نص فتوى الأستاذ الدكتور علي محيي الدين القره داغي – الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين – بعدم جواز زيارة القدس الشريف لغير الفلسطينيين وهي تحت الاحتلال الإسرائيلي الصهيوني ، والذي قدمه الأمس في بحث علمي ضمن فعاليات المؤتمر الدولي الأول (الطريق إلى القدس) والذي ينعقد الآن بالعاصمة الأردنية عمان:

فتوى حول زيارة غير الفلسطينيين إلى القدس الشريف

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أفضل المرسلين وعلى آله واصحابه أجمعين وبعد،،،

تمر الأمة الإسلامية (وبخاصة الأمة العربية) بأزمات متلاحقة، وتصدعات وتمزقات زادت من آلام المسلمين، وأدت فعلاً إلى التأثير الفعال فى الانسجام والتكاتف، والتعاون فيما بينهم، فمن التمزق الشديد الذى حدث ويحدث اليوم بين السنة والشيعة، بل القتال فى بعض المناطق إلى التشتت الغريب داخل السنة، بل القتال والصراع بين فئاته..

أمام هذا الموضوع المأسوى الخطير تكون قضية الأمة الاولى القدس وفلسطين هى التى تدفع الثمن الاكبر، ويكون المستفيد الوحيد هو المشروع الصهيونى الكبير، والاحتلال الإسرائيلى لأرضنا المباركة الذى يستفيد من ضعفنا ويستغله لتحقيق مآربه بمباركة من البعض.

ومن سنن الله تعالى وسنن التاريخ والتجارب أن الأمة الضعيفة المفرقة الممزقة لن تستطيع الوصول إلى اهدافها، ولن تتمكن من تحقيق قوتها وعزتها وكرامتها ولن تتمكن من استرداد حقوقها المسلوبة الا بعد أن تتحد وتتقوى وتصبح كجسد واحد، بل يداً واحدة، ومن هنا فأي مشروع تصالحى يطرح – على فرض صحته – فإن العدو القوي هو الذى يستفيد منه.

وفى ظل هذه الأوضاع السيئة لأمتنا بصورة عامة، ولإخواننا الفلسطينيين فى الداخل (فى القدس الشريف والضفة، وغزة، وداخل الارض المحتلة عام 1948 بصورة خاصة)، حيث الحصار الشديد، والفقر، والبطالة، والقتل والأسر المستمران، وبناء الآلاف من المستوطنات، ومحاولة تدمير الأقصى من خلال مجموعة من الاجراءات الاسرائيلية بحجج واهية، الخ.

ظهرت فكرة زيارة بيت المقدس، والمطالبة بها وتنفيذها من قبل بعض الدعاة والمنتسبين للفتوى أو العلم.

لذلك كان لزاما على العلماء جميعاً أن يبينوا حكم هذه الزيارة فى ظل النصوص الشرعية المرتبطة بمقاصدها، وفقه المآلات، وتحقيق المناط، وسد الذرائع أو فتحها.

ونحن هنا نحاول فى هذه الفتوى التى وردت إلينا أسئلة كثيرة من مختلف التوجهات أن نذكر الجواب الشافى بأدلته المعتبرة، ومناقشة الأدلة، والرد على الشبهات المثارة، بقلب رحب واسع، ومنهج مقاصدي لا يهمل أى نص لو وجد، فقه عميق للمآلات بإذن الله تعإلى وتوفيقه، وقبل أن ابدأ بالاجابة أود أن أحرر النزاع، وأضع امام الفتوى مجموعة من الضوابط والمبادئ العامة :

1- إن حديثنا هنا هو فى زيارة غير الفلسطينيين إلى القدس الشريف وهو فى ظل الاحتلال الغاشم الذى يسعى بكل جهوده لابتلاعه، ولا يعترف به أساساً، ولا يريد ارجاعه إلى الفلسطينيين مادام قادراً على ذلك.

2- إن الحديث الصحيح الذى رواه البخارى ومسلم وغيرهما من اصحاب السنن عن ابى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم ( لا تشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد، مسجدى هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى) لا يدل على الوجوب شدّ الرحال إلى مسجد الأقصى بالاجماع، وإنما يدل على الاستحباب والندب.

ثم أن هذا الحكم كأي حكم من الاحكام له شروطه وضوابطه، وأنه مرتبط  بتحقيق المناط، وفقه التنزيل، وبالتالى فلا يكون حجة مطلقة، ولا دليلاً عاماً لجميع الاحوال والظروف، حيث إن الدليل حتى لو كان صحيحاً وصريحاً فعند تنزيله على واقعة معينة يحتاج إلى تحقيق المناط، ولا سيما أن المسجد الأقصى حدثت فيه أمور جديدة وهى الاحتلال، والتطبيع، وما يترتب على الزيارة من مفاسد أو مصالح، ثم الموازنة بينهما.

3- إن جميع المسلمين متشوقون لزيارة المسجد الأقصى، وكل واحد منهم يتمنى أن يتشرف بزيارته حتى ولو كان رأيه عدم الزيارة فى ظل الاحتلال.

لذلك فالقضية تحتاج إلى مزيد من التأصيل والتحليل، حتى تنكشف المصالح من المفاسد.

4- إن ربط الفتوى بالسياسات القائمة للدول أو الجماعات يخرجها عن دائرتها المتوازنة الصحيحة بل عن جادة الصواب، وأنه لا يليق بالعلماء الربانيين (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون احداً إلى الا الله وكفى بالله حسيبا).

وذلك بأن يُفتى فى ظل حاكم يريد الحرب بالمنع، وفى ظل حاكم يريد السلم بالجواز، مع أن القدس محتل لم يتغير منه شئ، بل ازدادت أوضاعه وأحواله سوءاً كما نشاهد.

فيجب أن تكون الفتوى مجردة خالصة لله تعالى معتمدة على الأدلة المعتبرة، ومقاصد الشريعة الغراء.

5- لا يليق، ولا ينبغى التحمس الزائد للزيارة الذى رأيناه من بعض المفتيين حيث يقول: “فهل نترك القدس لقمة سائغة للمحتلين الغاصبين، أم نفعل ما أمرنا به صلى الله عليه وسلم، لذا فإننى أناشد مجدداً سائر من يتمكن من أبناء هذه الأمة أن يستجيبوا لأمر حبيبهم محمد صلى الله عليه وسلم فيشدوا رحالهم إلى المسجد الأقصى المبارك”..

أ‌-    فهذا التحمس غير المبرر وبهذه الصبغة يفهم منه أن القدس إذا لم يقم المسلمون بالزيارة فإن القدس يصبح لقمة سائغة للغاصبين، وهذا فهم سقيم، فالزيارة لن توقف طموحات المحتلين، بل لن تؤثر فى استراتجيتهم الدينية والسياسية لضم المدينة كلها وابتلاعها إذا لم تكن هناك قوة رادعة، إن من الواضح للعيان أن اليهود سيستفيدون من هذه الزيارات للتطبيع، وتحييد المسلمين ( كما سيأتى تفصيله)

ب‌-     إن هذا التحمس يظهر منه أن من لم يقم بزيارة المسجد الأقصى فى ظل الاحتلال فقد خالف أمر النبى (صلى الله عليه وسلم)، وفى هذا جانبه الصواب حقاً.

6- إن قضية القدس ليست قضية جزئية حتى يفتي فيها بعض الأفراد بل هي قضية كلية، بل هى أم القضايا لأمتنا الإسلامية والعربية، فلا يجوز أن ينفرد بالفتوى بالجواز أو عدمه شخص أو اشخاص، وإنما يحتاج هذا الامر إلى فتاوى جامعة تمثل علماء الأمة الإسلامية فيقررون فيها بالاجماع، أو الغالبية، وبالتالى فلا يجوز لصاحبنا المتحمسين، ان يدعو الأمة افراداً او جماعات وحكاماً ومحكومين إلى زيارة المسجد الأقصى وقد اجتمعت غالبية الأمة الإسلامية، والعربية فى بغداد وغيرها على أن زيارة الرئيس السادات للقدس كانت خطأ وخطيئة مع أن الاوضاع للقدس عند زيارته كانت أحسن بألف مرة من اليوم، فكيف تحول الحظر إلى المنع، والخيانة إلى الامانة، والمفسدة إلى المصلحة؟؟

7- إن الفتوى بحرمة زيارة غير الفلسطينيين للأقصى قد صدرت قبل فتوى فضيلة الشيخ يوسف القرضاوى، حيث صدرت من عدد كبير من علماء الأمة منهم شيخ الازهر السابق الدكتور عبد الحليم محمود رحمه الله حيث رفض أن يكون مع الرئيس السادات فى زيارته للقدس.

ومنهم فضيلة الشيخ جاد الحق علي جاد الحق شيخ الازهر ومفتى مصر السابق حيث قالا أن من يذهب إلى القدس من المسلمين آثم آثم.. والاولى بالمسلمين أن ينأوا عن التوجه إلى القدس حتى تتطهر من دنس المغتصبين اليهود، وتعود إلى اهلها مطمئنة يرتفع فيها ذكر الله والنداء إلى الصلوات وعلى كل مسلم أن يعمل بكل جهده من اجل تحرير القدس ومسجدها الأسير.

ومنهم الشيخ محمد سيد طنطاوى شيخ الازهر السابق حيث قال (إن تلك الزيارة لن تتم فى ظل الاحتلال الاسرائيلى، وإن ذلك ينطبق على كل علماء المؤسسة الأزهرية الذين يتبنون الموقف نفسه) وقال ايضاً أرفض زيارة القدس وهى مكبلة بسلاسل قوات الاحتلال الاسرائيلية، لان زيارة أى مسلم لها فى الوقت الراهن يُعد إعترافاً بمشروعية الاحتلال الاسرائيلى، وتكريساً لسلطته الغاشمة.

