بسم الله الرحمن الرحيم

وثيقة داغستان حول الجهاد، ودار الحرب وقتل الأئمة

هذه وثيقة علمية شارك في تحريرها وتقريرها الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وعدد من أعضائه، وعدد كبير من العلماء والمفتين بداغستان، تدور حول جملة من قضايا الفكر الإسلامي في روسيا الاتحادية بصورة عامة، وفي جمهورية داغستان بصورة خاصة، حيث وقعت فيها بعض المشاكل، وقتل فيها عدد من أئمة المساجد وخطبائها.

وهذه الوثيقة منبثقة من إعلان موسكو الذي صدر عن ثلة من علماء الأمة المشهود لهم برسوخ العلم والتجرد للإسلام الحق، واعتمدها الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين، لذلك نأمل أن يتقبلها الشباب المسلم ويتعامل معها بجدية وفاعليه، ومنهج راشد، وتمثل تطبيقا حقيقيا لمسيرة الوسطية. إن وثيقة داغستان هذه تؤكد كل ما جاء في إعلان موسكو بشأن قضايا الجهاد، وإجراء الأحكام الشرعية والخلافة، ولكنها تضيف و تؤكد بعض القضايا التي جرت في جمهورية داغستان، وهي:  أولا: أن إحداث الفرقة والفتنة بين المسلمين لمن أعظم الكبائر عند الله تعالى بإجماع المسلمين، وتدل على خطورة  ذلك مئات من الآيات الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة، منها قوله تعالى }والفتنة أشد من القتل{ ]البقرة الآية 191[، وقوله تعالى: } والفتنة أكبر من القتل { ]البقرة الآية 217[، وقوله تعالى في الوحدة، والعذاب العظيم للذين يتسببون في الفرقة: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾، ]آل عمران الآية103-105[، ولذلك تدعو الوثيقة هؤلاء الإخوة المعارضين أو المسلحين إلى الوحدة والتصالح والعودة إلى أحضان الأمة، والقيام بالدعوة والتربية. ثانيا: إن قتل المسلمين من أهل القبلة لمن أعظم الكبائر بإجماع المسلمين، مستندا على النصوص القطعية في الكتاب والسنة، منها قوله تعالى: ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها، وغضب الله عليه ولعنه، و أعد له عذابا عظيما ) سورة النساء الآية 93، فلننظر إلى أن الله تعالى رتب على قتل مؤمن متعمدا خمس عقوبات عظيمة للقاتل، وهي: 1- جزاؤه جهنم، 2- الخلود فيها، 3– غضب الله عليه، 4– لعنته عليه، 5– إعداد العذاب العظيم له.  وروى البخاري في صحيحه وأحمد بسندهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما)، وقد ورد في حديث صححه الأئمة أن الشيطان يتوج جنديه الذي يوسوس له في قلب شخص حتى يقتل شخصا، فيقول: ( أنت أنت ويلبسه التاج ) رواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي.

ثالثا: أن إعلان الجهاد – بمعنى القتال – ليس من حق شخص أو مجموعة، أو جماعة، وإنما هو حق الأمة جمعاء، وأنه لايجوز الإعلان عليه بإجماع المسلمين إلا في حالة الدفاع عن النفس، وطرد الغزاة المحتلين كما في فلسطين. ولو قرأنا جميع آيات الجهاد والقتال في سورة التوبة لوجدناها تؤكد على أن القتال إنما يوجه ضد المعتدين والمتربصين الأعداء، وأن الجهاد والقتال هو للدفاع وليس للهجوم وبناء على ما سبق نؤكد على ما يلي:

 إن عمليات القتل والاغتيالات والتفجير التي تحدث في بعض البلاد عمليات محظورة شرعاً، وغير مقبولة عقلاً، ولا تتفق مع أحكام الإسلام ومبادئه، بالإضافة الى أنّها تشوه صورة الإسلام، وتعطي مببررات للأعداء للهجوم على الإسلام ووصفه بالإرهاب والقسوة وبالتالي عدم انتشاره، وحينئذ اصبحت هذه الأعمال مع حرمتها تصبح حاجزاً أمام انتشار الإسلام، وفتنة لغير المسلمين.  إن إطلاق اسم الجهاد على هذه التفجيرات التي توجه نحو المدنيين مسلمين أو غير مسلمين، ظلم كبير وتشويه خطير لهذا المصطلح الإسلامي الجميل الذي يراد به استفراغ الجهد لنشر الدعوة، وإصلاح الناس، والدفاع عنه بجميع الوسائل، في حين أن هذه العمليات تدخل فعلاً ضمن العنف المحظور والإرهاب المحرم، والاعتداء الجائر، والظلم البين بحق من يقتل من الأبرياء من الأطفال والشيوخ والنساء، فقال تعالى في بيان حرمة الاعتداء على النفس الإنسانية مطلقاً بدون حق ﴿ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ، ويقول تعالى﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾.

