الضرر المعنوي غير المصحوب بضرر مادي :


  يكمن الضرر المعنوي الذي لم يصاحبه ضرر مادي في الاعتداء على العاطفة والشعور والوجدان ، وفي الآلام الجسمانية وفي الاعتداء على حق الملكية الأدبية ، أو الفنية ، وفي الاعتداء على الشهرة .


 وفي هذه الحالة جرى مجلس الدولة الفرنسي على رفض التعويض عن هذه الأضرار ، وظل صامداً على هذا الموقف إلى عام 1961 ، وكان قبل ذلك يكرر العبارة الشهيرة في أحكامه (الألم لا يقوّم بمال)  وأن الأضرار المعنوية لا يمكن اثباتها ، ولا تحديدها .


 ولكن حدث تحول في القضاء الإداري الفرنسي المتمثل في مجلس الدولة منذ حكمه الصادر في 24 نوفمبر 1961م القاضي : (بأن الألم الذي تحمله نتيجة لفقد ابنه في وقت مبكر قد سبب له ضرراً معنوياً يقدر بألف فرنك فرنسي جديد)  .


 وحدث خلاف كبير بين الفقهاء الفرنسيين حول هذا القرار ، ولكن المانعين من الضرر الأدبي لم يستطيعوا منع القضاء من إصدار أحكام أخرى مماثلة ، وأما القضاء الإداري المصري فقد  التزم بالتعويض عن الضرر المعنوي بناءً على منطوق المادة222/1م.م  .


 


موقف الفقه الإسلامي من التعويض عن الضرر المعنوي :


تحرير المسألة :


 إنه بالنظر في كتب الفقه يتبين لنا أنه لم يشتهر هذا المصطلح (التعويض عن الضرر المعنوي أو الأدبي) بين فقهائنا القدامى ، ولكن من المعروف استقراء انه لا يترتب على عدم اشتهار المصطلح عدم وجود مدلوله وتطبيقاته ، كذلك لا أحد يستطيع إنكار أن مصطلح (الضرر) قد ورد في النصوص الشرعية عامة في الحديث الثابت (لا ضرر ولا ضرار)  ومطلقة في كثر من النصوص  الشرعية ، فهو حينئذٍ يشمل كل ضرر ، وكل ما يسمى بالضرر في أي عصر ، فإذا كان الضرر المعنوي ضرراً فعلاً ، وهو كذلك فإنه داخل في مدلوله على سبيل الحقيقة وليس المجاز .


 كذلك من المعلوم بالضرورة أن الشريعة الإسلامية فرضت تعويضات كالدية والأرش ونحوهما ، وعقوبات غير مالية على الاعتداء على الشرف والكرامة مثل الجلد ثمانين جلدة للقذف ، والعزيز على أي اعتداء محرم على العرض والشرف ، وغيرهما بالسب والإهانة ونحوهما ، في غير القذف بالزنا ، وعلل الفقهاء ذلك هذا التعزيز (لأنه آذاه بإلحاق الشين به)  .


 وإنما الحديث والخلاف حول التعويض المالي عن الأضرار المعنوية الناتجة عن المسؤولية المدنية بشقيها : المسؤولية العقدية والمسؤولية التقصيرية ، فهل يعترف به الفقه الإسلامي أم لا ؟ .


  فذهب جماعة من المعاصرين إلى أن الفقه الإسلامي لا يعترف بذلك ، فلا تعويض فيه إلاّ عن الأضرار الواقعة الماثلة التي يمكن تقويمها بالمال ، إضافة إلى أن الأضرار المعنوية كجرح الشعور وثلم الشرف لا يمكن تعويضها بالمال ولا رفعها وإزالتها به ، وتنجبر به ، ولذلك فإن علاجها في الفقه الإسلامي يكون بالعقوبات ، لا بالضمان المالي .


  ويرى فريق آخر أن الفقه الإسلامي قد عرف التعويض عن الضرر المعنوي (الأدبي) وأقر به ، وإن لم يسمه بهذا الاسم ، يقول أستاذنا فتحي الدريني : (إن قواعد الشرع لا تأبى تقدير التعويض عن الضرر الأدبي ، أو المعنوي ، لكن تمشياً مع روح الشريعة التي حرمت الإضرار والإيذاء بشتى صوره ، وشرعت الحدّ لجريمة القذف ، وهو ضرر معنوي أدبي ، وبذلك فلا مانع أن يعوض عن الأضرار بقدر الإمكان ، وبالقياس للمضار المعنوية في التقويم على المنافع المعنوية)  .