 وكذلك الدكتور احمد الطيب شيخ الازهر الحإلى الذى قال ( أن زيارة القدس لا تحقق مصلحة مصلحة للمسلمين، لانها فى ظل احتلال اسرائيلى وبإذن من سلطات الاحتلال، واكثر من ذلك قرار الازهر الشريف، ومجمع البحوث الإسلامية التابع له الذى عقد جلسة طارئة بمشيخة الازهر يوم الخميس 19/4/2012 برئاسة الامام الاكبر الدكتور احمد الطيب، شيخ الازهر وناقش اعضاء المجمع على مدى ثلاث ساعات متواصلة زيارة المفتى – على جمعة – للمسجد الأقصى، وأعلن المجمع أن الازهر الشريف يؤكد موقفه الرافض لزيارة القدس والمسجد الأقصى وهما تحت الاحتلال الاسرائيلى، وفى ختام جلسته جدد الازهر الشريف قراره الرافض لزيارة القدس والمسجد الأقصى، وأكد أن الازهر الشريف استمر على دعمه لقراره السابق بعدم جواز السفر إلى القدس والمسجد الأقصى وهما تحت الاحتلال الاسرائيلى وذلك لما يترتب عليه من ضرورة الحصول على تأشيرات من المحتل الاسرائيلى ويعد نوعاً من التطبيع.

 وكذلك الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين ، وهيئة علماء فلسطين فى الداخل والخارج، وجميع روابط علماء المسلمين حسب علمي.

وكذلك فإن جماهير علماء الأمة متفقون على عدم جواز زيارة القدس فى ظل الاحتلال الاسرائيلى، ومنهم الدكتور نصر فريد واصل مفتى مصر السابق حيث قال ( لن أزور القدس والمسجد الأقصى الا بعد تحريرهما من وطأة الاحتلال الاسرائيلى، لأن زيارتى لها الان أو أى مسلم على مستوى العالم تُعد تكريساً للاحتلال، واعترافاً بمشروعيته.. لكن بإذن الله تعإلى سأزورها ونزورها جميعاً وهى حرة مسلمة.. وهذه المدينة المقدسة  أمانة فى عنق المسلمين، ولابد أن يبذل الجميع كل الجهد لتحريرها واستردادها بأية طريقة من الطرق.

 والشيخ فوزى الزفزاف وكيل الازهر الاسبق وعضو مجمع البحوث الإسلامية الذى أيد تحريم الزيارة للقدس، ولكن بشرط ان نبذل كل ما نملك لتحرير المسجد الأقصى.. وإن زيارة المسلمين من غير الفلسطينيين للاقصى يعطى شرعية لاسرائيل لاحتلال القدس والمسجد الأقصى.

والدكتور عبد المعطى بيومى عضو مجمع البحوث الإسلامية بالازهر الذى قال( إن الذهاب إلى القدس الان يعطى انطباعً بإن الامور عادية، ثم انه يلزم الداخل إلى القدس الحصول على تأشيرة وهو اعتراف بشرعية إسرائيل وأن التواصل يكون بالنصرة والصلة الدائمة عبر المساعدات الفعالة التى تعطى قوة لاخواننا الفلسطينيين

 وكذلك فضيلة الشيخ المحدث ناصر الدين الالبانى وعلماء السعودية الكبار، وجماهير علماء الاردن وفلسطين والشام قديماً وحديثاً.

بل إن هناك بعض رجال الدين من النصارى قالو بمنع أتباعهم من زيارة القدس ومنهم المطران عطا الله حنا رئيس اساقفة سبسطية للروم الارثوذكس الذى قال (إننى أرفض زيارة القدس فى ظل الاحتلال فهذا موقف مبدئ أتمسك به وسأبقى ولكننى لا أشك بمصداقية أو وطنية من يخالفوننى الرأى).

الذى يحرر القدس هو ليس زيارتها فى ظل الاحتلال وإنما أن يتخذ العرب قراراً استراتيجياً بتحريرها واستعادتها وهذا القرار لم يؤخذ بعد استثناء بعض المواقف والمؤتمرات التى تعقد هنا وهناك، وقبله البابا شنوده الثالث بطريرك الكرازة المرقسية وبابا الاسكندرية الذى رفض ذهاب الاقباط للقدس، وقال الشعب يعتبر أن زيارة القدس نوع من التطبيع مع اسرائيل ونحن لا نرغب أن نطبع مع الاسرائليين إلا إذا تم إنهاء احتلال الأراضى الفلسطينية، وإننى لن اذهب إلى القدس الا وهى محررة ولن أعطى جواز سفرى للسفارة الاسرائيلية كى أحصل على تأشيرة الدخول . 

ثم بعد ذلك نقول: إن الأدلة على حظر زيارة القدس الشريف لغير الفلسطينيين   في ظل الاحتلال كثيرة جداً نذكرها، ثم نتبعها برد الشبهات، ثم نثلثها بواجب المسلمين نحو القدس أو الطريق الحقيقي إلى القدس:

أولاً: الأدلة الشرعية على حظر زيارة القدس في ظل الاحتلال كثيرة منها ما يلي:

1- أن الأدلة الشرعية كثيرة وإجماع المسلمين قديماً وحديثاً قائم على أنه إذا احتلت أرض إسلامية فيجب على أهلها جهاد النفر والدفع حتى تتحرر من المحتلين، فإذا لم يكن ذلك في قدرتهم فيجب على من يليهم حتى يشمل جميع المسلمين القادرين على الدفع والتحرير .

وبناءً على ذلك فإن الواجب على المسلمين ليس شد الرحال لأجل الزيارة وإنما الواجب شد الرحال والنفر خفافاً وثقالاً لأجل التحرير، فهذا الحكم ثابت عندما تكون أرض إسلامية ليس لها تميز تحتل، فما ظنك باحتلال أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين من قبل الصهاينة الذين عاثوا فيها فساداً، وهم يريدون ابتلاعها بالكامل، وهدم قبة الصخرة، والأقصى والمسجد كله ليقوموا ببناء الهيكل المزعوم في مكانه؟!!!

فهل نغير هذا الواجب الذي علينا جميعاً ونحوله إلى زيارة في ظل دولة الصهاينة، وحينئذ نبرر لأنفسنا ونقول: لقد قمنا بالواجب ونصرنا إخواننا المقدسيين؟

والأدلة القرآنية على هذا النفر أكثر من أن يحصى منها قوله تعالى }انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ{ (التوبة -41)، وقوله تعالى  }وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا{ (النساء -75)، وقوله تعالى }أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ{ ( سورة التوبة- 13)، وقوله تعالى   }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ، إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{ (سورة التوبة -38،39) وقوله تعالى } يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( 10 ) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ{ (سورة الصف – 10،11).

وفي نظري أن الاستغناء بالزيارة عن هذه الفريضة هو من باب تخدير الأمة بحقن مؤثرة لتشل حركتها عن النهوض والحركة والجهاد، إذ بهذه الفتوى لا يحس المسلم بأي مسؤولية أو ذنب، ولا تأنيب للضمير بل يقول: إنني قد أديت ما طلب مني سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم من شد الرحال إلى المساجد الثلاثة والحمد لله تعإلى على هذه النعمة.

2- إن زيارة المسجد الأقصى بتأشيرة يهودية تترتب عليها مفاسد كثيرة ومضار عظيمة للقضية، وللأمة أجمع، ولا تترتب عليها مصالح حقيقية، وإنما هي مصالح موهومة لا قيمة لها.

ومن هذه الآثار السلبية والمفاسد والمضار ما يأتي:

أ- إن الفتوى بجواز الزيارة تعني استجابة المسلمين في كل مكان، وبالتالي تمتلئ قنصليات الصهاينة بطلب الفيز، وهذا بلا شك اعتراف شعبي بمشروعية الاحتلال بلا شك، بل إن ذلك يستدعي أن تفتح قنصليات في البلاد الإسلامية التي ليست لها علاقات مع العدو الصهيوني.

فهذا مدخل ممتاز جداً للصهاينة بأن يتم الاعتراف بهم وفتح القنصليات لهم دون أي ثمن.

وهذا بلا شك في المستقبل القريب أو البعيد  يؤدي إلى الاعتراف بشرعية الاحتلال ولو ضمناً، وهذا ما يتمناه الصهاينة ويسعون له بكل جهودهم وحينئذ فإن ما لم تستطع وسائل إعلامهم العملاقة أن تحققه فقد حققه لهم من يفتي بهذه الفتوى، مع أن جميع المسلمين (بل والإنسانية جميعا) متفقون على عدم شرعية الاحتلال.

ب-  إن الفتوى بجواز هذه الزيارات لتؤدي إلى كسر الحاجز النفسي والديني، فمثلاً ظل الشعب المصري، والشعب الاردني بعيدين عن التطبيع بسبب العقيدة والإيمان بعدم جواز ذلك، وبمثل هذه الفتاوى تقضى على هذه الروح الوثابة الحساسة بالمسؤولية.

ت – إن المحتلين الصهاينة سوف يعدون لمثل هذه الزيارات برامج جيدة تؤثر في الزائرين، وتسهل لهم كل ما يريدون ليعطوا صورة طيبة عنهم مع أنهم يقتلون إخواننا في فلسطين، ويخرجونهم من ديارهم فهذه ايضا مفسدة محققة.

جـ- إن مثل هذه الزيارات من المسلمين – لو تحققت – ستكون لها آثار نفسية، بالغة السوء على إخواننا المرابطين والمقاومين والمدافعين في داخل فلسطين، حيث يشعرون أنهم تركوا في الميدان، وأن الأمة قد قامت بالتطبيع مع عدوهم.

د – إن السفارات والقناصل الخاصة بالعدو الصهيوني سوف تعد العدة لاختراق المسلمين، وتجنيد ضعاف النفوس وجعلهم جواسيس يزورون القدس لأجل توصيل الأخبار ونحن نظن أنهم شدّوا الرحال إليها، وبذلك قد فتحنا على أنفسنا باب شر مستطير.

هـ- ومن جانب آخر فإننا نشاهد يومياً أن المحتلين الصهاينة يمنعون معظم الأيام والأوقات الفلسطينيين من دخول المسجد الأقصى، فهل إذا سمحوا للمسلمين بالزيارة أنهم يريدون بها خدمة الأقصى؟!! فلو لم يكن وراء ذلك مصالح لهم فلا يمكن أن يسمحوا لأحد بالدخول.

كما أنه في هذه الحالة كم يتأثر إخواننا الفلسطينيون الذين يمنعون من الدخول ليلاً ونهاراً برؤية أو سماع أن المسلمين جاؤوا ودخلوا المسجد الأقصى في ظل تأشيرة اليهود، وحمايتهم؟! فكيف يطيب للزائرين ذلك؟!!

و- إن المحتلين الصهاينة سيسمحون بزيارة المسلمين ويعدون برامج مشوقة، ثم ينطلق اعلامهم المسيطر على العالم ليثبت للعالم: أن دخول القدس متاح للجميع، بل هي بلد الجميع، وأنهم أي اليهود يقومون بالإشراف فقط، هكذا يدّعون لإغفال العالم، ولنسيان القضية على مستوى العالم أيضا.

ي- إن مآلات إجازة الزيارات للأقصى هي التطبيع لا محالة، بل هي التطبيع الشعبي الذي هو أخطر بكثير من التطبيع السياسي.

ويقصد بالتطبيع إعادة العلاقات الطبيعية بين دولتين متحاربتين، أو مختلفتين من خلال مواقف ايجابية أو مصالحة شاملة تؤدي إلى إزالة العوائق بينهما، وإقامة علاقات دبلوماسية واقتصادية وثقافية، وغيرها.

فهذا التطبيع قد يكون سياسياً فقط كما هو الحال بين مصر، وإسرائيل، وبين الأردن وإسرائيل، وقد يكون شعبياً فقط مثل الشعوب العربية حيث تكون دولة عربية تقاطع دولة أخرى، لكن التطبيع الشعبي باق، كما حدث بعد اتفاقية كامب ديفيد بين معظم الدول العربية التي قاطعت مصر، بينما شعوبها لم تقاطع مصر، وقد يكون التطبيع سياسياً واقتصادياً وشعبياً كما هو الحال بين معظم الدول التي ليس بينها عداء وحروب، وبالتالي تقام العلاقات الدبوماسية والاقتصادية والثقافية ونحوها.

وبالنسبة لعلاقة إسرائيل بالفلسطينيين والعرب فإنها علاقة المحتلين لأرض فلسطينية عربية وإسلامية حتى حسب القرارات الدولية والأممية، وبالتالي فالشرع والعقل والطبع يقتضي أن تبقى العلاقة غير طبيعية إلى أن يزول السبب وهو الاحتلال، فالقدس أرض فلسطينية عربية إسلامية محتلة بإجماع الدول والأمم المتحدة منذ حزيران 1967م.

إذن فكيف تطبِّع مع المحتل في أرض تعد من أقدس الأراضي الإسلامية، بل هي وقف الأمة، أوقفها عمر على أهلها. وأنها أمانة في ايدينا فلا يجوز لنا التفريط فيها، وعلى أي أساس نقوم بالتطبيع؟ هل عادت القدس إلينا؟ هل خرجت الدولة المحتلة منها؟ بل هي الآن حاصرتها بالمستوطنات وطردت معظم أهلها، وتحاول هدم المسجد لتبني في مكانها هيكل سليمان، لذلك فالتطبيع لا يتم إلا من أجل المحتلين.

ومن المعلوم أن التطبيع لا يتأتى من خطوات تلقائية بل من خلال طرق وخطوات وسياسات بعيدة المدى مقصودة ومنظمة لتهيئة النفوس وترويضها على العلاقات الطبيعية، تحت لافتات مؤثرة، مثل عملية السلام، أو دعم صمود المقدسيين والوقوف معهم، أو وجوب شد الرحال إلى الأقصى، حيث يستعمل الدين والمشاعر الدينية، والعواطف الإنسانية، للوصول إلى التطبيع.

والمشكلة الكبرى أن محاولات التطبيع والقبول بالآخر تأتي من بعض الأطراف الفلسطينية، والعربية، وليست من قبل إسرائيل، وهي تسير وفق خططها الاستراتيجية لابتلاع القدس والضفة، وأن برامجها العملية في إقامة المستوطنات، وطرد الفلسطينيين، وأخذ أراضيهم، وبيوتهم، تسير بسرعة حتى أكثر مما كانت يتوقعه المخططون، تقول حركة السلام الإسرائيلية في أحد تقاريرها: “إن المستوطنات الإسرائيلية في الضفة والقدس زادت بنسبة 70% حتى منتصف العام 2013م مقارنة بالعام 2012م فقط”، كما أن الاستراتيجية الإسرائيلية هي الاعتراف بإسرائيل كدولة ثم الاعتراف بها كدولة يهودية.

وإنني في غاية الاستغراب من تشجيع بعض قادة السلطة الفلسطينية لزيارة المسلمين القدس، حيث يضيعون بذلك أغلى ورقة مؤثرة بأيديهم.

