الحل الأول[1] : من خلال ملكية الشخصية المعنوية لموجودات الشركة .


 


 


 هذا الرأي يقوم على أساس أن الشخصية الاعتبارية هي التي تملك موجودات الشركة ، وليس المساهمين ، وإن هم إلا أصحاب حقوق وملاك للشخصية الاعتبارية ، وحينئذ فليس السهم حصة شائعة من موجودات الشركة وبالتالي لا ينظر إلى موجودات الشركة أبداً ما دام أصل نشاطها حلالاً .


 


 وهذا الرأي تبناه الدكتور محمد علي القري[2] حيث يرى أن : ( جميع الفتاوى المعاصرة حول شركات المساهمة ، وكذلك البحوث الفقهية اعتمدت تعريفاً مفاده أن : ” السهم حصة شائعة في موجودات الشركة ” هذا تعريف صحيح للسهم في شركة العنان ، لكنه ليس كذلك في شركة المساهمة الحديثة ، ومرد هذا الاختلاف أن صفة المسؤولية المحدودة فيها تؤدي إلى توليد شخصية اعتبارية مستقلة عن حملة الأسهم وإلى عزل الملكية عن الإدارة ، إن الفتوى في نوازل شركة المساهمة الحديثة يجب أن تعتمد تصوراً مستمداً من القوانين التي اخترعت هذه الصيغة ، وتلك التي قدمت لها القواعد التنظيمية ، وجميعها تنص على أن المساهم لا يملك موجودات الشركة ، إذ هي شخصية اعتبارية مستقلة عن ملاكها تمتلك بنفسها تلك الموجودات ، فهو يملك سهماً في الشركة فحسب وليس حصة شائعة في موجوداتها ، هذه النقطة في شركة المساهمة أغفلتها كل الدراسات الفقهية المعاصرة ، وهي في نظرنا أهم عنصر في المسألة )[3].


 


   ثمَّ قاس الموضوع برمته على موضوع الرقيق وأحكامه في الفقه الإسلامي فقال:(والسؤال هل لهذا النوع من الترتيبات في الملكية مثيل في شريعة الإسلام ؟ والجواب : نعم : وذلك في ملكية العبيد ، فالعبد شخصية طبيعية تملك المال وتتصرف فيه والسيد يملك العبد ولا يملك مال العبد ، فملكية السيد ناقصة غير مستقرة لمال العبد ، وللسيد خير العبد من دخل وربح ولكن مسؤوليته عن تصرفاته وديونه محدودة بقيمته أو رقبته ، فهي مسؤولية محدودة لكون العبد قادراً على التصرف بصفة مستقلة عن السيد فأشبه فصل الملكية عن الإدارة في شركة المساهمة الحديثة . فإذا جئنا إلى أهم نوازل شركة المساهمة الحديثة وجدنا ما يقابلها في أحكام معاملة العبيد ،فالشركة يكون اصل نشاطها مباحاً وهي قد تعمل أحياناً بالربا ، وهذا شبيه بالعبد المأذون الذي قد يتعاطى الربا ، والشركة يكون غالب أصولها ديوناً ، هل يجوز تداول أسهمها شبيه بالعبد يباع وأكثر ماله ديون؟)


 


ومن جانب آخر حاول الباحث الكريم إظهار فروق جوهرية بين شركة العنان ، والشركة المساهمة حيث قال في ص:16 : ( ولعل المثال التالي يوضح الفرق بين شركة العنان وشركة المساهمة ذات المسؤولية المحدودة ، هب أن مجموعة من الأفراد اشتركوا في تملك عقار يؤجرونه ويقتسمون إيجاره بحسب حصص الملكية المشاعة لكل فرد منهم ، عندئذ فإن هؤلاء الملاك يشتركون في الملك ويتعاونون في الإدارة ، لكنهم لو قاموا بتسجيل شركة ذات مسؤولية محدودة وجعلوا لها ملكية العقار المذكور فإن حصص ملكيتهم عندئذ لا تكون في العقار ” مع أن ذلك العقار هو الأصل الوحيد المملوك للشركة ” بل تكون حصصاً في الشركة تتمثل في أسهمها وهي غير مشاعة بل مقسمة إلى وحدات ، والسؤال هل الصورتان متطابقتان ؟ والجواب إنهما مختلفتان  ففي الصورة الأولى ، كل شريك منهم هو وكيل عن شركائه ” بحكم الشركة ” في التصرف بالملك ، أما في الصورة الثانية ، فإن التصرف في الملك ” العقار ” لا يكون من قبل الشركاء بل قد أنيط بالشركة وهي شخصية قانونية مستقلة عنهم ، ليس لأحد منهم أن يتصرف في أموالها وإن كان لهم تعيين مجلس لإدارة الشركة ، وإن عمل بعضهم فهو يعمل كموظف لا كشريك ، والعقار قد أصبح الآن ملكاً للشركة وهم لا يملكونه بحال .


 


 وفي الصورة الأولى فإن مسؤولية الشركاء غير محدودة فهي ممتدة إلى أموالهم الخاصة لو تحمل العقار ديوناً أو التزامات ، أما في الثانية فإن الديون والالتزامات إنما تكون على الشركة التي هي مستقلة عنهم ، وأقصى ما يمكن أن يخسره الشركاء هو نصيبهم في تلك الشركة ) ، والمثال الذي ذكره ليس لشركة العنان ، بل هو لشركة الملك وبذلك لم يسلم ما بني عليه .


 


  كما ذكر في ( ص: 18 ) مجموعة من الميزات منها أن” نموذج شركة المساهمة الحديثة استطاع أن يجمع المدخرات الصغيرة. ” وهذه الميزة يمكن تحقيقها حتى من خلال شركة العنان ، فلا مانع لو اشترك مجموعة وحددوا مقدار الاشتراك بمبلغ قليل ، ومنها أن الصيغة المذكورة مكنت من إنشاء سوق منظمة للأسهم قللت المخاطر ، ولكن هذه الميزة ليست مؤثرة من الناحية الفقهية لأنها تعود إلى أمور تنظيمية خارجة عن ماهية الشركة .


 


 ومنها “إيجاد السيولة من خلال تداول الأسهم في السوق الثانوية ولم يكن ذلك ممكناً في ظل شركة العنان ” ولكن هذه الميزة مع أنها نتيجة ، وأثر من آثار الشركات الحديثة فهي ليست من جوهر حقيقة السهم ، ولا من أركان شركة المساهمة ، كما أن تنظيم الحصص الشائعة وتنازل الشركاء عن حق الاعتراض ليس هناك دليل يمنع من ذلك .


 


ولذلك فالعناصر المهمة للتفرقة بينهما عي الاعتراف بالشخصية الاعتبارية للشركة ، وأنها هي التي تملك أموال الشركة في القانون ، وأن مسؤولية الشريك فيها مسؤولية محدودة بقيمة السهم فقط دون بقية أمواله ، ولذلك سنركز عليها فيما بعد


 


 


 


تصور الدكتور القري للشركات المساهمة  :


 




  1. أن هناك فروقاً جوهرية بين شركة العنان والشركات المساهمة إضافة إلى أن مرجعية الشركات الحديثة هي القوانين والقواعد المنظمة لها ، ولذلك لا بدّ أن ينظر إليها بهذه النظرة وليست بنظرة الفقهاء ، ومن هنا ” فجميع الفتاوى الصادرة حول شركات المساهمة وكذلك البحوث الفقهية بنيت على تعريف غير صحيح للسهم ، وأغفلت أهم عنصر من عناصر شركات المساهمة وهي صفة المسؤولية المحدودة فيها التي تؤدي إلى توليد شخصية اعتبارية مستقلة عن حملة الأسهم “



  2. أن شراء المساهمين أسهم الشركة المساهمة يجعل المشتري مالكاً وليس شريكاً .



  3. أن الشركات المساهمة لا ينبغي قياسها على شركة العنان للفروق التي ذكرها في (ص : 21 ، 22 ) من بحثه والتي علقنا عليها فيما سبق ، بل أضاف في ( ص:45 ) إلى ما سبق : أن تصور جميع الفتاوى المعاصرة للشركات المساهمة ذات المسؤولية المحدودة يقوم على أن وجه الشبه الأساسي بينها وبين شركة العنان هو الاشتراك بين حملة الأسهم في الملكية ، ولذلك فإن الاكتتاب في الأسهم ما هو إلاّ اجتماع هؤلاء الشركاء لدفع رأس المال وإنشاء الشركة التي لا تقوم حسب هذا التصور إلاّ بعد اتفاقهم على ذلك ، لكن هذا التصور ليس صحيحاً ، ولا ينطبق على الواقع وغير متفق مع حقيقة شركات المساهمة ، ولذلك جاءت الفتاوى التي بنيت عليه مشوشة ومتناقضة أحياناً ، ولا تفي بالغرض , ثم أوضح رأيه من خلال أن حامل السهم في الشركة المساهمة ليس له الحق في أن يتصرف بأي أصل مملوك للشركة ، ولا يملك أي جزء من أصول الشركة ليس لأن حصته مشاعة غير مقسومة ، وإنما لأنه لا يملكها ، لأن موجودات الشركة مملوكة للشركة وليست للمساهمين .



  4. قياس مسائل الشركات المساهمة على مسائل العبيد ، حيث إن هذا القياس يحل جميع المشاكل في نظره .



  5. إن الشركة المساهمة تولد في ظل القانون كشخصية اعتبارية ، ثم تبيع نفسها حصصاً لمن يشتري ، ولذلك نصت القوانين في ولاية نيويورك منذ عام 1912م على جواز إصدار أسهم لا قيمة اسمية لها بل تباع بالمزاد عند إنشاء الشركة .


 


النتائج العملية على هذا التصور :


 


 فقد رتب الدكتور القري على تصوره هذا عدة نتائج من أهمها :النتائج العملية التي رتبها الدكتور القري على رأيه السابق :ـ


 


1 . عدم اعتبار الديون والنقود في الشركات التي توجد فيها ما دامت غير مقصودة بذاتها ، حيث انتقد الباحث كل الفتاوى وقرارات المجامع التي اتجهت إلى أن الشركات التي يكون غالب موجوداتها من الديون والنقود لا يجوز تداول أسهمها بالبيع إلاّ ضمن ضوابط الصرف في حالة النقود ، أو بيع الدين في الحالة الثانية ” ص: 37 من بحثه ” ثم انتقد انتقاداً لاذعاً محاولات الخروج من هذا المأزق من خلال قاعدة : ” للكثير حكم الكل ” ، والاختلاف حول اعتبار الثلث ، أو ما زاد عن 50 % كثيراً ، لأن تطبيقها بالغ التعقيد . ” ص: 39 .


 


 ثم أضاف قائلاً في ص: 39  : ( على أن قياس الشركة على أحكام الرقيق يخرجنا من كل هذا التشويش ، ثم ذكر الحديث الوارد في بيع العبد وهو ” من باع عبداً وله مال فماله للذي باعه إلاّ أن يشترطه ـ المبتاع ـ ) ، وأقوال الفقهاء في أن مال العبد نقداً كان أو ديناً أو عرضاً للبائع إلاّ إذا اشترطه المشتري ثم ختم رأيه بقوله : ( ولا يختلف تداول ملكية الشخصية الاعتبارية ذات المسؤولية المحدودة وأسهم الشركات عما ذكر ، بل هي صورة أخرى من صور البيع التي لا تكون فيها الديون أو النقود مقصودة بذاتها بل هي تابعة ، وهي عندئذ مستثناة من أحكام الربا وأحكام بيع الدين لأن كليهما غير مقصود بذاته ، ولا أثر لهما في هذا العقد ، أما تقييد المسألة بالثلث أو النصف أو الغلبة وما إلى ذلك فلا يقوم على قاعدة صحيحة في المسألة لأن البيع إن كان واقعاً على النقود أو على الديون وهي المحل في العقد ، فلا وجه للقول بالثلث أو النصف أو الاستثناء من أحكام الصرف ، وإن كان واقعاً على الشركة فهي مثل العبد يباع وله مال ) .


 


2 . عدم اعتبار الأنشطة المحرمة كالربا ونحوه ما دام النشاط الأصلي حلالاً ، فقد ذكر أن قياس المسألة على أحكام العبيد يكشف لنا غنى الفقه الإسلامي عما ذكره الفقهاء المعاصرون أو المجامع الفقهية من أن الأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحياناً بالمحرمات ، أو إجازة البعض للإسهام ، أو التعامل في أسهمها بشروط وضوابط لعموم البلوى ، والحاجة العامة التي تنـزل منزلة الضرورة ، أو قاعدة إعطاء الأكثر حكم الكل .


 


 وعلى ضوء رأي الدكتور وقياسه أن المسألة مثل العبد الذي يأذن له سيده بالتجارة فيتجر ويربح وكان يعمل بالربا حيث يجب على السيد التصدق بالفضل إن علم ذلك ، وإن جهل بما يدخل عليه من الفساد استحسن له التصدق بالربح ، كما ذكره ذلك بعض الفقهاء . ص: 42


 


3 . صفة قبض الأسهم ، انتقد في ص:47 تصور الفتاوى المعاصرة وقرارات المجامع في أن لقبض الأسهم صفة خاصة ، وهو أن قبض الكل ينوب عن قبض الجزء ، فردّ على ذلك بأن بيع الأسهم ليس فيه قبض لجزء ولا لكل ، إذ لا تصرُّف لحامل السهم في موجودات الشركة ، فهل يعني ذلك أنه بيع فاسد لا يصح ؟ فإن قيل إن البيع يصاحبه قبض الوثيقة التي تسمى سهماً وهذا يكفي لتحقيق القبض ، ردّ على ذلك بأن التصور الشرعي قام على أن هذه الوثيقة ليست محل عقد بيع السهم ولكنها سند يثبت ملكية البائع لتلك الحصة المشاعة فحسب ، والمحل في بيع السهم هو تلك الحصة الشائعة ولذلك جرت عليها أحكام البيع بالمنع إن كان ما تمثله نقود أو ديون إلاّ بشروط ذلك .


 


4 . “عدم جواز إصدار أسهم ممتازة لها خصائص مالية تؤدي إلى ضمان رأس المال أو ضمان قدر من الربح ،أو تقديمها عند التصفية أو عند توزيع الأرباح ” ، هذا القرار الصادر من مجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته السابعة بجدة عام 1412هـ ، وكذلك الفتاوى الصادرة بهذا الخصوص محل نقد على ضوء تصور الدكتور القري ، حيث يقول في ص:48 : ( لكن واقع شركات المساهمة اليوم يوضح لنا حقيقة مفادها أنه لا تكاد توجد شركة إلاّ ولها أصناف من الأسهم وليس نوعاً واحداً فحسب ، من ذلك مثلاً : شركة المساهمة تصدر أسهما تفضيلية في نفس الوقت أو فيما بعد وينبني على القول بأن السهم حصة الشريك في رأس المال أن الشركة لا تقوم إلاّ بعد دفع الشركاء لرأس المال لأنه بناء على ذلك يتحدد رأس مال الشركة ، والواقع أن الشركة تولد في ظل القانون كشخصية اعتبارية ثم تبيع نفسها حصصاً لمن يشتري ، فيصبح عند شرائه مالكاً وليس شريكاً ، ولذلك فقد نصت القوانين في ولاية نيويورك منذ عام 1912م على جواز إصدار أسهم لا قيمة اسمية لها بل تباع بالمزاد عند إنشاء الشركة ) .


 


 


مناقشة هذا التصور ونتائجه :


 


أولاً : لقد بنى الدكتور القري تصوره هذا على موضوع الشخصية الاعتبارية المستقلة عن حملة الأسهم ، والمسؤولية المحدودة للشركة في ظل هذه الشخصية .


لذلك ينبغي علينا أن نناقش هذين العنصرين المترابطين ، ولا نبغي من وراء المناقشة إلاّ إظهار ما نراه الراجح ، أو الصحيح ، فنقول :


إن شركات المساهمة كانت موجودة في الغرب باعتراف الدكتور القري في ( ص: 13 ) ولم يبح لها النص على المسؤولية المحدودة إلاّ في العقد الثاني من القرن التاسع عشر في بعض الولايات الأمريكية ، ولا في بريطانيا إلاّ في عام 1855م ومع ذلك اشترطت موافقة البرلمان ، وأن القانون المدني المصري السابق لم يكن فيه نص على الشخصية الاعتبارية للشركات المساهمة ولذلك كان القضاء منقسماً تارة يقرر لها الشخصية المعنوية ، وتارة ينكرها عليها إلى أن حسمه القانون المدني الحالي الصادر في عام 1949م ، وكان الأمر على هذا الخلاف في القانون المدني الفرنسي ثم استقر الفقه والقضاء في فرنسا على أن الشركة المدنية تتمتع بالشخصية المعنوية[4].


 


 ولذلك فقد ظهر أن البحث عن إيجاد علاقة بين المكونات للأسهم وبين الشخصية الاعتبارية أو المعنوية لا يؤدي إلى نتيجة مناسبة لحل المشاكل الناجمة عن نوعية هذه المكونات وتأثيرها على التكييف الشرعي أو الفقهي للأسهم والتصرف فيها ، وذلك لأن الأسهم ، والشركات المساهمة طبقت في بلدان مختلفة ، ولعشرات السنين قبل أن تفرض لها شخصية اعتبارية فظهر أنه لا تلازم بينهما ، وبالتالي فلا يصح ما قيل من بناء أحكام الأسهم التي ذكرها الكاتب على الشخصية الاعتبارية ، ومن جانب آخر فإن الشخصية المعنوية لم تنشأ في ظل القوانين الوضعية إلاّ حيلة قانونية لمشكلة المسؤولية اللامحدودة للشركات العادية التي ترتبت عليها نتائج خطيرة في ظل القيم الأخلاقية والدينية ، حتى كانت بعض القوانين مثل قانون الشركات في بريطانيا الصادر عام 1844م بنصّ على أن المسؤولية فيها غير محدودة ، وظل الأمر كذلك في ولاية كاليفورنيا التي هي من أغنى الولايات الأمريكية إلى عام 1931م ، مما دفع بالناس إلى الاحجام عن المشاركات ليس خوفاً من ضياع رأس المال فقط ، وإنما الخوف من ضياع جميع أموال الشريك قاطبة لو وقعت الشركة في خسائر كبيرة ، حيث كانت الشركات السابقة كلها تضامنية ” من حيث المبدأ ” ، ولذلك حينما فشلت بريطانيا في جمع الأموال الكافية لتمويل مشروع السكك الحديدية بسبب خوف الناس من المسؤولية المطلقة أصدرت قانوناً عام 1855م يجيز النصّ على المسؤولية المحدودة بموافقة البرلمان .


 


  فهذه الشخصية الاعتبارية للشركات أوجدتها ضرورات الحياة الاجتماعية والاقتصادية ، ولم تكن موجودة في ظل القانون الروماني إلاّ في العصور المتأخرة ، ومع ذلك لم يعترف بها إلاّ للشركات التي كانت الدولة الرومانية تتنازل لها عن حق تحصيل الأتاوات المفروضة لها وشركات استغلال مناجم الذهب والفضة ، والتي كانت تقوم في صورة توصية ، وأما عدا ذلك فلم يتصورها لشيء آخر ، فقد كان المحشون الأوائل للقانون الروماني لم يتصوروا كون الشخص المعنوي شخصاً قانونياً قائماً بذاته منفصلاً عن ذمم الأشخاص المشتركين ومن ثمَّة لم يكن في خلدهم تصور ملكية لكائن قانوني جديد ، منفصلة عن ملكية هؤلاء الأشخاص غير أنهم وصلوا إلى أن الديون تقع في ذمم المشتركين بالإضافة إلى أن ذمة الجماعة تضمنها ، ثم تأثر بهم المحشون اللاحقون واعتبروا أن أموال الشخص المعنوي ترد عليها ملكيتان ملكية الشخص المعنوي نفسه ، وملكية احتياطية للجماعة المشتركة في تكوينه ، فحينئذ يسأل الشخص عن ديونه بصفة أصلية ، ويسأل عنها الأشخاص بصفة احتياطية ، ثم تطورت الظروف الاجتماعية والاقتصادية وبدأت مشاكل كثيرة وصعوبات جمة تظهر للدائنين للشركة كما أصبحت الكنيسة تمتلك أموالاً كثيرة فخطا الكنسيون خطوة هامة بهذا الخصوص واعتبروا الشخص المعنوي كائناً قانونياً منفصلاً عن الأشخاص الذين يكونونه ، ثم امتدَّت فكرة الشخص الاعتباري لتشمل الدولة ، والهيئات والشركات والجمعيات وأصبحت كائناً قانونياً يعيش حياة مستقلة عن الأشخاص المكونين لها.


 


وقد كانت الدولة في البداية وراء وصول القانون إلى هذه الفكرة حيث كانت تلاقي صعوبات جمة في كيفية تحصيل الضرائب من الشركاء المكونين للشركة من حيث الإشراف عليهم ، ومحاسبتهم بالتالي أخذ الضرائب منهم ولذلك جاء الاعتراف بالشخصية المعنوية من خلال منحها بعض خصائص الشخصية الطبيعية أهمها تصور ذمة مالية لها منفصلة عن ذمم الأشخاص ، ليسهل للدولة الوصول إلى تحقيق مآربها من تحصيل الضرائب بصورة ميسرة ولذلك نرى أنها ظهرت أول مرة في الشركات التي تنازلت لهل الدولة في جمع الضرائب بالإضافة إلى تحقيق التعاون المستمر الذي لا ينتهي بعمر أحد الشركاء إذن فقد تمَّ هذا الاعتراف بحيلة قانونية )[5] .


 


 فالقانون يعترف بهذه الشخصية المستقلة ، حتى يكون للشركة كيان خاص وحياة مستقلة عن حياة الأعضاء فيها ، فحقوقها غير مختلطة بحقوق الأعضاء ، كما وأن التزاماتها منفصلة عن التزاماتهم[6].


 


 ومن جانب آخر فإن جمهور القانونيين على أن الشخصية الاعتبارية ليست على سبيل الحقيقة بل هي على سبيل الفرض ، ولذلك يحل محلها نائب يعبر عن إرادتها ” 53م م فقرة 3 ” ، بل أكثر من ذلك فإن بعض علماء القانون الوضعي قد أخذ بهذا التكييف الشرعي للشركة في تحديد مركز الأشخاص الطبيعيين من الشخص المعنوي وجعلوهم وكلاء عنه ، يقول الأستاذ الدكتور ثروت عبدالرحيم : (بل إن التصوير التقليدي لهذا المركز يقوم على فكرة الوكالة ، ولذلك درج القضاء على اعتبار المدير وكيلاً عنه وإن كان قد انتقد هذا الاتجاه بأن الوكالة تحتاج إلى إرادتين ، والشخص المعنوي لا إرادة له ، غير أنه قد أجيب عنه بأن للشخص المعنوي إرادة جماعية مستقلة عن إرادة الأشخاص المكونين له ، بل إن بعضهم قد أعتبر الشخص المعنوي كالشخص الطبيعي ، فكما أن الشخص الطبيعي يتكون من عدة خلايا فكذلك الشخص المعنوي يتكون من الأفراد الذين هم بمثابة الخلايا في تكوينه ، ومهما كان من الأفراد فإن الفقه الوضعي لا يهدر دور الأشخاص المكونين للشخص المعنوي ، ولا يهمل إرادتهم ، وبذلك يقترب من الفقه الإسلامي الذي أعطى الاعتبار الأول للأشخاص باعتبارهم وكلاء متضامنين ، أي أنهم بنيان قانوني واحد ينوب كل واحد مقام الآخر في تحقيق أهداف الشركة ، ويلزمه ما التزم به الآخر)[7].


