الدوحة – العرب
يشرح فضيلة الشيخ علي محيي الدين القرة داغي ثبوت الأجرة واستقرارها في كتابه فيقول: إن الأجرة تثبت بالعقد ولا يجب إيفاؤها إلا بعد استيفاء المنفعة، أو بشرط التعجيل، وحينئذ له الحق في حبس المنافع إلاّ أن تستوفى الأجرة المشروطة، وإذا لم يلتزم المستأجر فله حق الفسخ، وتستقر الأجرة باستيفاء المنفعة، أو التمكين من العين المأجورة، حتى إن من استأجر داراً مدة معلومة ولم يسكن فيها مع تمكنه من ذلك فقد وجب الأجر.
تعليق الأجرة على أحد الأمرين، أو النسبة: وأجاز بعض الحنفية بعض صورها مثل أن يدفع إلى الحائك غزلاً ينسجه بالنصف حيث أجازه مشايخ بلخ، وتوسع الحنابلة في ذلك ومنعه الشافعية وجمهور الحنفية.
ومنع المالكية أن تكون الأجرة مترددة بين أمرين، بأن يقول إن خطته اليوم فبدرهم، أو غداً فبنصف درهم، أو خياطة رومية فبدرهم، أو عربية فنصف درهم، لأنه كبيعتين في بيعة، فإن خاط فله أجرة مثله لفساد العقد، وقيد بعضهم بأن لا تزيد على المسمى، وعن مالك في أجراء يخيطون مشاهرة فيدفع لأحدهم الثوب على إن خاطه اليوم فله بقيمة يومه، وإلا فعليه تمامه في يوم آخر، ولا يحسب له في الشهر: يجوز في اليسير الذي لو اجتهد فيه لأتمه، ويمتنع في الكثير، ولو استأجره على تبليغ كتابه إلى بلده ثم قال بعد الإجارة: إن بلغته في يوم كذلك فلك زيادة كذا، فكرهه، واستحسنه في الخياطة بعد العقد، قال ابن مسعدة: هما سواء، وقد أجازهما سحنون وكرههما غيره.
وأما الحنفية فلديهم خلاف وتفصيل في هذه المسألة، حيث ذهب أبو حنيفة -رحمه الله– إلى أن الشرط الأول (اليوم) صحيح، والثاني (غداً) فاسد حتى لو خاطه اليوم فله درهم، وإن خاطه غداً فله أجر مثله، وقال أبويوسف: الشرطان جائزان، وقال زفر: الشرطان باطلان.
إذن في المسألة أربعة مذاهب:
المذهب الأول: العقد فاسد، والشرط باطل وهو رأي المالكية –على التفصيل السابق– والشافعية، وزفر.
والمذهب الثاني: العقد صحيح، والشرطان صحيحان، وهو رأي الصاحبين وأحمد في رواية.
المذهب الثالث: الشرط الأول صحيح، والثاني فاسد، وله أجر مثله وهو رأي أبي حنيفة في ظاهر الرواية.
المذهب الرابع: مثل الرأي الثالث، ولكن في اليوم الثاني له أجر مثله الذي لا يزداد على نصف درهم، وهو إحدى روايتي ابن سماعة في نوادره عن أبي يوسف، وأبي حنيفة.
وحجة القائلين بفساد العقد تكمن في أن ذلك يدخل في اجتماع شرطين في العقد، أو صفقتين في صفقة واحدة، وهذا منهي عنه.
ولكن التحقيق أن المراد بهما هو اجتماع السلف مع البيع أو الإجارة.
وأما حجة القائلين بالجواز فهي أن هذا الشرط أو الشرطين ليس فيه أو فيهما مخالفة لنص من الكتاب والسنة، ولا لمقتضى العقد، ولا يؤدي ذلك إلى غرر وجهالة تؤدي إلى نزاع.
لذلك فالراجح هو المذهب الثاني، لما ذكرنا، ولأن الأصل في الشروط الصحة إلا إذا دل دليل على فسادها، ولا دليل هنا على ذلك، بل يحقق غرضاً مشروعاً، وقد ذكر الكاساني أن العاقد سمي في اليوم الأول عملاً معلوماً، وبدلاً معلوماً، وكذلك في اليوم الثاني، فلا معنى إذن لفساد الشرط فضلاً عن فساد العقد، ولأنه سمى لكل عمل عوضاً معلوماً كما لو قال: كل دلو بثمر، إضافة إلى أن التعجيل والتأخير مقصودان فينزل منزلة اختلاف النوعين.
وأجاز مالك أن تكون الأجرة الكسوة بأن يستأجره على أن يكسوه أجلاً معلوماً، وبالمقايضة بأن يدفع خمسين جلداً على أن تدبغ خمسين أخرى مثلاً، ولم يجيزوا الكراء بمثل ما يتكارى الناس للجهالة، ولا إكراء الدابة بنصف الكراء. وإذا عمل فله أجرة مثله، وأجازه يحيى بن سعيد، وكذلك أجاز أن يقول: احتطب على الدابة، ولي نصف الحطب، أو لي نقلة، ولك نقلة (والأخيرة أجازها الجميع لأن مقدار النقلة معلوم عادة، ومقدار الحطب يختلف)، وجوز ابن القاسم: اعمل عليها اليوم لي، وغداً لك، وأجاز أشهب: احمل طعاماً إلى موضع كذلك ولك نصفه، وأجازوا كذلك أن تختلف الأجرة من شهر أو يوم إلى آخر بأن تكون أجرته في الشهر الأول خمسة، وفي الثاني ستة أو بالعكس.
وعند الحنفية أن الأجرة إذا كانت عبارة عن النفقة والمؤنة ووصفتا وصفاً نافياً للجهالة فالإجارة صحيحة، وإلا فهي إجارة فاسدة عند الصاحبين، يثبت بها أجر المثل إنْ تم الانتفاع، وعند أبي حنيفة صحيحة استحساناً.
عدم تسمية الأجرة، ثم التراضي:
أجاز مالك في رواية لابن يونس عنه عدم ذكر الأجرة في العقد، ثم إرضاء الأجير، وهذا مبني على العرف، وعلى أن الأساس هو التراضي.
الأجرة بالاستصحاب:
ذكر الإمام الشيباني مسألة جديرة بالذكر، وهي أنه لو تم الاتفاق على تأجير دار -مثلاً- لمدة سنة، ثم استمر المستأجر في الانتفاع بها شهراً آخر مثلاً (فإن أبا حنيفة كان يقول في هذا: لا يأخذ الأجر إلاّ في آخر السنة، ثم قال بعد ذلك يأخذ الأجر لكل يوم بحسابه، وهو قول أبي يوسف ومحمد).
وهذا يدل على استمرار عقد الإجارة بالاستصحاب، واحتساب الأجرة على أساس العقد السابق من حيث الزمن والمقدار.
والخلاصة أن الشرط الأساسي في الأجرة هو أن تكون معلومة علماً يدرأ جهالة مؤدية إلى النزاع من خلال التعيين، أو الوصف ببيان الجنس، والنوع والقدر، وذلك للأحاديث الواردة في نفي الغرر والجهالة.;