جوهر القضية

كانت التحليلات الفلسطينية والعربية والإسلامية (وحتى الإنسانية المنصفة) لا تجعل جوهر الصراع الحروب بين دولتين وإنما جوهر الصراع هو في زرع شعب في أرض شعب آخر وإنشاء دولة محتلة لم تكن موجودة، بل أكثر من ذلك فإن هذه الدولة المصنوعة دولة دينية توسعية شعارها المرفوع على الكنيست من النيل إلى الفرات، فجوهر الصراع ينطوي على بعد قيمي وجودي يهدد الوطن العربي والأمة العربية، ولذلك منع هذا الصراع إقامة علاقات طبيعية بين الدول العربية وإسرائيل، ونظمت قوانينها منع المواطنين العرب من أي علاقة مع هذا الكيان بما في ذلك الزيارة والسياحة إلى أن جاءت اتفاقية كامب ديفيد، ثم مع الأردن ثم منظمة التحرير الفلسطينية، لكن إسرائيل لم تنفذ ما تم الاتفاق عليه ولاسيما مع المنظمة، فقد استشهد الرئيس الراحل وهو محاصر، ولا يزال الرئيس عباس يركض وراء تحقيق السلام، ومع ذلك لم يحقق شيئا يذكر باعترافه. والسياسة الإسرائيلية واضحة جلية في سعيها الحثيث نحو التطبيع بكل الوسائل المتاحة، وأن أهدافها من التطبيع هي قبولها ضمن دول الشرق الأوسط لتلعب دورها الرئيسي كلاعب مؤثر، وفاعل كبير ضمن دول المنطقة، والاعتراف بها دون حل عادل للقضية الفلسطينية،

وترتبط الرؤية الإسرائيلية من التطبيع بتطور الأوضاع الإقليمية التي ضعفت فيها الحكومات المجاورة لها لتحدد أهدافها الجيوسياسية بما يعزز وضعها الاستراتيجي في الوطن العربي والإسلامي، بل هي تطمع أن تقود مشروع الوطن الشرق الأوسطي بما لها من إمكانيات علمية وتقنية، واقتصادية وإعلامية، والدعم الأمريكي والأوروبي لها.

مفهوم التطبيع في الإستراتيجية الإسرائيلية:

إن استراتيجية إسرائيل الواضحة التي لا تخفيها عن احد هي ليست اتفاقيات السلام، وإنما الوصول إلى التطبيع، وان التطبيع في هذه الإستراتيجية يراد به قبول إسرائيل كدولة طبيعية وكشعب طبيعي تتعامل معها دول الجوار مثل تعامل بعضها مع بعض، بل قد تكون المرجع عند الخلاف والاستقواء بالغير، وان تتعامل معها الشعوب العربية مع الشعب اليهودي كأي شعب آخر، بل يروج بعض العرب بأن اليهود أبناء العم لهم، وبالتالي فهم أقرب قوميا ونسباً من بعض الشعوب المسلمة غير العربية.

وفي اعتقادي واعتقاد الكثيرين من المحللين أن ضغوط إسرائيل على بعض الدول الموقعة معها اتفاقية السلام في التطبيع الشعبي هو عدم الثقة ببعض هذه الدول، وبعدم ترسيخ ثقافة السلام ولذلك يجب السعي للتطبيع الشعبي الذي هو يكون الملاذ الآمن.

إن إسرائيل ترصد بشكل دقيق أن خيارات الشعوب العربية ليست في قبولها، وان قناعاتهم التي عبر عنها العامة هي أن إسرائيل هي الدولة المحتلة والأكثر تهديدا للأمن القومي.

إن إسرائيل من خلال استراتيجيتها (ومن ورائها أمريكا) تحاول أن تقنع الشعوب العربية بعدو آخر غيرها، لذلك تحاول أن تصنع الكراهية بين الشعوب العربية وغير العربية، بل تسعى جاهدة أن تصنع الطائفية البغيضة بين السنة والشيعة، بل داخل السنة بين السلفية والصوفية والإخوان، بل داخل الشعب العربي نفسه، كما حدث في احتلال النظام العراقي السابق للكويت لغرس الكراهية بين الشعوب. بل يدخل ضمن ثقافة الترويض والكراهية الداخلية ما تفعله بعض الأنظمة الديكتاتورية وغير الشرعية من القتل والتعذيب والإهانة واعتقال عشرات الآلاف، وحرق الجثث ونحوها، مما يندى له جبين فاعليها المجرمين، كل ذلك ليقول الناس: إن إسرائيل لم تفعل بالفلسطينيين عشر ما فعله ذلك النظام. بل يدخل أيضا ضمن الاستراتيجية نفسها عدم السماح لإقامة نظم ديمقراطية في معظم الدول حتى يقال: إن إسرائيل هي الواحدة الوحيدة للحرية والديمقراطية، وبلا شك يدخل في هذه الاستراتيجية دعوة جميع المسلمين لزيارة القدس والأقصى حتى يتحقق التطبيع.

ثانيا: مبررات وأدلة القائلين بزيارة الأقصى ومناقشتها والرد عليها:

ظهرت الدعوة لزيارة العرب والمسلمين على لسان الرئيس الفلسطيني محمود عباس حيث دعا في مؤتمر القدس الذي عقد في الدوحة يوم 25/04/2012، العرب والمسلمين إلى زيارة الأقصى، وحشد لذلك مجموعة من الحجج الدينية والتاريخية، والسياسية لتبرير الزيارة إلى القدس الشريف، وسوف نناقش هذه الحجج وغيرها مما ذكره غيره من بعض الدعاة والمفتين الذين قاموا  فعلا مثل الدكتور علي جمعة مفتي مصر السابق، والشيخ الحبيب الجفري، أو الذين أيدوهم وإن لم يذهبوا بعد.