 


 والخلاصة أن الشركاء هم الذين أنشأوا الشركة كما أن لهم الحق في إنهائها وفسخها ، إذن فهم الذين أنشأوا الشخصية المعنوية للشركة التي تتمتع بذمة مستقلة ولكنها في حدود أغراض الشركة التي وضعها الشركاء المؤسسون ويطلق على هذا الأمر مبدأ التخصص الذي يحدّ ، أو يقيد من أهلية الوجوب للشخص المعنوي ويجعل تصرفات الشركة وحقوقها تقتصر على ما هو لازم لتحقيق الغرض الذي تكونت من أجله ، وهذا ما يجعل الشخص المعنوي مختلفاً عن الشخص الطبيعي الذي يستطيع أن يقوم بجميع التصرفات دون تقييد إلاّ في حدود القانون[8] .


 


 كما أن الشركاء هم الذين يحددون من يمثل هذه الشخصية المعنوية من خلال اختيارهم لمجلس الإدارة الذي هو ينوب عنها أو هو ينيب المدير ، أو الإدارة بالقيام بالواجب ، وقد نصّ قرار لمحكمة استئناف مصر على أن ( القواعد القانونية أباحت للشريك أن يدير مال الشركة بالتوكيل عن بقية الشركاء ويعد نائباً لهم أصالة عن نفسه ، وبالنيابة عنهم )[9] . وقد نصت المادة ” 53 مدني مصر ” على أن الشخص الاعتباري ” يكون له نائب عن إرادته ” .


 


 وأن المقصود بالذمة المالية المستقلة لا يعني أن المساهمين لم تبق لهم علاقة بموجودات الشركة ، ولذلك تعود إليهم عند التصفية ، وإنما يعني أنهم تنازلوا عن الأمور الإدارية لصالح الشخصية المعنوية التي تتمثل في مجلس الإدارة ، أو الإدارة ، وأن هذه الذمة هي الضمانة العامة لدائني الشركة ، وأن الشركة ليست لها علاقة بالتزامات الشركاء حتى تسير الأمور بدقة وانتظام ودون خلط بين التزامات الشركة ، والتزامات الشركاء ، ذلك الخلط الذي تسبب في عرقلة الشركات في السابق وعدم تطويرها وعدم تشجيع الناس عليها بسبب الخوف من آثار المسؤولية المطلقة[10].


 


 وقصدي من ذلك أن ما قرره القانونيون من استقلال ذمة الشركة وآثارها لا يعني البتة أن الشركاء قد انقطعت صلتهم بالشركة حتى عن طريق النيابة ، وإلاّ حتى لو قلنا : إن أموال الشركة ملك للشركة ، أو للشخصية الاعتبارية ، يرد سؤال آخر : فمن يملك الشركة ، أو الشخصية الاعتبارية ؟ إذا كان من المجمع عليه بين العقلاء جميعاً أن الشخصية الاعتبارية ليست لها إرادة بذاتها ، وإنما كل ما يمكن القول : أنها أمر اعتباري له آثاره وخصوصيته يمثله الشخص الطبيعي ، فهي مثل ما نسميه في الفقه الإسلامي الذمة التي هي أمر اعتباري أو حتى الملكية ونحوها.


 


 والذي نراه هو أن هذه الأمور من فصل الإدارة عن الشركاء ، وكون المسؤولية م