إن الحرية المنضبطة للأمم بمثابة الأوكسجين والهواء لبقاء الروح والحياة ، فكلما ضاقت مسالك الحرية اضطربت حركة الأمة ، وضاق صدرها ، وكلما كان الهواء طلقاً والمساحة واسعة كلما كانت السعادة وانشراح الصدور ، فالحرية هي الهواء الطلق ، والاوكسجين الصافي لكل ما فيه روح وحياة ، حتى الحيوانات ، بل الأشجار والنباتات تتأثر سلباً وايجاباً بذلك ، فهي فطرة الله التي فطر الناس عليها ، ولذلك لا يُكره الله تعالى أحداً حتى على دينه الحق فقال تعالى (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (سورة البقرة: من الآية 256) ، بل لا يقبل الايمان أساساً إلاّ من قناعة تامة وحرية كاملة ، وهي من أهم أسباب نهضة الأمم على مرّ التأريخ فقد نهضت أوروبا بعد تحررها من الفساد السياسي ، فقامت بإصلاح نظامها السياسي ، والتعليمي ، ثم انطلقت نحو الابداع فنجحت في دنياها .
فالشعوب في ظل الاستبداد والدكتاتورية – في نظر القرآن – كَلٌّ على مولاه، لا يُنتِج، ولا يُبدِع فقال تعالى (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا ۖ هَلْ يَسْتَوُونَ ۚ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ ۖ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ۙ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)) سورة النحل.
ومن المعلوم أن أمتنا الإسلامية قد سعت منذ أمد بعيد لتحقيق حريتها ، ففي العصر الأخير للدولة العثمانية التي ظهر فيها الاستبداد من بعض الولاة ، والحركات الشوفينية طالب المصلحون بإصلاح النظام السياسي ، والقضاء على الفساد بكل أنواعه ، وبإدخال الاصلاحات الشاملة ، واطلاق الحريات المشروعة للشعوب والقوميات ، وقد قاد هذا المشروع السيد جمال الدين الأفغاني ، والشيخ محمد عبده ، والسيد رشيد رضا ، والكواكبي، وغيرهم، ولكن الحكومة العثمانية لم تتمكن من الاستجابة لهذه الاصلاحات التي طالبت بها الشعوب الإسلامية سوى إنشاء مجلس شورى “مبعوثان” على الرغم من أن جهود السلطان عبدالحميد رحمه الله كانت كبيرة ولكن جاءت متأخرة ، لذلك استغل الاستعمار البريطاني والفرنسي غليان الشعوب وثورتها لتحقيق مآربهما ، فأسقطوا الدولة العثمانية بالتعاون مع رجال الثورة العربية في بداية القرن العشرين، وحدث لهذه الأمة ما حدث من احتلال واستعمار، وتفرق، وتمزق، وغرس الصهاينة على الأرض المباركة فلسطين، وما أعقب ذلك من مآسٍ، ومصائب ونكسات.
ومن هنا يجب علينا أن نكون على حذر شديد ، ووعي عميق وتدبر دقيق في كيفية توجيه هذه الثورات الشعبية لتحقيق مقاصدها التي تعتبر العودة إلى الهوية الإسلامية من أهمها ، فكل مظاهر ثورة تونس ، وثورة مصر ، وثورة ليبيا ، وثورة اليمن ، وثورة سوريا مظاهرات إسلامية من الشعارات والأعمال ، أقول إسلامية دون أي صبغة حزبية أو جماعة .
وأنا على ثقة كبيرة بأن هذه الثورات الشعبية تحقق أهدافها المنشودة بإذن الله تعالى لعدة أسباب لا يمكن ذكرها في هذه العجالة.