القسم الأول: المصالح المتوخاة، والقسم الثاني، الأدلة الشرعية والتاريخية.

القسم الأول: المصالح المتوخاة: وقد ذكر الرئيس الفلسطيني أبو مازن بعضها وهي:

1-    أن تدفق العرب لزيارة القدس سوف يساهم في فك العزلة، وسوف يعيق تهويد المدينة المستمر، وبذلك سوف يصب في دعم صمود الشعب المقدسي.

ويمكن أن نناقش هذا الدليل بأنه مبني على مصلحة متوقعة غير متحققة، إذ أن قرار الزيارة ومنح التأشيرات بأيدي إسرائيل فإذا وجدت أنها تدعم المقدسيين في صمودهم فسوف تمنعها، كما تمنع ضواحي القدس والمدن المحيطة لها عن الصلاة فيها إلا بشروط صعبة، كما أنها منعت المقدسيين الذين سحبت إقاماتهم الدائمة من العودة إليها، وزيارة ذويهم وأقاربهم، بل عمدت مؤخرا إلى نفي عدد من الشخصيات المقدسية ومنهم عضوان في المجلس التشريعي، بل منعت المتضامنين الأمريكان، والأوروبيين من دخولها، إذن فالمصلحة – على فرض عدها مصلحة- مصلحة موهومة غير متوقعة، وغير محققة، وبالتالي فلا يجوز اعتبارها أمام المفاسد الحقيقية التي تترتب على الزيارات مما ذكرناه في السابق، ومن القواعد الفقيهة أن درء المفسدة أولى من جلب المصلحة الحقيقية، فما ظنك بمصلحة موهومة.

2- ثم إن الأمر مادام بيد إسرائيل فهي التي تتحكم في ما يحقق مصالحها، لأنها تعد العدة لجعل القدس عاصمتها اليهودية، وبالتالي فلن تسمح إلا في إطار الزيارات التي تؤدي إلى الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية، وهذا ما عبر عنه رئيس بلدية القدس ” نير بركات” حيث صرح بأن هدف إسرائيل هو جعل المدينة قبلة للسياحة الدينية لمختلف الديانات السماوية وأنها تستهدف زيادة عدد السيّاح للقدس من مليوني سائح إلى عشرة ملايين سنوياً، حتى يدل على الانفتاح الإسرائيلي على العالم بما فيه العالم الإسلامي، لكنه أكد على “أن المدينة يجب أن تكون موحدة كعاصمة لإسرائيل”

3- تسعى إسرائيل جاهدة لاستثمار هذه الزيارات لشرعنة التعامل مع الاحتلال في قضايا السياحة والاقتصاد والاستثمار، والتعاون العلمي، ونحو ذلك، كما استثمرت اتفاقية كامب ديفيد لتحييد الدول العربية عن الصراع، والاستفراد بالفلسطينيين لتصبح قضية فلسطين قضية فلسطينية فقط، في حين أن نية الرئيس السادات المعلنة من الاتفاقية أنها ستكون مقدمة حقيقية لحل شامل وعادل للقضية الفلسطينية، وإقامة دولة في حدود 1967م تكون القدس الشرقية عاصمتها، ولكن ما الذي حديث على أرض الواقع أن إسرائيل بعد التوقيع على الاتفاقية عام 1979م بفترة وجيزة جداً اصدرت “قانون القدس” عام 1980 الذي اتخذ القدس الكاملة والموحدة عاصمة لإسرائيل، كما أعطى الحق للمشاريع التطويرية التي حققت توسعاً كبيراً في الاستيطان، وتضييقا للوجود العربي الذي حدد قانوناً بـ 22% من مجمل سكان القدس اصلاً .

وقد ارتكبت القيادة الفلسطينية خطأ استراتيجياً بعد اتفاقية أوسلو وذلك بسعيها واقناعها دول عدم الانحياز ودول اسلامية ببدء التطبيع والتعاون مع إسرائيل لقناعتها بأن التفاوض سيحل القضية الفلسطينية، وينتهي بالدول الفلسطينية.

إن إسرائيل ماضية في خططها مستفيدة من كل الأخطاء حتى أن الكنيست الإسرائيلي اصدر قانوناً آخر في عام 2001م أكد على قانون القدس، وأضاف إليه كلمة “الأبدية” ، والاعتراف بالقرار الحكومي الذي حدد حدود القدس مما يمنع التفاوض حتى حول الحكم الذاتي لها 

3- ومن الناحية العملية فقد رأينا أن الزيارات لن تحقق منافع ومصالح حقيقية للمقدسيين، وإنما تحققها لإسرائيل..

وبالتالي فمن الناحية الشرعية أن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة الحقيقية، فما ظننا بالمصالح الموهومة.

ومع الأسف الشديد أن الذين يشجعون على زيارة القدس هم أولئك الذين اتفقوا في الجوانب الأمنية والاقتصادية مع إسرائيل أما علماء القدس ومجاهدوها أمثال الشيخ حامد البيتاوي، والشيخ رائد صلاح وغيرهم من علماء فلسطين فهم يرفضون ذلك رفضا قاطعاً – كما سبق.

4- من الحجج التي أوردوها أن النبي صلى الله عليه وسلم زار مكة في عمرة القضاء وهي تحت إدارة قريش.

والجواب عن ذلك أن هذا القياس مع الفارق، لأن القريش لم تكن محتلة لمكة، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل وفق شروط الصلح وبكل عزة وكرامة، ودخلوا مجتمعين مرة واحدة، لم يكن تترتب عليها آثار سلبية أو مآلات مضرة.

5- حاول البعض التحقيق من قضية أخذ الفيزا من سفارة الدولة المحتلة، وقالوا: لا يُوضع على جواز السفر ختمها.

والجواب أن إسرائيل – كما سبق – تدعي السيادة الكاملة على القدس الشريف، وبالتالي فيكون من الطبيعي وضع ختم على جواز السفر حتى يسمح لصاحبه بالذهاب إلى الدولة المحتلة.

نعم يمكن أن يرتب عدم الختم على جواز السفر لبعض الشخصيات إما بوضعه على ورقة مرفقة، أو لأي سبب طارئ آخر ولكن القضية هي ليست الختم فقط، وإنما الزيارة وآثارها من التطبيع بالاضافة إلى مراجعة سفارات الدولة المحتلة لأخذ الفيزا – كما سبق.

6- قال بعض المفتين الرسميين أن الزيارة تعزز موقف القدس العربي والإسلامي. وقد بيّنا خطأ ذلك بوضوح.

القسم الثاني: الجوانب التأريخية:

حيث استدل أو استشهد القائلون بالزيارة من السياسيين وأتباعهم بما يأتي:

1- أن بعض الفقهاء والعلماء الكبار أمثال الإمام الغزالي قد زاروا القدس وهي تحت الحتلال.

فالجواب عن ذلك أن من المتفق عليه بين العلماء أن عمل العالم ليس حجة، فالدليل لا يؤخذ إلا من كتاب الله وسنة رسوله، ومن الاجتهاد المنضبط من أهله وفي محله   

ومن جانب آخر فالثابت تأريخياً أن الغزالي زار بيت المقدس قبل إحتلاله، وهذا ما صرّح به ابن الاثير في الكامل بوضوح أن الغزالي رحمه الله سافر إلى دمشق وزار القدس عام 488 هـ يقول ما نصه في حوادث هذا العام: “وفيها – أي عام 488هـ – توجه الإمام أبو حامد الغزالي إلى الشام وزار القدس وترك التدريس في النظامية واتناب أخاه وتزهد ولبس الخشن وأكل الدون وفي هذه السفرة صنف إحياء علوم الدين وسمعه منه الخلق الكثير بدمشق وعاد إلى بغداد بعدما حج في السنة التالية وسار إلى خراسان ” وربط زيارة القدس بزيارة دمشق في ذلك العام يوشح تقارب ميقات الزيارتين إلى دمشق والقدس.

وأما الدليل القاطع فهو ما حكاه الغزالي نفسه عن رحلته إلى بيت المقدس في كتابه “المنقذ من الضلال”، إذ يقول ما نصه – مع اختصارات لا تؤثر في موضع الجدل -: “ففارقت بغداد وفرقت ما كان معي من المال … ثم دخلت الشام، وأقمت به قريباُ من سنتين… فكنت أعتكف مدة في مسجد دمشق، اصعد منارة المسجد طول النهار، وأغلق بابها على نفسي. ثم تحركت في داعية فريضة الحج والاستمداد من بركات مكة والمدينة، وزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم ” 

فهذا النص من الغزالي نفسه قاطع في أنه زار القدس قبل احتلالها، أي في عام 488 هـ ومن جانب آخر فإن القدس في بداية احتلالها في تلك المرحلة كانت فيها حروب شديدة بين الصليبيين والمسلمين لم تكن تسمح بزيارة هؤلاء.

وأما زيارة بعض العلماء الآخرين فقد كانت في مواسم الهدنة المؤقتة بين جيوش المسلمين ومملكة بيت المقدس الصليبية التي كان من شروطها تمكين المسلمين من زيارة بيت المقدس لفترة زمنية وتحت إشراف الدولة الإسلامية.

 والصحيح في جواب ذلك أن عمل العالم ليس حجة.

والخلاصة أن زيارة القدس في ظل الاحتلال الغاشم الذي يريد القضاء على كل المعالم الإسلامية أو المسيحية والتاريخ الإسلامي، وجعل القدس عاصمته الأبدية ومحاولاته المستميتة للتطبيع الشامل السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي تترتب عليها مفاسد جسيمة، ومضار عظيمة ونتائج وخيمة، فلا يجوز للمسلم أن يشارك في هذه الجريمة، بل عليه شد الرحال لتحرير الأقصى بكل الوسائل المتاحة، لكل ما ذكرناه من الأدلة بايجاز شديد.

والله أعلم

وصلى الله وسلم على عبده ورسوله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

كتبه

أ.د. علي  محيي الدين القره داغي

الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

نائب رئيس المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث