأيين أساسيين:

أحدهما لجمهور الفقهاء حيث ذهبوا إلى أن اشتراط الذكورة في القضاء، ومنع المرأة من تولي القضاء مطلقا، وهؤلاء استدلوا بما يأتي”

أولا: ببعض الآيات الواردة في شأن القوامة، وداخل الأسرة، مثل قوله تعالى” الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا” النساء الآية 34.

حيث قالوا: إن هذه الآية تدل على أن الرجال هم القوامون على النساء وإذا جاز أن تكون المرأة قاضية، انعكس الأمر فأصبحت هي القوّامة على الرجال.

واستدلوا كذلك بقوله تعالى “وللرجال عليهن درجة”البقرة الآية 228 وهذه الدرجة في نظر هؤلاء هي درجة القوامة على النساء في كل شيئ.

ثانيا: استدلوا بالسنة المتمثلة في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري بسنده عن أبي بكرة… قال ” لما بلغ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى قال << لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة >> (1) وهذا الحديث ظاهر في الدلالة على منع المرأة من الولاية التي تشمل القضاء في نظر هؤلاء.

ثالثا: القياس على الولاية العظمى

رابعا: النظر إلى طبيعة المرأة، وما يجب لها من ستر، وما يعتريها من ضعف في حالات الحيض والنفاس والولادة ونحوها، كل ذلك يتعارض مع هذا المنصب الذي يحتاج إلى القوة والتفرغ الذهني والبدني، والخلاصة أن المصلحة تقتضي إبعادها عن المنصب في نظر هؤلاء.

 

القول الثاني هو جواز إسناد القضاء إلى المرأة في الجملة، ولكن هؤلاء اختلفوا على رأيين:

الرأي الأول: جواز إسناد القضاء مطلقا إلى المرأة، وهذا رأي ابن حزم الظاهري- كما في المحلى (8/528 ) ومروي عن المفسرين ابن جرير الطبري- كما ذكره الماوردي في أدب القاضي(1/626) والمغني لابن قدامة(11/380 ).

الرأي الثاني: هو رأي السادة الحنفية- ما عدا زفر- وبعض المالكية، حيث ذهبوا إلى جواز وصحة قضائها فيما يجوز وتصح شهادتها، أي في غير الحدود والدماء، قال الكسائي ” وأما الذكورة فليست هي شرط جواز التقليد في الجملة، لأن المرأة من أهل الشهادات في الجملة إلا أنها لا تفضي بالحدود والقصاص”

 

وقد استدل ابن حزم ومن معه بالآتي:

  1. أن الآيات الكريمة، والسنة النبوية أثبتت ولاية المسلمين والمسلمات بعضهم لبعض، وأن الأصل هو المساواة بينهما إلا ما دل دليل خاص على استثناء المرأة ولم يثبت إلا في الإمامة العظمى.

  2. أن حديث ابن عمر الصحيح المتفق عليه يثبت للمرأة المسؤولية والولاية كما للرجل حيث قال الرسول ( صلى الله عليه وسلم) <<كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها..>>.

  3.  قياس القضاء على الإفتاء الذي أجازه العلماء للمرأة بالإجماع.

  4.  أن الذكورة ليست وصفا مؤثرا حتى يتعلق بها صحة القضاء.

 

وقد استدل الحنفية على جواز تولي المرأة القضاء ما عدا الحدود والقصاص، بأن المرأة أصل للشهادة بنصوص القرآن والسنة وهناك تفصيل في مذهب الحنفية حول التولية والقضاء ليس محل ذكره هنا.

 

الخلاصة مع الترجيح

أن هناك رأيا معتبرا داخل المذاهب الأربعة وهو رأي الحنفية وبعض المالكية بجواز قضاء المرأة في غير الحدود  والقصاص، ورأيا معتبرا آخر لابن حزم، وهو مروي عن شيخ المفسرين ابن جرير الطبري، ومن هنا فالقول بأن قضاء المرأة ممنوع بالإجماع قول غير صحيح.

وما يظهر لنا من رجحان هو القول بجواز أن تتولى المرأة القضاء إذا توفرت فيها الشروط الآتية:

  1. أن تتوافر في المرأة المراد تقليدها القضاء الشروط المطلوبة في القضاة، من أهلية القضاء من رجحان العقل، والاتزان، وسلامة الحواس، ومن العدالة والاستقامة على طريق الحق، والقدرة على الوقوف أمام الباطل من خلال شخصية قوية متزنة، إضافة إلى العلم بالأحكام الشرعية لأن القاضي الجاهل في النار- كما ورد ذلك في الحديث.

  2. أن تهيئ للقاضيات الأجواء التي لا تتعارض مع أحكام الشريعة.

  3. أن لا يكون هذا المنصب على حساب تربية أولادها والحقوق المتبادلة بينها وبين زوجها.

 

وبهذا الشرط يرد على من يقول: إن النساء مشغولات بالتربية وحقوق الأزواج وذلك لأن هناك عددا من النساء العالمات اللاتي لسن مشغولات بالأزواج، ولا بالأولاد إما لأنهن وصلن إلى سن معينة، أوانهن ليس لديهن هذه المشكلة أساسا. والمرأة في ذلك لا تختلف عن الرجال إذا أهملوا حقوق الأولاد والزوجات.

والذي يدل على رجحان هذا الاختيار هو ما يأتي:

أولا: لا يوجد فعلا دليل قطعي الدلالة، والثبوت، ولا قطعي الدلالة على اشتراط الذكورة في القضاء، وبالتالي فيبقى الأمر على أصل الإباحة، لأن القضاء ليس من العبادات الشعائرية التي يشترط فيها وجود نص للإثبات، وإنما هي من الأشياء التي تعتبر معقولة المعاني وتقبل التعليل.

 

والأدلة التي ذكرها المانعون يمكن الجواب عنها بسهولة على ضوء ما يأتي:

أولا: إن قوله تعالى ” الرجال قوامون على النساء ” لا يدل بنصه على منع المرأة من تولي القضاء مطلقا إذا توافرت فيها الشروط المطلوبة، وذلك لان هذه الآية تتحدث عن تنظيم البيت المسلم و الأسرة، حيث يقودها الزوج الذي ينفق، والذي أعطاه الله تعالى قدرة على إدارة البيت، فهو له دوره، والزوجة لها دورها في البيت، واختلاف الأدوار هو اختلاف تنوع وتكامل وليس اختلاف تضاد وتعارض، فسياق الآية ولحافها ومضمونها حول توزيع الأدوار بين الزوج والزوجة.

فالآية ليست عامة لجميع الأحوال والظروف ، وأن لفظ الرجال ليس عاما يقصد به جميع أفراد الرجال في جميع الأحوال، بل يمكن أن يكون <ال> التعريف للعهد أو الجنس، وليس للاستغراق، وحتى لو كان للعموم وحينئذ يقال : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب،  نقول إن المحققين من الأصوليين نصوا على أن العموم يخصص بالقرائن، حيث جاء في البحر المحيط للزركشي: <<قال الشيخ تقي الدين في شرح الإلمام: نص بعض كبار الأصوليين على أن العموم يخصص بالقرائن>> والقرائن هنا كثيرة منها تتمة الآية ” ” الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم…” 

ومنها أنه لو سرنا على العموم، فهل للرجل الأجنبي قوامة على المرأة غير زوجته، وهل ينفق عليها وهل يؤدبها؟ وهل…..؟ فالقوامة هنا هي الولاية داخل البيت، وهي ولاية الإدارة وولاية قائمة على التشاور والتراض بنص آية أخرى يتحدث عن موضوع فصال الطفل مبينا أنه لابد فيه من التشاور قال تعالى” فإن أرادوا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما…” البقرة 23 فإذا كان فطام الولد لا ينبغي إلا بعد تراض وتشاور بين الزوجين فكيف بالأمور الأكبر منه؟.

ثانيا: إن قوله تعالى ” وللرجال عليهن درجة” ليس فيه أي دليل على أن هذه الدرجة هي ولاية القضاء، بل الظاهر من سياقها ولحاقها ومضمونها هو أن هذه الدرجة هي درجة القوامة في البيت، ودرجة أن الطلاق والرد بيده، فهذه الجملة الكريمة جاءت في آية الطلاق حيث تقول ” والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء…” ثم قالت الآية” وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا” ثم أثبتت الآية المساواة الكاملة للزوجين باستثناء درجة واحدة فقالت ” ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة” وهي درجة الرد أي الانفراد بحق الرجعة والرد حفاظا على كيان الأسرة.

ثالثا: أن الحديث الذي ذكروه لا شك أنه صحيح، ولكن ظاهره هو في الولاية العظمى والإمامة الكبرى أي خليفة المسلمين، مع ملاحظة أن الرئاسة اليوم ليست فردية في الدول الديمقراطية، بل هي جماعية، موزعة على فصل السلطات.

رابعا: أن قياس القضاء على الإمامة العظمى قياس مع الفارق، فشتان بين المنصبين وأن الفروق الجوهرية بينهما ظاهرة للعيان.

خامسا: أن القضاء اليوم أيضا ليس قضاء شخص واحد، ولا لدرجة واحدة، فالدرجات ثلاث هي المحكمة الابتدائية، والاستئناف، والتمييز(النقض) ثم أن كل محكمة لا يحكم فيها قاض واحد وإنما تتكون من ثلاثة أشخاص على الأقل، ويصدر القرار بالإجماع، أو الغالبية، إذن لو وجدت امرأة حتى لو كانت رئيسة فليس القرار قرارها وحدها، وإنما هو قرار اثنين أو أكثر، والاهم من ذلك هو أن القرار لا يأخذ طابع البت، ولا ينتهي إلى الحسم والقطع إلا بعد إقرار محكمة التمييز (النقض)، ولا يعقل أن يكون القضاة في كل هذه الدرجات الثلاث من النساء القاضيات جميعا؟

ولذلك يكون من الأفضل أن يتشكل الأعضاء من الرجال والنساء، ولا سيما في مسائل الحدود والدماء، وإذا تمحضت المحكمة الابتدائية من النساء فقط فينبغي أن تحول إلى المحكمة التالية التي لا تتمحض من النساء.

ويمكن أن نستغني عن كل ذلك بشرط واحد، وهو أن تتكون محكمة التمييز(النقض) الخاصة بالحدود والدماء من الرجال والنساء، وبالتالي لم يتمحض القرار الصادر حول الموضوع قرارا لقاضية، وإنما لقضاة بينهم النساء والرجال وبذلك حققنا ما ذهب إليه الحنفية، وابن القاسم من المالكية.

هذا هو ما توصلت إليه فإن كان صوابا فهو من الله وحده، وبتوفيقه، وإلا فأرجو أن لا أحرم من أجر واحد

 

والله الموفق