ويقول الرسول الكريم في حديث صحيح متفق عليه : ( فإن دماءَكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا” (صحيح البخاري – مع الفتح – 1/145، 146، 8318) ومسلم (1679)..

من المعلوم في الشريعة الإسلامية بداهة أن حقوق الناس مصانة محفوظة لا يجوز الاعتداء عليها، وأن الحسنات حتى الجهاد والاستشهاد في سبيل الله لن تكون كفارة وإزالة لحقوق الناس، فقد ورد في الحديث الصحيح أن أبا قتادة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن قُتلتُ في سبيل الله أتكفر عني خطاياي، فقال رسول الله: “نعم وأنت صابر محتسب غير مدبر إلا الدّين، فإن جبريل قال لي ذلك” رواه مسلم الحديث (2581).

رابعا: التكفير والتفسيق لقد أرسل الله تعالى رسوله الى الناس كافة بالهداية والرحمة والشفاء، وجعل أمته خير أمة أخرجت لمنفعة الناس ودعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، وهدايتهم وخدمتها، وتحقيق العدل بينهم والدفع، والدفاع بالتي هي أحسن.  إن تكفير أحد من أهل القبلة ليس من منهج أهل السنة والجماعة والسلف الصالح من العلماء والفقهاء الربانيين، بل هو منهج الخوارج الذين قالوا بتكفير أهل الكبائر، رداً على المرجئة الذين قالوا بعدم ضرر المعاصي كبيرة أو صغيرة مع الايمان، فكلاهما منهج خطأ مخالف لنصوص الشريعة من الكتاب والسنة، وإنما الصواب هو المنهج الوسط الذي اتخذه أهل السنة والجماعة معتمدين على الجمع بين جميع النصوص المعتمدة، وهو أن المؤمن المرتكب للكبيرة – ما عدا الشرك – ليس بكافر، ولكنه عاص يستحق العذاب، وأمره الى الله تعالى، قال تعالى:﴿ إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ سورة النساء الآية 116 . وقد ذكر الإمام الشوكاني في خطورة التكفير في عصره في كتابه السيل الجرار على حدائق الأزهار (1/981) فقال: “وها هنا تُسكب العبرات ويُناح على الاسلام وأهله بما جناه التعصب في الدين على غالب المسلمين من الترامي بالكفر لا لسنّة ولا لقرآن، ولا لبيان من الله ولا لبرهان، بل لما غلَت به مراجلُ العصبية في الدين وتمكّن الشيطان الرجيم من تفريق كلمة المسلمين، لقّنهم إلزامات بعضهم لبعض بما هو شبيه الهباء في الهواء والسراب بقيعة، فيا لله والمسلمين من هذه الفاقِرة التي هي أعظم فواقر الدين والرزّية التي ما رُزئ بمثلها سبيل المؤمنين…” ويقول شيخ الاسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (12/466): “وليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين، وإن أخطأ وغلط، حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة، ومن ثبت اسلامه بيقين، لم يزُل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة”، وقد صدرت قرارات من المجامع الفقهية وهيئات كبار العلماء في العالم بعدم جواز تكفير أي احد من أهل القبلة ولو كان عاصيا.

خامسا: موضوع دار الحرب ودار الإسلام

إن من المعلوم فقها أن مصطلح دار الحرب ودار السلام مصطلح فقهي ليس واردا في الكتاب والسنة، ولذلك ذهب جمع كبير من الفقهاء القدامى إلى وجود نوع ثالث وهو دار العهد، وهي حسب مصطلحاتنا المعاصرة الدول التي لها علاقات دبلوماسية مع الدول الإسلامية، لأن من المعلوم فقها ودليلا وحجة أن الإسلام  يحافظ على عهود الدولة ومواثيقها، بل حتى من أفرادها، حيث قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: ” … وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ ..”، فقال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾، المائدة، الآية 1، وقد اتفق الفقهاء على أن المنطقة، والدولة، التي يعيش فيها المسلمون، والتي تقام فيها شعائر الإسلام، وأحكامه، وأن أهله يتمتعون بالحرية الدينية لا تعتبر دار حرب، بل تعتبر دار إسلام  وسلام، حتى ولو كانت هناك هيمنة عليها من دولة غير مسلمة، حيث صدرت فتاوى من كبار فقهائنا السابقين عن هيمنة المغول والتتار على بعض البلاد الإسلامية التي حافظت على إسلامها.  وبناء على ذلك وعلى أدلة معتبرة، يرى الموقعون على هذه الوثيقة أن جمهورية داغستان ونحوها من الجمهوريات التي يعيش فيها المسلمون ويتمتعون فيها بحريتهم الدينية، وتقام فيها الشعائر والأحكام ليست من دار الحرب أو العهد، وإنما هي من دار الإسلام والسلام، فلا يجوز إعلان القتال فيها ضد المسلمين، كما أنه لا يوجد أي مسوغ شرعي لذلك.

التوصيات:

    نوصي بما يأتي:

(1)- تعزيز دور العلماء والفقهاء والدعاة والهيئات العلمية العامة والمتخصصة في نشر الوعي لمكافحة الإرهاب، ومعالجة أسبابه. (2)- دعوة جميع وسائل الإعلام إلى تحري الدقة في عرض تقاريرها ونقلها للأخبار، وخصوصا في القضايا المتعلقة بالإرهاب، وتجنب ربط الإرهاب بالإسلام، لأن الإرهاب وقع –  ولا يزال يقع -من بعض أصحاب الديانات والثقافات الأخرى. (3)- دعوة المؤسسات العلمية والتعليمية والإعلامية لإبراز الإسلام بصورته المُشرقة التي تدعو إلى قيم التسامح والمحبة والتواصل مع الآخر والتعاون على الخير. (4)- دعوة جميع الوزارات والإدارات الدينية، إلى مواصلة بذل العناية الفائقة لهذا الموضوع، بعقد الندوات المتخصصة والمحاضرات المكثفة واللقاءات العلمية المفصلة، لبيان نطاق الأحكام الشرعية بشأن منع الإرهاب وقمعه والقضاء عليه، والإسراع في إيجاد إطار شرعي شامل يغطي جميع جوانب هذه المسألة ولضوابط الجهاد وشروطه ولتنزيل الاحكام الشرعية وتحقيق المناط وفقه الاوليات والموازنات. (5) – دعوة الدول الغربية إلى إعادة النظر في مناهجها التعليمية، وما تضمنته من نظرة مسيئة للدين الإسلامي،  ومنع ما يصدر من ممارسات تُسيء إلى الإسلام في وسائل الإعلام المتعددة،  تأكيدا للتعايش السلمي والحوار، ومنعا لثقافة العداء والكراهية.  (6)- دعوة حكومة روسيا الاتحادية لبذل المزيد من الجهد وتقديم الدعم المادي والمعنوي لتحقيق الانسجام، والاندماج الايجابي بين الأقلية الإسلامية  وسائر مكونات الشعب الروسي لتصبح أنموذجاً يحتدى به في التعايش السلمي والتعاون البناء.  (7)-  دعوة الجمهوريات ذات الأغلبية المسلمة وبخاصة جمهورية داغستان، إلى إنشاء مجمع فقهي يضم عددا من علماء المسلمين في شمال القوقاز وتتارستان وغيرها بالإشتراك مع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ليكون مرجعية فقهية لحل القضايا المعاصرة. وفي الختام يتقدم الحاضرون بالشكر الجزيل لجمهورية داغستان شعبا ورئيسا وحكومة على عقد هذا المؤتمر وكرم الضيافة وحسن الاستقبال والحفاوة. كما قدم الحاضرون باسم الشعب الداغستاني وحكومته ورئيسه الشكر للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين علي الجهود الطيبه التي بذلها، والرغبة الصادقة في خدمة الشعب الداغستاني. ولوفد الاتحاد الذي حضر المؤتمر والمكون من: فضيلة الشيخ الدكتور علي محيي الدين القره داغي الأمين العام، وفضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله المحمود، عضو مجلس الأمناء أمين المال، والأستاذ رشيد عمري علوي، المدير التنفيذي، والدكتور لؤي يوسف منسق أعمال الاتحاد في روسيا الاتحادية.

هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين. وصلى الله على سيدنا ومحمد وعلى آله وصحبه وسلم