ولكن هالني وأفزعني الجدل الدائر بعد نجاح الثورة في مصر حول هوية هذه الثورات ، فقد ذكر الأستاذ فهمي هويدي في مقالة طيبة حول ابتزاز المثقفين العلمانيين للعسكر من خلال تخويفهم من جميع من ينتمي إلى هذا الدين ويعتز به ، حتى ولو لم يكن من الاخوان ، فقد ضخموا خطورة الإسلام السياسي لضرب الاسلام نفسه وابعاده عن الحياة مرة أخرى علماً بأن الإسلام هو الذي حرك الجماهير ، وأعطاهم القوة والصبر والشجاعة والاستبسال في سبيل الله تحت شعارات الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر، وللانصاف فإن موقف الإخوان كان رائعاً حيث قبلوا باللعبة الديمقراطية، والتعايش على اساس المواطنة الكاملة للجميع دون تفرقة، بل وعدوا بعدم ترشيح أحد للرئاسة.
أيها السادة الكرام
إن مستقبل أمتنا مرتبط بتوجيه هذه الثورات نحو أهدافها المنشودة وذلك بالتركيز على الاستفادة من ماضينا وماضي الأمم وحاضرنا وحاضر الأمم المتقدمة ، وذلك من خلال ست خطوات أساسية :
الخطوة الأولى : إصلاح النظام السياسي ، من خلال عقد جديد ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكومين ، وتوضع فيه كل الوسائل المتاحة لمنع الاستبداد والدكتاتورية وذلك بمنع الحاكم من الجمع بين السلطات ، فقد ربط القرآن الكريم بين الطغيان والفساد والاستغناء فقال تعالى (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ) (سورة الفجر11- 12) وقال تعالى (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (سورة العلق 6- 7) أي استغنى عن الله ، واستغنى عن الآخرين أي صار فرعوناً (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ) (سورة الزخرف: 54). فتحكم الحاكم في المال والسلطة يؤدي الى الطغيان الذي يؤدي حتماً الى الاستبداد.
الخطوة الثانية : إصلاح النظام التعليمي حتى يقوم على الابداع .
الخطوة الثالثة : التغيير لما في الأنفس بجميع مكوناتها فقال تعالى ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) (سورة الرعد: من الآية 11) والمقصود بالأنفس هنا ما أطلق الله تعالى القرآن عليه وهي خمسة أنواع : النفس الأمارة بالسوء ، والروح ، والقلب ، والعقل ، ثم ذات الإنسان ، وليس المقصود تغيير ما في الأنفس الأمارة بالسوء فقط ، علماً بأن لكل نوع من هذه الأنواع الخمسة غذاءه، وأدواته للتغبير، وهذا ما اشار اليه القرآن الكريم (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) سورة الجمعة
الخطوة الرابعة : الإصلاح الشامل للفرد ، والأسرة والجماعة ، والحكومة ، وللنظام والعلاقات .
الخطوة الخامسة : التجديد لهذا الدين بإزاحة كل ما تعلق به من تحريف الضالين ، وتشدد الغالين ، وترخص المترخصين ، وإعادته إلى أصوله ،والتجديدفي المنهج والخطاب والوسائل والادوات فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ) .
الخطوة السادسة : وضع خطة لتربية شاملة على ثقافة الأحسن والإحسان في كل شيء ، وهذا ما يؤكد عليه فضيلة الإمام يوسف القرضاوي حفظه الله
أيها الاخوة الكرام
إذا كان الرواد الأوائل أمثال الأفغاني ومحمد عبده قد عملوا أفراداً لمشروع الإصلاح فإن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين برئاسة الإمام يوسف القرضاوي حفظه الله يعمل في إطار مؤسسية شاملة تضم أكثر من خمسين ألف عالم موزعين في العالم يقومون بدورهم النهضوي بإذن الله تعالى، من خلال خطة استراتيجية بعيدة المدى، تعيد دور العلماء لتنهض أمتنا من جديد كما فعله علماء جيل صلاح الدين، ولذلك كان الاتحاد برئيسه، وأمانته العامة حاضرا في قلب الأحداث حتى سمي رئيس الاتحاد بإمام الثائرين.
وفي الختام
لا يسعنا ونحن نقيم هذه الندوة في هذا البلد الكريم قطر دولة مقر الاتحاد، صاحبة المواقف المشرفة إلا أن نتقدم بالدعاء الخالص والشكر الجزيل لقطر شعباً وأميراً و حكومة على هذه المواقف المشرفة، وعلى رعايتها لكل الأنشطة المفيدة للأمة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أ.د. علي محيى الدين القره داغي
الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين