ورقة حول

وسائل الوقاية من الالتجاء إلى الطلاق

في ضوء الكتاب والسنة ومقاصد الشريعة

 

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعامين محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين

وبعد

  فهذه ورقة نوجز فيها القول حول الوسائل التي شرعها الإسلام لتجنب الطلاق ، وللحفاظ على بقاء الأسرة وتماسكها ، لأن الأسرة في الإسلام لها الأهمية القصوى في بناء صرح الجماعة والأمة والحضارة ، فهي اللبنة الأولى الأساسية في كل ذلك ، ولذلك أولاها القرآن (الذي ليس من شأنه الدخول في التفاصيل في الأحكام الفرعية) عناية قصوى من حيث التفصيل والتأصيل ، حتى وصلت هذه التفاصيل إلى أدق التفاصيل الجزئية .

 ومن هذه القضايا الخاصة بالأسرة قضية الطلاق ، والوسائل الخاصة بتجنبه بكل الوسائل المتاحة .

  ونحن في هذه الورقة نتحدث عن هذه الوسائل بشيء من الإيجاز مبينين فيها مدى حرص الإسلام على عدم وقوع الطلاق إلاّ في حالة كما يقال في المثل (آخر الدواء الكي) داعين الله تعالى أن نوفق فيها وأن يجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهه الكريم  ، وأن يعصمنا من الخطأ والزلل في العقيدة والقول والعمل إنه مولاي فنعم المولى ونعم النصير  .

 

مقاصد الشريعة في الطلاق :

 عندما يقرأ الإنسان قوله تعالى : (وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى ان تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً)[1] يتبين للإنسان أن مقاصد الشريعة في باب الأسرة تكمن في إبقاء العشرة الطيبة والمعاشرة بالمعروف ، حتى في حالة كره الرجل لزوجته كرهاً شديداً فإن الإسلام يأمره بالصبر ، ويربطه بالعقيدة بالغيب ، ويبذل كل جهده لتعويض هذه الكراهية من خلال أن الله يجعل في هذا الزوج خيراً كثيراً في مجالات أخرى في مجال الأجر ، وفي مجال الأولاد الصالحين والذرية الصالحة ، وفي مجالات أخرى لا يعلمها الإنسان وإنما يعلمها الله تعالى .

 فلو تدبرنا الآية السابقة وقرأنا الجزء الأول منها وهي قوله تعالى : ( فإن كرهتموهن….) فإن القارئ العادي ينتظر أن يكون الجواب أو جزاء الشرط : فلا مانع من الفرقة أو الطلاق مثلاً ، ولكن الجواب يكون على عكس التوقع حيث يفهم منه : كلا ، لا توقعوا الطلاق ، وحافظوا على المعاشرة بالمعروف ، فإن لم تتحقق المعاشرة بالإحسان ، فلا ينبغي أن ننزل عن درجة المعروف والعدل ، ثم يبرر القرآن الكريم هذا الجواب بتمهيد عقدي ونفسي سايكولوجي غريب يقضي على العقدة النفسية التي أدت إلى الكراهية من خلال تفويض الأمر إلى الله ، وأن الإنسان لا يعلم الغيب ولا المستقبل ، ولا الخير الذي يتحقق في المستقبل ، فمهد الله تعالى نفس الكاره للمحبة ، أو على الأقل للقبول ، لأنه أخبر الله الحكيم بأنه يجعل فيه خيراً كثيراً ، ومن الناحية النفسية فلا يجتمع في القلب كراهة والإحساس بالخير الكثير ، حيث يقوم المصلحون الاجتماعيون والنفسيون بالجلوس مع الزوج والزوجة ، ويعدون ما لدى كل واحد من الإيجابيات ، وبعد جلة أو جلستين يقتنع الزوج بأن لدى زوجته نقاط كثيرة من الإيجابيات ، كما تقتنع الزوجة بأن لدى زوجها الكثير والكثير من الإيجابيات ، كما يقتنعان بأن في بقاء الزوجية الخير الكثير .

 وقد ســمعت هـذا كثيراً من هؤلاء ونجاحاتهم التي تـصل إلى نســبة مرتفعة .

 وإذا نظرنا إلى الآيات التي تتحدث عن الأسرة نجد أن هناك مقاصد شرعية واضحة ، وهي (ضبط نظام العائلة من مقصد الشرائع البشرية كلها…روعي فيه حفظ الإنسان من الشك في انتسابها …ولم تنزل الشرائع تعنى بضبط أصل نظام تكوين العائلة الذي هو اقتران الذكر بالأنثى المعبر عنه بالزواج ، ولا جرم أن الأصل في تشريع أمر العائلة هو إحكام آصرة النكاح ، ثم إحكام آصرة القرابة ، ثم إحكام آصرة الصهر ، ثم إحكام كيفية انحلال ما يقبل الانحلال من هذه الأواصر الثلاث…..)[2.

 بل إن الآيات الكريمة تذل بوضوح على أن مقاصد الشريعة السكنى ، والمودة ، والرحمة فقال تعالى : ( ومن آياته ان جعل لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون )[3] .

 

وسائل الوقاية :

 هذه الوسائل كثيرة ، وهي وسائل عقدية ، ووسائل نفسية ، ووسائل اجتماعية ، ووسائل عملية ، ومن جانب آخر فهي وسائل قبل الزواج ، ووسائل بعد الزواج نلخصها فيما يأتي:

 

أولاً : الوسائل العقدية وهي :

1 ـ الجانب الإيماني الذي يشمل الأمور الآتية :

أ ـ الإيمان بالله تعالى واستشعار الخوف من الله تعالى من الظلم والإيذاء ، ومراقبة الله تعالى ، والتفكير في اليوم الآخر ، حيث يجمع هذه المعاني لفظ ، التقوى من الله تعالى ، ولذلك تكرر معظم الحديث عن الزواج والطلاق وأحكام الأسرة ، بل بدأ الله تعالى بالتقوى في سورة النساء وفي أول آية منها فقال تعالى : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً)[4] وكذلك قوله تعالى في أول آية من سورة الطلاق فقال تعالى : (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهنّ لعدتهنّ وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم…)[5].

ب ـ الإيمان بأن الجميع (رجالاً ونساءً) من نفس واحدة ، وبالتالي فأصلها واحد.

 

2 ـ الجانب الأخلاقي :

  حيث إن الإسلام فرض مجموعة من الأخلاقيات في التعامل بين الناس جميعاً ، وبين الزوج والزوجة تؤدي إلى الوقاية من الوقوع في الطلاق .

 

3 ـ الجانب النفسي ، وذلك من عدة جوانب:

أ ـ أن المرأة جزء من الرجل ، وأن كليهما من نفس واحدة ، فقد شاء الله تعالى ان تبدأ هذه البتة في الأرض بأسرة واحدة ، فخلق ابتداءً نفساً واحدة ، وخلق منها زوجها فكانت أسرة من زوجين (وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً) فتقوم الأسرة الأولى من ذكر وأنثى هما من نفس واحدة ، وطبعة واحدة ، وفطرة واحدة .

ب ـ رعاية مكونات كل من الرجل والمرأة ، ورعاية خصائص كل واحد منهما ، وتوزيع الأدوار عليما بعدل وحكمة ، دون تجاهل لاستعدادات الرجل ، واستعدادات المرأة وتناسق هذه الاستعدادات مع بعضها البعض ، وتكاملها لإقامة الأسرة[6].

ج ـ رعاية الجانب النفسي للزوجين ، وبالأخص الزوجة ، حيث يقول الله تعالى (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) كما يقول سيد قطب : (أما تقوى الأرحام فهي تعبير عجيب يقلي ظلاله الشعورية في النفس … ارهفوا مشاعركم للإحساس بوشائجها ، والإحساس بحقها وتوقي هضمها وظلمها ، والتحرج من خدشها ومسها ، توقوا أن تؤذوها ، وأن تخرجوها وأن تغصبوها)[7] .

د ـ تأكيد القرآن الكريم على جوانب الخير في بقاء الزوجية ، كما سبق في تفسير قوله تعالى : (فإن كرهتموهن فعسى ان تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً)[8].

 

رابعاً : وسائل قبل الزواج :

  1.  اختيار الشريك الصالح ، أو الزوجة الصالحة . 

  2.  ملاحظة الجوانب النفسية والصحية ، والبدنية والاجتماعية من خلال الأسرة وأفرادها .

  3. البحث الطويل عن طبائع الزوج ، أو الزوجة من حيث المعاشرة والإدارة …. .

 

خامساً: وسائل بعد الزواج :

  1.  صناعة البيت الإسلامي منذ أول ليلة من خلال إقامته على الطاعة والصلاح .

  2. المشاورة المستمرة لكل الأمور (عن تشاور) والمناصحة الدائمة .

  3.  محاولة إرضاء الآخر بكل الوسائل المشروعة حتى التعريض في هذا الباب جائز ، بل أجيز الكذب إذا كان هناك ضرورة .

  4. الوعظ ومراعاة الآداب الشرعية للوعظ ووسائله وأساليبه المتنوعة (مع ذكر نماذج من وعظ الرسول صلى الله عليه وسلم).

  5. الهجر في المضجع مع بيان آثاره .

  6. الهجر في الكلام ، ومدته وشروطه .

  7. الضرب ومعناه وكيفيته ، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم فيه .

  8. تدخل مجلس الأسرة من خلال الحكمين ، وهذا التحكيم إجباري  فقد ذكر

 

جماعة من الفقهاء منهم الشافعية على المعتمد ، وبعض المالكية ، وهو مروي عن علي وابن العباس ومعاوية والشعبي[9]إلى أن التحكيم واجب عند حدوث الشقاق بين الزوجين حيث قال الله تعالى : ( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما )[10] فالآية صريحة في دلالتها على الوجوب وقد تبنى هذا الرأي القاضي ابن العربي فقال : ( إذا علم الإمام من حال الزوجين الشقاق لزمه أن يبعث إليهما حكمين )[11] وقد ذكر القاضي أن المراد بالمخاطب هو ولي الأمر ونائبه المتمثل في القاضي[12] ، حيث لا يجوز له البت في الأمر إلاّ بعد هذا الإجراء ، وهو إرسال حكم من أهله ، وحكم من أهلها ، أو أن المراد أولياء الزوجين إذا كانا محجورين ، وأن الحكمين هما بمثابة القاضيين وليسا وكيلين ، قال القاضي ابن العربي : ( هذا نصّ من الله تعالى من أنهما قاضيان لا وكيلان ، وللوكيل اسم في الشريعة ومعنى ، وللحكم اسم في الشريعة ومعنى ، فإذا بين الله سبحانه كلّ واحد منهما فلا ينبغي لشاذ ـ فكيف لعالم ـ أن يركب معنى أحدهما على الآخر فذلك تلبيس وافساد للأحكام ، وإنما يسيران بإذن الله تعالى ويخلصان النية لوجه الله وينظران فيما عند الزوجين بالتثبيت ، فإن رأيا للجمع وجهاً جمعا ، وإن وجداهما قد أنابا تركاهما،…) وإن وجداهما قد اختلفا ولم يمكن الجمع بينهما ، أو أن الجمع لا ينفع لوجود تجارب أخرى فرّقا بينهما وهذا مروي عن عليّ وابن عباس ومعاوية والشعبي ، وهو مذهب مالك دافع عنه القاضي ابن العربي دفاعاً مستميتاً ، وقد ذكر عدة أدلة على ذلك[13].

 وقال إذا فرّقا فتكون الفرقة طلقة بائنة ، وأن هذه الفرقة لوقوع الخلل في مقصود النكاح من الألفة وحسن العشرة ( فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان )[14] وقد ردّ على من قال : بأن الظلم من أحد الزوجين لا ينافي النكاح ، بأن هذا نظر قاصر يتصور في عقود الأموال ، فأما عقود الأبدان فلا تتمّ إلاّ بالاتفاق والتآلف وحسن التعاشر ، فإذا فقد ذلك لم يكن لبقاء العقد وجه ، وكانت المصلحة في الفرقة ، ثم أوضح بأن حكم الحكمين كما أنه ملزم في الجمع ، أو الفرقة ، ملزم كذلك فيما يخص بقية الحقوق المالية من المنازلة أو أخذ شيء من أحدهما[15] ثم بيّن بأن القاضي لا يقضي بعلمه ، ولكن الشرع خصّ هاتين الواقعتين ( الشقاق وجزاء الصيد ) بحكمين لينفذ حكمهما بعلمهما وترتفع بالتعدد التهمة عنهما[16].

ومع وجود هذا التحكيم الإجباري في حالة الشقاق فإنه لا مانع شرعاً من التحكيم الاختياري من الزوجين أو من أهلهما ، أو من أوليائهما سواء اختارا حكمين ، أو حكماً واحداً ، أو أكثر من اثنين لأن التحكيم جائز وينفذ حكم المحكم إذا توافرت شروط التحكيم[17] .

 


 

([1]) سورة النساء / الآية 19

([2]) مقاصد الشريعة للشيخ محمد الطاهر بن عاشور ، تحقيق ومراجعة الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجه ط. قطر (3/421)  

([3]) سورة الروم / الآية 21  

([4]) سورة النساء / الآية 1

([5]) سورة الطلاق / الآية 1

([6]) في ظلال القرآن (1/575)

([7]) في ظلال القرآن (1/575)

([8]) سورة النساء / الآية 19

([9])  الأم ( 5/177 ) ، ونهاية المحتاج ( 6/385 ) ، وأحكام القرآن ( 1/427 )

([10]) سورة النساء / الآية ( 35 )

([11])أحكام القرآن ( 1/427 )

([12])المصدر السابق نفسه ، وتفسير ابن عطية ( 4/48 ) ، والتفسير الكبير للرازي ط . دار احياء التراث العربي ببيروت (10/92 ) ، وتفسير ابن عباس ، ومروياته في الكتب الستة ، للدكتور عبدالعزيز بن عبدالله الحميدي ط . جامعة أم القرى (1/237 )

([13])أحكام القرآن ( 1/421 ـ 424 )

([14]) سورة البقرة / الآية ( 229 )

([15])أحكام القرآن ( 1/425 )

([16]) المصدر السابق ( 1/425 ) ، وتفسير الكبير للرازي ( 10/93 )

([17]) أحكام القرآن لابن العربي ( 1/427 )