 


الأدلة مع المناقشة والترجيح :


استدل الفريق الأول بما يأتي :


أ ـ الكتاب حيث استدلوا بقوله تعالى : (يا أيها الذين امنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالبطل إلاّ أن تكون تجارة عن تراض منكم)  .


 وجه الاستدلال بهذه الآية أن الله تعالى جعل التجارة في المال فقط ، والضرر المعنوي ليس بمال وحينئذٍ لا يجوز التعويض عنه .


 ويمكن أن يناقش هذا الدليل بأن هذه الآية في باب التجارة وليست في باب التعويضات ، ثم إن المراد بالباطل هو المحرم شرعاً ، وحينئذٍ لا تشمل الآية موضوع التعويض عن الضرر .


ب ـ استدلوا أيضاً بأن الضرر المعنوي ليس مالاً في حين أن الضمان في الفقه الإسلامي عبارة عن إحلال مال مكان مال متلف .


 ويناقش ذلك بأنه لا يسلم ذلك ، لأن الديات والأروش تعويضات مع أنها ناتجة عن الإضرار الواقع على النفس والبدن .


  واستدلوا كذلك بأن تقدير الضرر المعنوي غير ممكن لأنه غير منضبط ، يقول الشيخ الزرقا : (إن قبول مبدأ التعويض المالي عن الأضرار الأدبية محذور واضح هو أن مقدار التعويض اعتباطي محض لا ينضبط بضابط بينما يظهر في أحكام الشريعة والحرص على التكافؤ الموضوعي بين الضرر والتعويض ، وهذا متعذر هنا ، وكثيراً ما نسمع فندهش في أخبار الدعاوى والأقضية الأجنبية أرقاماً بالملايين لقاء مزاعم أضرار أدبية فهي منتهى التفاهة)  .


ويمكن الإجابة عن ذلك بما يأتي :


أولاً : أن هناك أشباهاً ونظائر في الفقه مثل هذه الموضوعات التي ليس لها تحديد موضوعي مثل إحداث الجروح التي ليس فيها قصاص ، ولا دية محددة ، فعالجها الفقهاء من خلال حكومة العدل أي تقدير القاضي واجتهاده ـ كما سبق ـ كما أنهم يكتفون في مسائل كثيرة بالتقدير والتخمين ، والتنضيض الحكمي ونحو ذلك .


ثانياً : أن ما يحدث في الغرب هو خطأ في التطبيق وليس أصل الفكرة ، ولذلك يمكن وضع ضوابط لتساعد على نوع من الضبط والتقدير العادل .


ثالثاً : لو سلمنا عدم إمكان الضبط التام فهذا لا ينبغي أن يكون دافعاً لرفض التعويض مطلقاً ، بل ينبغي البحث عن درء الضرر بقدر الإمكان ومن المعلوم أن درء الضرر الممكن مطلوب ما دام درء كل الضرر غير ممكن بقول ابن تيمية : (إذا لم يكن دفع جميع الظلم يدفع الممكن منه)  إضافة إلى ذلك التقدير يمكن أن يرجع به إلى أهل الذكر والخبرة للتقدير الممكن ، والتخمين المحقق للعدالة دون وكس ولا شطط كما هو منهج الإسلام في التعويض .


 واستدلوا كذلك بأن جرح المشاعر ، وثلم الشرف ونحوها لا تعوض بالمال ، لأنه لا يجبر ذلك ، فالمال أقل من أن يعوض به مثل هذه الأشياء ، كما أنه لا يردع به  .


 والجواب عن ذلك أن ذلك غير مسلم ، فالمال يساعد على هذه الانجبار كما في الدية حيث إنها جبر أصاب أهل القتيل ، أو المضرور ـ كما سبق ـ .


 ومن جانب آخر لا نسلم أن المال حقير لا يصلح لأداء هذا الدور ، كيف لا ، وهو يؤدي دوراً أكبر في دية النفس والأعضاء ، فلو لم يكن له هذا الدور ولم كين رادعاً لما جعله الله تعالى دية لقتل إنسان مسلم ، ثم إن المال قوام الحياة وقيامها بنص القرآن الكريم ، وقد قدمه القرآن على النفس في معظم الآيات التي تتحدث عن الجهاد .


