الفصل الأول : حكم التأمين التجاري ( التأمين بقسط ثابت ) :

  ذكرنا في الباب الأول حقيقة التأمين التجاري ، وأركانه ، وأسسه الفنية ، وآثاره ، ونذكر هنا حكمه الشرعي وآراء الفقهاء المعاصرين فيه ، وأدلتهم .

  ومن المعروف أن عقود التأمين لم تكن موجودة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا في عصر الخلفاء الراشدين ، ولا في عصور المذاهب الفقهية ، وإنما نشأت خلال القرون الأخيرة .

استعراض تأريخ الفتاوى الخاصة بالتأمين :

  وقد صرت حوله مجموعة من الفتاوى والآراء الكثيرة بين الحل المطلق والتحريم المطلق ، أو التفصيل فيه ، كما صدرت بعض الفتاوى التي يظهر منها أنها لا تنطبق على التأمين ، وإنما صور لأصحابها أن التأمين عبارة عقد المضاربة ، فصدرت الفتوى بأن عقد المضاربة مشروع ، كما صدرت بعض الفتاوى التي بينت على أن التامين لبض الحالات ضروري ، فصدرت الفتاوى المؤقتة المرتبطة بهذا الاعتبار ، وهكذا… .

  ولذلك أرى من الضروري لاستيضاح هذه الفتاوى والآراء الخاصة بالتأمين مع بيان ظروفها وملابساتها التي أحاطت بهذا قدر الإمكان .

1. أولى الفتاوى الصادرة :  في اعتقادي أن أولى الفتاوى في هذا الصدد هو الفتوى التي صدرت من العلامة أحمد بن يحيى المرتضى (ت840هـ) حيث جاء في كتابه القيم : البحر الزخار : أن ضمان ما يسرق أو يغرق باطل[1] .

   وهذا الجواب ينطبق تماماً على التأمين البحري ، والتأمين ضد الحريق ، وقد أشار بعض الباحثين إلى أن هذا الاحتمال لا يعضده أي دليل قوي على أن موضوع التأمين كان معروفاً في هذا العصر بين الفقهاء المسلمين[2] ، ولكن الذي يظهر أن هذا الاحتمال وارد مقبول ولا سيما أن التأمين البحري كان موجوداً ومنتشراً في الغرب قبل عصر العلامة ابن المرتضى ، وأن اليمن تطل على البحر ، وكان لها ميناء بحري يتعامل مع العالم الغربي الذي كان التأمين البحري فيه سائداً ، وبالتالي فلا يستبعد أن يرد السؤال عنه ، فيجيب عنه ـ كما رأينا ـ .

   وإذا أثبت هذا فإن أول عالم تطرق إلى أحكام عقود التأمين بصورة مجملة هو العلامة أحمد بن يحيى المرتضى ، ولكن الذي لا غبار عليه هو أن أول فقيه تحدث عنها هو العلامة ابن عابدين[3] (ت1252هـ) في حاشيته “رد المحتار على الدر المختار” حيث قال : (وبما قررنا ـ من عدم جواز اخذ مال الكافر الحربي بعقد فسد ، وجوازه في دار الحرب رضاه ولو بربا ـ يظهر جواب ما كثر السؤال عنه في زمننا ، وهو أنه جرت العادة أن التجار إذا استجأورا مركباً من حربي يدفعون له أجرته ، ويدفعون أيضاً مالاً معلوماً لرجل حربي مقيم في بلاده ، ويسمى ذلك المال سوكرة على أنه مهما هلك من المال الذي في المركب بحرق أو غرق أو نهب او غيره فذلك الرجل ضامن له بمقابلة ما يأخذه منهم ، وله وكيل عنه مستأمن في في دار يقيم في بلاد السواحل الإسلامية بإذن السلطان يقبض من التجار مال السوكرة ، وإذا هلك من مالهم في البحر شيء يؤدى ذلك المستأمن للتجار بدله تماماً) ثم قال : (والذي يظهر لي انه لا يحل للتاجر أخذ بدل الهالك من ماله ، لأن هذا التزام ما لم يلزم…..) ثم بعد مناقشة جادة لعدة أفكار حول هذا الموضوع قال : (فاغنمه فإنك لا تجده في غير هذا الكتاب)[4] .  

  وقد ناقش ابن عابدين بعض الشبهات التي أثيرت ، فقال : (فإن قلت أن المودع إذا أخذ أجرة على الوديعة يضمنها إذا هلكت قلت مسئلتنا ليست من هذا القبيل لأن المال ليس في يد صاحب السوكرة بل في يد صاحب المركب وإن كان صاحب السوكرة هو صاحب المركب يكون أجيراً مشتركاً قد أخذ أجرة على الحفظ وعلى الحمل وكل من المودع والأجير المشترك لا يضمن ما لا يمكن الاحتراز عنه كالموت والغرق ونحو ذلك فإن قلت سيأتي قبيل باب كفالة الرجلين قال لآخر اسلك هذا الطريق فإنه آمن فسلك وأخذ ماله لم يضمن ولو قال إن كان مخوفاً وأخذ مالك فأنا ضامن من ضمن وعلله الشارح هناك بأنه ضمن الغار صفة السلامة للمغرور نصاً أي بخلاف الأولى فإنه لم ينص على الضمان بقوله فأنا ضامن وفي جامع الفصولين الأصل أن المغرور إنما يرجع على الغر لو حصل الغرور في ضمن المعاوضة أو ضمن الغار صفة السلامة للمغرور فصار كقول الطحان لرب البر اجعله في الدلو فجعله فيه فذهب من النقب إلى الماء وكان الطحان عالماً به يضمن إذ غره ضمن العقد وهو يقتضي السلامة ، قلت لا بد في مسئلة التغرير من أن يكون الغار عالماً بالخطر كما يدل عليه مسئلة الطحان المذكورة وأن يكون المغرور غير عالم إذ لا شك أن رب البر لو كان عالماً بنقب الدلو يكون هو المضيع لما له باختياره ولفظ المغرور ينبئ عن ذلك لغة لما في القاموس غره غراً وغروراً فهو مغرور وغرير خدعه وأطمعه بالباطل فاغتر هو ولا يخفى أن صاحب السوكرة لا يقصد تغرير التجار ولا يعلم حصول الغرق هل يكون أم لا وأما الخطر من اللصوص والقطاع فهو معلوم له وللتجار لأنهم لا يعطون مال السوكرة إلاّ عند شدة الخوف طمعاً في أخذ بدل الهالك فلم تكن مسئلتنا من هذا القبيل أيضاً نعم قد يكون للتاجر شريك حربي في بلاد الحرب فيعقد شريكه هذا العقد مع صاحب السوكرة في بلادهم ويأخذ منه بدل الهالك ويرسله إلى التاجر فالظاهر أن هذا يحل للتاجر أخذه لأن العقد الفاسد جرى بين حربيين في بلاد الحرب وقد وصل إليه مالهم برضاهم فلا مانع من أخذه وقد يكون التاجر في بلادهم فيعقد معهم هناك ويقبض البدل في بلادنا أو بالعكس ولا شك أنه في الأولى أن حصل بينهما خصام في بلادنا لا يقضي للتاجر بالبدل وإن لم يحصل خصام ودفع له البدل وكيله المستأمن من هنا يحل له أخذه لأن العقد الذي صدر في بلادهم لا حكم له فيكون قد أخذ مال حربي برضاء وأما في صورة العكس بأن كان العقد في بلادنا والقبض في بلادهم فالظاهر أنه لا يحل له أخذه ولو برضى الحربي لابتنائه على العقد الفاسد الصادر في بلاد الإسلام فيعتبر حكمه هذا ما ظهر لي في تحرير هذه المسئلة)[5].   

  وخلاصة ما يدل عليه كلام ابن عابدين أن عقد التأمين بصورته الراهنة باطل ، لكنه إذا وقع في ديار غير الإسلام فإنه يجوز للمسلم أن يأخذ بدل الهالك من الكافر الحربي إذا رضي بناء على رضاه ، وليس على كون العقد صحيحاً [6]، وهذا رأي أبي حنيفة ومحمد في أموال الحربي في دار الحرب [7]. 

 ولا شك أن هذه التفرقة بين بلاد الإسلام وغير الإسلام في أحكام المال غير مسلمة خالف فيها أبو حنيفة ومحمد جماهير الفقهاء من المالكية ، والشافعية ، والحنابلة ، وأبي يوسف ، وبعض فقهاء الحنفية…الذين أوجبوا على المسلم الالتزام بأحكام الإسلام حيثما كان[8] .

2. أسند إلى الشيخ محمد عبده القول بالجواز :  ولكن التحقيق هو أن فتواه حول جواز المضاربة ، وليست حول التأمين ، وهذا نص ما هو مذكور في دار الإفتاء المصرية : (المستر هوررسل مدير شركة ميوتوال ليف الأمريكية استفتى دار الإفتاء بمصر في رجل يريد أن يتعاقد مع جماعة (قومبانية) مثلاً ، على أن يدفع لهم مالاً من ماله الخاص على أقساط معينة ليعملوا فيها بالتجارة ، واشترط عليهم : أنه إذا قام بما ذكر ، وانتهى زمن الاتفاق المعين ، بانتهاء الأقساط المعينة ، وكانوا قد عملوا في ذلك المال ، وكان حياً ، أخذ ما يكون له من المال ، مع ما يخصه من الأرباح ، وإذا مات في أثناء تلك المدة يكون لورثته ، أو لمن له حق الولاية في ماله ، أن يأخذوا المبلغ ، وتعلق مورثهم مع الأرباح فهل مثل هذا التعاقد ـ الذي يكون مفيداً لأربابه ، بما ينتجه لهم من الربح ـ جائز شرعاً ؟ نرجو التكرم بالإفادة .

 فأجاب الأستاذ : الإمام محمد عبده ، في شهر صفر سنة 1321هـ / إبريل 1903م بقوله : لو صدر مثل هذا التعاقد بين ذلك الرجل ، وهؤلاء الجماعة ، على الصفة المذكورة كان ذلك جائزاً شرعاً ، ويجوز لذلك الرجل بعد انتهاء الأقساط ، والعمل في المال وحصول الربح ، أن يأخذ ـ لو كان حياً ـ ما يكون له من المال ، مع ما يخصه من الربح وكذا يجوز لمن يوجد من بعد موته ، من ورثته أو من له ولاية التصرف في ماله بعد موته أن يأخذ ما يكون له من المال ، مع ما أنتجه من الربح . والله أعلم) .

   وبهذا يتبين أن الإمام محمد عبده سُئل عن صورة مضاربة صحيحة بالاتفاق فأجاب بالصحة والجواز ، ولم يتطرق إلى حكم التأمين لا من قريب أو بعيد ، ولذلك يقول الشيخ محمد أحمد فرج السنهوري رحمه الله : ( وأيا ما كان ، فإن الأستاذ الإمام ليست له فتوى ، ولا رأي معروف في أي نوع من أنواع التأمين …. )[9] .

3. قرار محكمة مصر الشرعية الكبرى عام 1906م : في 4 ديسمبر 1906م قررت محكمة مصر الشرعية الكبرى أن دعوى المطالبة بمبلغ التأمين على الحياة (دعوى غير صحيحة شرعاً ، لاشتمالها على ما لا تجوز المطالبة به شرعاً) ثم أقرت المحكمة العليا الشرعية في الاستئناف المرقم 51 المقدم في 24 ديسمبر 1906م بصحة القرار الصادر من المحكمة الكبرى ، ورفض الاستئناف ، وأن الاستئناف غير مقبول[10]،وتكرر مثل ذلك في المحكمة العليا الشرعية في28 مارس 1931م.

وقد بنت المحكمتان الرفض على أساس المخاطرة التي لا تجوز شرعاً .

4. رأي الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية عام 1906م :   حيث ذكر في رسالته (أحكام السوكورتاه) التي طبعت عام 1906م ، ان عقد التأمين فاسد ، وأن سبب فساده يعود إلى الغرر والخطر ، وما فيه معنى القمار .

5. قرار المجلس الأعلى للأوقاف : كان المجلس الأعلى للأوقاف يرفض بصورة مستمرة ومتكررة التأمين على الأعيان الموقوفة بناءً على رأي أعضائه على التوالي من كبار العلماء أمثال الشيخ سليم مطر البشري الفقيه المالكي والمحدث الكبير شيخ الأزهر ، والشيخ حسونة النواوي الفقيه الحنفي شيخ الأزهر ، والشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية ، والشيخ بكري عاشور الصرفي الفقيه الحنفي مفتي الديار المصرية ، والشيخ محمد بخاتي الفقيه الحنفي مفتي ديوان الأوقاف ، الذي حينما أراد مقدم المذكرة بالتأمين على الأعيان الموقوفة ضد الحريق رفض عرضها عليه ، وقال : (إن الشركة المؤمنة تقع تحت حكم الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ….) وحينما ألح مقدم هذه المذكرة على الشيخ ليلقي نظرة على المذكرة قال له الشيخ : (قسماً بالله العظيم : إن أنت قدمتها لي ، لأضربن بها عرض الحائط)[11] .   

   يقول الشيخ محمد فرج السنهوري : ( والمروى عن شيوخنا الأربعة الكبار ـ أي  المذكورين آنفاً ـ هو عدم جواز التأمين على الأعيان من الحريق …. وما أعلنه الشيخ بخاتي (مفتي الديوان وثيقة الصلة بهم) ان رأي الجميع واحد ، وأن عدم جوازه عندهم هو أن في التأمين أكل أموال الناس بالباطل ، لأن أكلها ليس في مقابلة عمل ، والرضا وعدمه لا دخل له في ذلك عندهم ، وأيا ما كان الأمر فإن موقف الشيوخ الكبار في المجلس الأعلى أكبر دليل على أن ما ألصق بالأستاذ الإمام محمد عبده في صدد التأمين ليس إلاّ زوراً وبهتاناً)[12] .

  وبعد هؤلاء جاء الشيخ عبدالرحمن محمود قراعة الأديب والفقيه الحنفي مفتي الديار المصرية حيث أفتى في 15 يناير 1925م بان عمل شركات التأمين على الوجه المبين في السؤال غير مطابق لأحكام الشريعة الإسلامية[13] .

6. وذكر الأستاذ محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي أستاذ العلوم العالية بالقروبين في ذيل كتابه : الفكر السامي : مسألة التأمين الذي عمت به البلوى ، وقال : إن ثلاثة من المفتين أفتوا بتحريم التأمين ، ثم ردّ عليهم ورأى أن التأمين على الأموال جائز ، ولكن التأمين على الأنفس حرام ، لأنه تامين لا تدعو إليه ضرورة ولا حاجة فيكون ممنوعاً على الأصل[14] . 

  ويفهم من هذا التعليل أن جوازه للتأمين كان لأجل ضرورة ، أو حاجة عمت بها البلوى.

  ثم جاء الشيخ عبدالله صيام فنشر في عام 1351هـ ـ 1932م رأيه بالجواز[15] فكان هذا الصوت أول صوت جرئ بمصر يصدر من عالم شرعي بجواز التأمين ، ثم جاء الشيخ عبدالوهاب خلاف فأجازه أيضاً في 1374هـ ـ 1954م [16].

7. ثم كتب الشيخ أحمد إبراهيم الفقيه ، وأستاذ الفقه بمدرسة القضاء الشرعي ، وكلية الحقوق بالقاهرة : بحثاً موسعاً حول التأمين على الحياة انتهى إلى تحريمه ، ولكن جميع أدلته واستدلالاته تدل على حرمة التأمين مطلقاً[17] .

8. وفي عام 1961م وجهت صحيفة الأهرام الاقتصادي إلى علماء الشريعة ورجال القانون سؤالاً عن حكم التأمين والأسهم والسندات ، ثم نشرت آراء الشيوخ : أبو زهرة ، ومحمد المدني ، ومحمد يوسف موسى ، وأحمد الشرباصي تحت عنوان (حلال أم حرام) فكان رأي الشيخ محمد المدني : (إن هذه المسألة ينبغي أن لا تترك لفرد يفتي فيها ، بل يجب أن يجمع لها المختصون ، وأهل الفكر من العلماء ورجال الاقتصاد في مختلف النواحي ليدرسوها دراسة عميقة ، ويخرجوا برأي مجمع عليه ، فإن هذا وحده هو الذي يستطيع أن يناهض الإجماع المشهور لدى العلماء بالتحريم… )[18] .  

  وأما رأي الدكتور محمد يوسف موسى أستاذ الشريعة بكلية الحقوق فهو : جواز التأمين بناء على أنه تعاون ، ورأي الشيخ أحمد الشرباصي هو الحكم عليه بالحرمة إلاّ لحالة الضرورة فيعمل به مؤقتاً مع وجوب العمل على التخلص منه[19] .

  وأما رأي الشيخ أبو زهرة فهو القول بالتحريم ، ثم جمع فيما بعد رأيه منسقاً ومرتباً في مذكرته بعد حضوره ندوة دمشق عام 1961م ، حيث  انتهى إلى أن المذاهب الإسلامية القائمة لا يوجد فيها من العقود التي تجيزها ما يتشابه مع عقد التأمين ، أيا ما كان نوعه ، وإلى أن قاعدة (الأصل في العقود والشروط الإباحة لا تكفي لإباحة التأمين لاشتماله على أمور غير جائزة ، وهي الغرر والقمار ، وأنه عقد لا محل له ، وفيه التزام ما لا يلزم ، وليس فيه تبرع واضح ، بل هو في نظر أهله قائم على المعاوضة ولا مساواة فيه ، فأحد طرفيه مغبون لا محالة ، وأنه لا توجد حاجة ولا ضرورة تدعو إلى التأمين مع قيام الأسباب المحرمة …. مع إمكان دفع الحاجة بما ليس محرماً ، وإلى أن الربا في يلازم التأمين على النفس ، ومن وسائل الاستغلال عند الشركات الإقراض بفائدة ، وليس عملها من باب المضاربة[20] . 

9. وفي عام 1961م عقد أسبوع الفقه الثاني[21] بدمشق في الفترة 1ـ6/4/1961 وكان عقد التأمين من بين موضوعاته الأربعة حيث تحدث فيه من علماء الشريعة الشيخ أبو زهرة الذي حرّمه ما دام قائماً على المعاوضة ـ كما سبق ـ والشيخ الصديق محمد الأمين الضرير الذي حرمه أيضاً لأجل الغرر حيث أطال فيه النفس ، والأستاذ مصطفى الزرقا الذي أجازه إذا كان خالياً عن الربا ، والشيخ عبدالله القلقيلي مفتي الأردن الذي حرّمه بجميع أنواعه[22] .

  وفي عام 1962 كتب الشيخ عيسوي أحمد عيسوي أستاذ الشريعة بحقوق عين شمس بحثاً مفصلاً نشر في يوليه 1962 حول التأمين في الشريعة والقانون وانتهى إلى حرمة التأمين التجاري بكل أنواعه ، وإباحة التامين التعاوني[23] ، وقد ناقش المجيزين للتأمين التجاري مناقشة علمية مفصلة طالت كل أدلتهم وشبهاتهم فردها بأدلة علمية واستدلالات فقهية عميقة .

  وفي ربيع الآخر 1385هـ أغطسطس 1965م نشر الدكتور محمد البهي عضو المجمع ووزير الأوقاف وشؤون الأزهر سابقاً ، كتابه (نظام التأمين في هدي أحكام الإسلام وضرورات المجتمع المعاصر) فأجازه ، ولكن عند التعمق فيما كتبه فهو أجز التأمين التعاوني ، وليس التأمين التجاري حيث قال : ( إنه عقد تكافلي جماعي بين المستأمنين ، وعقد المضاربة بين جماعة المستأمنين كطرف ، وبين الشركة أو الحكومة كطرف آخر ، فشركة التأمين ليست إلاّ وكيلة عن طرفي عقد التكافل ، أو مفوضة منهما في تنفيذه بتحصيل الأقساط واستثمار الأموال المحصلة وتسوية التعويضات ، ولها نظير علمها جُعْلٌ تقتطعه تحت يدها من أموال المشتركين ، وغلات هذه الأموال ، فعقد التأمين كأنه قد تضمن عقدين : عقد التكافل ، والمشاركة في دفع الضرر عند الملمات وعقد الوكالة والمضاربة) .

  فهذا الوصف الدقيق للتأمين الذي أجازه لا ينطيق على التأمين التعاوني ـ كما سيأتي ـ ولا ينطبق أبداً على التأمين التجاري الذي تصبح فيه الشركة أصيلاً وليست وكيلة ، وأن الأقساط تصبح مملوكة لها بالعقد ، وأنه ليس هناك مجال في التأمين التجاري للحديث عن الاستثمار في أموال المشتركين ، لأنها تصبح مملوكة لها .

10. وفي المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية المنعقد في المحرم وصفر من عام 1385هـ مايو ويونيو 1965م بحث المؤتمر موضوع التأمين ، وقدم فيه الشيخ علي الخفيف عضو المجمع بحثاً ضافياً أجاز فيه التأمين ، ولكن المؤتمر شكل لجنة خاصة وهي لجنة البحوث الفقهية ، ثم انتهى المؤتمر إلى القرارات الآتية :

  1. التأمين الذي تقوم به جمعيات تعاونية ، يشترك فيها جميع المستأمنين ، لتؤدي لأعضائها ما يحتاجون إليه من معونات وخدمات : أمر مشروع ، وهو من التعاون على البر .

  2. نظام المعاشات الحكومي ، وما يشبهه من نظام الضمان الاجتماعي ، المتبع في بعض الدول ، ونظام التأمينات الاجتماعية المتبع في دول أخرى ، كل هذا من الأعمال الجائزة .

  3. أما أنواع التأمينات التي بها الشركات ـ أيا كان وضعها ـ مثل : التأمين الخاص بمسؤولية المستأمن ، والتامين الخاص بما يقع على المستأمن من غيره ، والتأمين الخاص بالحوادث التي لا مسئول فيها ، والتامين على الحياة وما في حكمه ، فقد قرر المؤتمر الاستمرار في دراستها ، وباسطة لجنة جامعة لعلماء الشريعة ، وخبراء اقتصاديين واجتماعيين ، مع الوقوف ـ قبل إبداء الرأي ـ على آراء علماء المسلمين في جميع الأقطار الإسلامية ، بالقدر المستطاع .

  4. وقد طلب من اللجنة السابقة  أن تستمر في دراسة هذا الموضوع ، على أن تستعين في دراستها له بمن ترى الاستعانة بهم من علماء الشريعة الإسلامية ، ومن الخبراء الذين أشار إليهم المجمع ، وقد استعانت اللجنة بثلاثة من العلماء : أحدهم مالكي ، والآخر شافعي الثالث حنبلي ، كما استجابت لدعوتها نخبة كافية من الاقتصاديين والاجتماعيين ، وتوالت اجتماعات هذه اللجنة ، وفي أكثر من سبعة عشر اجتماعاً ـ درست فيها هذا الموضوع من جميع نواحيه ، واتضحت جميع المفاهيم ، وقام الشرعيون في اللجنة بتطبيق أحكام المذاهب المختلفة ، وما تقتضيه في هذا الموضوع .

11. وفي المؤتمر الثالث للمجمع ، المنعقد في 13 رجب سنة 1386هـ 27 اكتوبر 1966م قدم التقرير الثاني للجنة مشتملاً على موجز واضح ، لأصل البحث ، وعلى نتيجة الدراسة الاقتصادية والاجتماعية ، وعلى ما تضمنته المذكرات التي وضعها أعضاء اللجنة الشرعيون ، في تطبيق المذاهب المختلفة ، وعلى ما أممكن الوصول إليه بشأن انتشار التأمين في البلاد الرأسمالية والاشتراكية ، وكل ما يتصل بهذا الموضوع .

  ثم قرر المؤتمر فيما يتعلق بمختلف أنواع التأمين لدى الشركات ، أن يستثمر المجمع استكمال دراسته للعناصر المالية الاقتصادية والاجتماعية المتعلقة به وأن يستمر في الوقوف على آراء علماء المسلمين في الأقطار الإسلامية بالقدر المستطاع ، حتى يتهيأ استنباط أحكام لأنواع هذا التأمين[24] .

  وقد قامت الأمانة العامة لمجمع البحوث باستفتاء تضمن استطلاع آراء الفقهاء في داخل مصر وخارجها من خلال القنوات الرسمية والشعبية ، إلى عمداء كليات الشريعة وأصول الدين ، وإلى المفتيين ووزارات العدل ونحوها ، وقد وصلت إلى عام 1972  أكثر 85 جواباً ، كان من بينها في مصر خمسة إجابات للأزهريين اتفقوا على تحريم التأمين التجاري ، ومن الأردن وصلت رأي الشيخ عبدالله القلقيلي مفتي الأردن حيث حرمه ـ كما سبق ـ ومن اندونيسيا بروفيسور إبراهيم حسن ، رئيس إدارة العلاقات بوزارة الشؤون الدينية بجاكارتا ، الذي حرمه ، ومن سوريا الشيخ عبد الستار السيد مفتي طرسوس ، والشيخ فخر الدين الحسني مدير الفتوى العامة حيث ذكرا في رسالتهما أن التأمين حرام ، ومن العراق الشيخ نجم الدين الواعظ ، الذي قال : ( ليس للتأمين دليل شرعي يستند إليه في حله) وعلامة العراق الشيخ أمجد الزهاوي حيث ذهب إلى : (أن التأمين محرم بجميع أنواعه ، وتأباه القوانين الشرعية بإطلاق من ناحية تعليق الاستحقاق على الخطر ، وهو ممنوع باتفاق الفقهاء ، ولعدم وجود عوض ثابت) وأشار إلى ما قاله ابن عابدين ، ثم قال : ( وعليه ، فقد أجمع الفقهاء على المنع ، ولا أرى لذلك جوازاً مطلقاً ، وفي فتح مثل هذا الباب خطورة على الشريعة) .

  ومن لبنان السيد زهدي يكن الذي يفهم من بحثه أنه يجيز التأمين التعاوني ، وأما التأمين التجاري فتراعى الضرورة الاجتماعية التي يقرّها العقل ، والسيد رامز ملك أمين الإفتاء في طرابلس لبنان حيث حرم التأمين على الحياة ، وأجاز غيره بناء على الحاجة ، ثم دعا إلى التامين التعاوني .

   ومن ليبيا الشيخ عزمي عطية الذي قال : (فالتأمين كله حرام شرعاً ، لأن عقده باطل شرعاً ، ومن الغرب الأستاذ أحمد الخريصي الذي قال في رسالته التي بعث بها إلى مجمع البحوث : ( ان عقد التأمين ينطوي على غرر وجهالة) والشيخ محمد الجواد بن عبدالسلام الصقلي الحسيني عميد كلية الشريعة بجامعة القرويين بفاس ورئيس المجلس العلمي ، حيث ذهب إلى أن (التامين الخاص بجميع أنواعه محرم)[25] .

وأما آراء الأعضاء الشرعيين من لجنة التأمين التي شكلها مجمع البحوث فكالآتي :

أ ـ الشيخ أبو زهرة ، والشيخ محمد علي السايس عضوا المجمع واللجنة ، والشيخ طه الديناري خبير اللجنة الشافعي ، والشيخ محمد عبداللطيف السبكي خبير اللجنة الحنبلي ، والشيخ محمد مبروك خبير اللجنة المالكي ، يرون التأمين التجاري بجميع أنواعه وأن عقوده باطلة أو فاسدة .

ب ـ الشيخ علي الخفيف يرى إباحة التأمين بجميع أنواعه ما دام خالياً من الربا .

ج ـ الشيخ محمد أحمد فرج السنهوري عضو المجمع واللجنة يرى إباحة التأمين ما عدا التامين على الحياة .

  وقد رأينا كذلك أن جماهير الفقهاء والمفتين وأهل العلم الذين أرسلوا رسائلهم وبحوثهم إلى مجمع البحوث كانوا يرون حرمة التأمين التجاري بجميع أنواعه ، وأن بعضهم مع الفريق الثالث ، وأن قلة مع الفريق الثاني[26] .

12. وفي 24/4/1968م أصدرت لجنة الفتوى بالأزهر الشريف برئاسة الشيخ محمد عبداللطيف السبكي فتواها المفصلة حول حرمة التأمين التجاري بكل أنواعه .

13. وفي الفترة 23 ـ 28 من ربيع الأول 1392هـ 6ـ11 مايو 1972 عقدت ندوة الجامعة الليبية ، حضرها عدد كبير من الفقهاء والاقتصاديين ، وناقشوا عقود التأمين ، حيث صدرت مناه فتوى بحرمة التأمين على الحياة ، والسماح لعقود التأمين مؤقتاً إلى أن يحل محلها التأمين التعاوني[27] .

14. وفي 4/4/1397هـ أصدرت هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية قرارها بحل التأمين التعاوني ، وحرمة التأمين التجاري ، وقد أيد هذا القرار المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الأولى في 10 شعبان 1398هـ ، كما أكد هذا القرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي في قراره رقم 9(9/2) في 10ـ 16 ربيع الآخر1406هـ  22ـ 28 ديسمبر 1985م كما سيأتي تفصيل هذه القرارات بإذن الله .

  وقد أردنا بهذا الاستعراض التأريخي بيان الجهود التي بذلت من قبل الفقهاء والمجامع إلى أن توصلوا إلى هذا القرار ، وأنه لم يكن قراراً متسرعاً ، بل كان فيه التنقيح والدراسة والمشاورة حتى استغرقت قرابة قرن .

وأما العلماء المعاصرون فقد ثار خلاف كبير بينهم يمكن حصر اتجاهاتهم في ثلاثة آراء :

الرأي الأو