 


ويمكن أن نحصر معظم أدلة القائلين بالتعويض عن الضرر المعنوي بما يأتي :


أولاً : من الكتاب :


 جميع الآيات الواردة في تحريم الاعتداء على النفس والمال والعرض ، والنهي عن الفساد في الأرض وعن الإضرار بالحرث والنسل والكون والبيئة ، كل هذه الآيات التي لا تعد هنا لكثرتها تثبت أن كل ما هو ضرر وخبيث فهو محرم يوجب سخط الله في الآخرة وقد بين الله لبعضها العقوبات المقدرة من القصاص والحدود ، وترك الحديث عن العقوبات الدنيوية لمعظمها ، ومن المعلوم أن كل ما هو معصية وموجبة للعقاب في الآخرة يجب أن تتخذ بشأنه التدابير الزاجرة في الدنيا وإزالة ما يجره من آثار وأضرار  بل إن الآيات القرآنية منعت الإضرار بين الوالد والولد فقال تعالى : (لا تضار والدة بولدها ولا مولود بولده وعلى الوارث مثل ذلك)  يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : (المضارة مبناها على القصد والإرادة ، أو على فعل الضرر عليه ، فمتى قصد الإضرار ولو بالمباح ، أو فعل الإضرار من غير اشتقاق فهو مضار)  .  


ثانياً : من السنة :


 منها النصوص النبوية الواردة في حرمة الاعتداء على الأموال والأعراض والأنفس مثل قوله : (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بدلكم هذا)  وقوله : (كل المسلم على المسلم حرام : دمه وماله وعرضه)  .


 واستدلوا بأحاديث خاصة في هذا المجال منها قوله الجامع (لا ضرر ولا ضرار)  أي لا يجوز الإضرار بالغير ، ولا مقابلة الضرر في مال الغير ، يقول الشيخ احمد الزرقا : (وهذا الحديث يرسي قاعدة هي من أركان الشريعة ، وهي أساس لمنع الفعل الضار ، وترتيب نتائجه في التعويض المالي والعقوبة ، كما أنها سند لمبدأ الاستصلاح في جلب المنافع ودرء المفاسد) ولا يدخل في الحديث القصاص والإتلاف المشروع على تفصيل فيه  ولفظ (ضرر) نكرة ورد في سياق النفي للجنس فهو عام يشمل كل ما يطلق عليه اسم الضرر وهو الإيذاء والنقص ، ويشمل كذلك الضرر الخاص والعام.


 وورود الحديث بعد نفي الجنس بـ (لا) يدل قطعاً على نفي الضرر عاماً ومطلقاً ، وعلى رفعه قبل الوقوع بطرق الوقاية ، ورفعه بعد الوقوع بإزالة آثاره ، كما أن نصه ينفي الضرار فلا تجوز مقابلة الضرر بالضرر في الحقوق المالية ، لأن ذلك توسيعاً لدائرة الضرر الواقع وليس فيه ترميم ولا رفع ، فمن أتلف مال شخص آخر لا يجوز أن يرد بالمثل وإنما يجب الحكم له عليه بالتعويض الذي يجبر ضرره ، وينقل الخسارة إليه ومن هذه الأحاديث الخاصة بحرمة الأضرار مطلقاً قوله : (من ضار أضر الله به)  وهو يدل بوضوح على حرمة الضرر وبالتالي فعليه عقوبة ، إذن وضع التدابير المناسبة لرفع الضرر ومنعه ، ولذلك شرعت التعزيرات على المعاصي ، ووجوب التعويضات عن المتلفات في غير الحدود والقصاص.


 ويمكن الاستدلال أيضاً بما رواه أبو داود ، والبيهقي بسندهما : (أن سمرة بن جندب كانت له عضد من نخل في حائط رجل من الأنصار ومع الرجل أهله ، فكان سمرة يدخل إلى نخله فيتأذى به الرجل ، ويشق عليه ، فطلب منه أن يبيعه نخلته ، فأبى ، فأتى الرجل النبي   وذكر ذلك له ، فطلب إليه النبي أن يبيعه فأبى ، فطلب أن يناقله فأبى ، قال : (هبه ، ولك كذا وكذا….. فقال له النبي : (أنت مضار) وقال للرجل : (اذهب فأخلع نخله)  .


 وهناك نصوص كثيرة من السنة وأقوال الصحابة حول منع الضرر ووجوب الضمان وكيفيته لا يسع البحث لذكرها  .


 وهذه الأدلة بمجموعها تدل على منع الضرر ووجوب تضمينه سواء كان الضرر مادياً أم معنوياً ، فليس هناك دليل على تخصيص الضرر بالمادي ، بل هو يعم كل أنواعه ، فإذا كان التعويض عن الضرر المادي جائزاً بلا خلاف ، فإن المفروض أن ينسحب هذا الحكم على الضرر الأدبي .


 ولكن لا بدّ أن لا يبقى التقدير لتعويض الضرر المعنوي عائماً كما هو الحال في الغرب ، بل يضبط بقدر الإمكان ببعض الضوابط ، وبيان الحد الأدنى والأقصى .


 


ثالثاً : ما يمكن الاستنباط من نصوص الفقهاء بشان التعويض عن الضرر المعنوي :


 إذا نظرنا إلى نصوص الفقهاء وجدناهم قد عالجوا كثيراً مثل هذه المسائل وإن لم يسموا العلاج بالتعويض عن الضرر .


1ـ فقد ذكر فقهاؤنا مسائل مهمة في باب الديات بشأن ما سموه حكومة عدل ، والأرش ، فقد نص الإمام الشافعي في الأم بوضوح على التفرقة بين ثلاث حالات ، في حالة ما إذا قطع ظفر رجل عمداً ولم يجب فيه القصاص ، وهي :


أـ حالة ما إذا نبت صحيحاً غير مشين حيث فيه حكومة ، أي تعويض حسب رأي القاضي أو من يخوله من الخبراء . 


ب ـ حالة ما (إن نبت مشيناً ففيه حكومة أكثر من الحكومة فيه إذا نبت غير ناقص ولا مشين) .


ج ـ  حالة ما (إن لم ينبت ففيه حكومة أكثر من الحكومة قبله)  .


 ونص كذلك في الأم حول الاعتداء على الجلد على أنه : (إذا برأ معيباً زيد في الحكومة بقدر عيب الجلد مع ما ناله من الألم) ثم فرق بين جلد الرأس أو الجسد في حالتي نبتي الشعر أو عدمه فقال : (ولو كان هذا في رأسه أو الجسد أو فيهما معاً ، أو في بعضهما فنبت الشعر كانت فيه حكومة إن كان خطأ لا يبلغ بها دية ، وإن لم ينبت الشعر زيد في الحكومة بقدر الشين مع الألم)  ويقول كذلك (وفيه ـ أي الشعرـ إذا لم ينبت ، أو نبت معيباً حكومة بقدر الألم ، أو الألم مع الشين)  .


 فهذا النص الدقيق من الإمام الشافعي واضح جداً في اعتبار الألم مع الشين ، وبذلك يرد قول من قال : إن الفقهاء لم يقدروا للألم أي اعتبار إذ لا يخضع للتقويم وذلك لأن الأمر ما دام اجتهادياً فإن الخبير المختص يمكن أن يقدر ذلك دون إفراط ولا تفريط.


 ونجد كذلك نصوصاً في المذاهب الأخرى ، حيث ذهب أبو يوسف رحمه الله تعالى إلى تعويض الألم وإن لم يترك الجرح الأثر ، حيث يقول الإمام الزيلعي : (وإن شج رجلاً ، فالتحم ، ولم يبق له أثر …. فلا أرش….. هذا قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف : عليه أرش الألم ، وهو حكومة عدل ، لن الشين الموجب إن زال ، فالألم الحاصل لم يزل ، وقال محمد : عليه أجرة الطبيب….)  .


 وكـلام أبي يوسـف واضـح جـداً في التعـويض عـن الألم وهـو ضـرر معـنوي .


 والمالكية يفرقون بين الشين الباقي في جرح الوجه والرأس ، والشين الحاصل في غيرهما حيث إن الأخير يندرج في أرش الجرح إن كان مقدراً ، أما الأول فإنه يزاد التعويض بقدر الشين حيث جاء في التاج والإكليل : (وإن بقي حوالي الجرح شين ، وكان أرش مقدراً اندرج الشين إلاّ موضحة الوجه والرأس ، فإنه يزاد على عقلها بقدر ما شانت بالاجتهاد)  . 


 


2ـ ومن جانب آخر فإن الفقه الإسلامي قد تطرق إلى التعويض عن الضرر المعنوي من خلال التعسف في استعمال الحق  وذلك عن طريقين :


أ ـ طريق قطع السبب وذلك فيما يأتي :


1ـ سد النوافذ ومنع تعلية الدور المطلة على الجيران عند المالكية ، جاء في المدونة  : (أن من بنى قصراً أو رفعها على جاره ، أو فتح فيها نوافذ تطل على جاره يمنع من ذلك)  وقال ابن فرحون : (إذا ثبت ضرر الاطلاع يحكم بسدها وإن كان باباً يغلق غلقاً حصيناً وتقلع عنه العتبة لئلا يكون حجة عند تقادم الزمان)  .


LinkedInPin