قد يثور التساؤل حول هذه المسألة ، ويقال : كيف يعالج الإسلام الذي نزل قبل أكثر من أربعة عشر قرناً هذه القضايا المعاصرة في عالم الطب وغيره ، وهي قضايا في غاية من الحداثة والمعاصرة مثل البصمة الوراثية ، والاستنساخ ، وطفل الأنابيب ، وزرع الأعضاء وغيرها ؟
للجواب عن ذلك نقول : إن هذه المسألة لها ثلاثة جوانب ، وهي :
أولاًً : الجانب العقدي والنظري :
إن من ثوابت العقيدة أن الإسلام هو الدين الكامل الشامل الخالد الخاتم الذي دلت النصوص القاطعة من الكتاب والسنة والإجماع على ذلك فقد قال الله تعالى: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً )[1] وقد ورد في الصحيح أن يهودياً قال لعمر : ( لو أن علينا نزلت هذه الآية (اليوم أكملت لكم دينكم….) لاتخذنا ذلك اليوم عيداً ، فقال عمر : (إني أعلم أي يوم نزلت هذه الآية ، نزلت يوم عرفة في يوم جمعة)[2].
ويقول تعالى مبيناً أنه آخر الأديان وخاتمها : (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)[3] ويقول تعالى مبيناً شموليته لكل شيء : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وهدى ورحمة )[4] ويقول تعالى : ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)[5] .
وقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك وبين كمال الرسالات السماوية بالإسلام الذي نزل عليه فقال : (مثلي ، ومثل الأنبياء كرجل بنى داراً فأكملها وأحسنها ، إلاّ موضع لبنة ، فجعل الناس يدخلونها ، ويتعجبون ويقولون : لولا موضع اللبنة !!!) وفي رواية أخرى : ( هلاّ وضعت هذه اللبنة؟ ) قال : ( فأنا اللبنة ، وأنا خاتم النبيين)[6] قال الحافظ ابن حجر : ( وفي الحديث الصحيح ضرب الأمثال للتقريب للإفهام ، وفضل النبي صلى الله عليه وسلم على سائر النبيين ، وأن الله ختم به المرسلين ، وأكمل به شرائع الدين)[7].
وعلى كمال الشريعة الإسلامية وشمولها وخلودها انعقد إجماع الأمة الإسلامية ، ولذلك بحثوا عن الحلول لكل المستجدات الكثيرة التي ظهرت في عصورهم ، لأنه يجب على الأمة أن تعرف (من خلال علمائها) ما يحل وما يحرم ، وما يصح وما يبطل أو يفسد من هذه الأعمال حتى تبتعد عن المحرمات والمفسدات والمبطلات ، وذلك لأنه الله تعالى أحل الطيبات فأمر بها ، وحرم كل المضار والخبائث ونهى عن الاقتراب منها ، وبما أن الطيبات والمنافع والمصالح والخبائث والمضار والمفاسد لا تنتهي عند عصر واحد ، بل هي تتجدد ، وتحدث ، وتنشأ وتزداد مع العصور المختلفة إذن وجب بيان حكم الله في كل واحد منها إما من خلال النص أو الاجتهاد والاستنباط ، وهذا ما قاله الإمام الشافعي في الرسالة (فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلاّ وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها قال الله تبارك وتعالى (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد)[8] … وقال : (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين)[9] ويقول أيضاً : (كل ما نزل بمسلم ففيه حكم لازم ، أو على سبيل الحق فيه دلالة موجودة ، وعليه إذا كان فيه بعينه حكم وجب اتباعه ، وإذا لم يكن فيه بعينه طلب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد…)[10] وقال : ( إن الله جل ثناؤه منّ على العباد بعقول فدلهم بها على الفرق بين المختلف ، وهداهم السبيل إلى الحق نصاً ودلالة)[11].
والخلاصة :
أن النصوص الشرعية تدل بوضوح على وجوب بيان الحكم الشرعي لجميع تصرفات الإنسان وأنشطته وأعماله حتى يكون المسلم على بينة من أمرها من حيث الحلال والحرام ، والصحة والبطلان والفساد ، وهذا البيان لهذه الأحكام فرض فرضته العقيدة الإسلامية القاضية بكمال الشريعة وتمامها ، واستيعابها وبيانها لكل شيء هدى ورحمة ، وطبيعة هذا الدين من خلال منهجية عملية لبيان أحكام الله تعالى لكل شيء ، وهذا هو الجانب الثاني أو الشق الثاني .
ثانياً : الجانب المنهجي : (منهجية العلاج للقضايا المستجدة) :
هذه المنهجية تسير مع واقع النصوص الشرعية وذلك لأن الله تعالى اقتضت سنته على أن يكون بيانه لأحكام الشرع بطريقتين :
الطريقة الأولى : عن طريق النص العام أو الخاص في القرآن الكريم ، أو السنة النبوية المشرفة
ومن خلال استقراء هذه النصوص وجدنا أنها تسير على ضوء ما يأتي :
1. وضع المبادئ العامة ، والقواعد الكلية لكل أنشطة الإنسان وتصرفاته وحركاته مثل مبادئ العدالة ، والمساواة ، ومثل قواعد رعاية المصالح والطيبات ، ودرء المفاسد والخبائث ، وعدم الإضرار والضرار ، وأن الضرر يزال ، وأنه لا يزال بمثله ، وقاعدة الغرم بالغنم ونحو ذلك .
2. التفصيل فيما يحتاج إليه الإنسان من عالم الغيب مثل الإيمان بالله تعالى ، والملائكة والرسائل السماوية ، واليوم الآخر ، وعالم الجن ، والجنة والنار ونحو ذلك . كذلك فصل الإسلام في موضوع الشعائر التعبدية (أي العبادات المحضة) وأحكام الأسرة والفرائض (تقسيم أموال المورث على الورثة) .
3. الاكتفاء بوضع المبادئ العامة والقواعد العامة وتفصيل بعض الأمور الأساسية كما هو الحال في عالم المعاملات المالية ، وأحكام القضاء والبينات ، والجهاد والسياسة والعلاقات الدولية حيث لم يفصل الإسلام (كتاباً وسنة) في مثل هذه الأمور كما فصل في العبادات والعقائد ، وإنما ترك ذلك للاجتهاد.
4. السكوت عن أشياء دون الخوض في أحكامها ، حيث لا توجد فيها نصوص خاصة بها ، وهذا ما يسمى بالعفو كما سماه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث سلمان الفارسي ، قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السّمْن والجُبن والفِراء ؟ قال : (الحلال ما أحلّ الله في كتابه ، والحرام ما حرّم الله في كتابه ، وما سكت عنه فهو مما عفى عنه)[12] وفي رواية عن ابن عباس قال : ( كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذراً ، فبعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرّم حرامه ، فما أحل فهو حلال ، وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو ، وتلا : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[13] قال صاحب العون : ( والحديث سكت عنه المنذري)[14] كما سكت عنه أبو داود نفسه حيث يشعر ذلك بأن الحديث حسن ، ولذلك صححه الحاكم في مستدركه[15] . ولا شك في أن السنة تدخل في الكتاب باعتبارها مبينة له ومفصلة لنصوصه .
فالله تعالى ترك التفاصيل في الفقرة 3 وسكت عن أشياء فيما يخص الفقرة 4 رحمة منه بالأمة الإسلامية في عدم تكليفها بالكثير ، وفي ترك مجال كثير لاجتهاد الإنسان بجميع طرقه ووسائله للوصول إلى ما تتناسب مع عصره دون مخالفة لنصوص شرعه.
وبالاستقراء فإن هاتين المنطقتين تقعان في دائرة ما يحدث فيها تغيرات كبيرة وتطورات كثيرة مثل مجال المعاملات ، والسياسة ، وعلاج الإنسان ونحوها ، وحتى لا يكون هناك مانع من التطور ، وأن تواكب الأمة كل التطورات النافعة ، فقد ترك الإسلام مجالات واسعة للاجتهاد ، مع الحفاظ على بيان الثوابت التي تحمي الأمة من الانصهار ، وتبعدهم عن الوقوع في المفاسد والمضار ، وبذلك جمعت الشريعة بين الثوابت ، من خلال النصوص القطعية (دلالة وثبوتاً) والمتغيرات والتطورات من خلال الاجتهادات المعاصرة.
وبذلك انسجمت الشريعة تماماً مع طبيعة الإنسان نفسه الذي يتكون من ثوابت ومتغيرات في جسمه ، وعقله وفكره وضرورياته وحاجياته ، فالإنسان في عصرنا هذا وما بعده هو مثل الإنسان في القرون السابقة في ماهيته وجوهره وفطرته ودوافعه ، وهو في جميع الأحوال بحاجة إلى هداية الله تعالى المتمثلة في بيان الصراط المستقيم من حيث العقيدة والأخلاق والقيم التي تضبط فكره ،وسيره ، وتزكي نفسه وتحميه من أهوائها وشهواتها ، وهو بحاجة إلى العبادات التي تغذي روحه ، وإلى الشرائع العملية التي تقيم الموازين بالقسط بينه وبين غيره .
فالإنسان في كل العصور له ثوابته بدون شك ، ويتطور من خلال المتغيرات ، وهو كائن تحميه الثوابت من الانصهار في بوتقة الانحلال ، وتحفظه من الانهيار والضعف والانكسار ، وكذلك الشريعة التي أنزلها اللطيف الحكيم الخبير لهدايته ، فيها الثوابت التي لا تتغير ، فقد أودع الله تعالى في شريعته عناصر الثبات والخلود ، وعناصر التطور والمرونة والسعة معاً ، فهي الثبات من حيث المصادر الأصلية النصية القطعية ، وهي المرونة والتطور من خلال الاجتهاد ومصادره ، وهي الثبات من حيث المقاصد والأهداف والغايات ، وهي المرونة من حيث الوسائل والآلات والأساليب ، وهي الثبات من حيث الأصول والكليات والقواعد العامة ، وهي المرونة والتطور من حيث الفروع والجزئيات ، وهي الثبات من حيث القيم الدينية والأخلاقية ، وهي المرونة والتطور من حيث الشؤون الدنيوية والعلمية .
(وبهذه المزية الجامعة بين الثبات والمرونة والتطور يستطيع المجتمع المسلم أن يعيش ويستمر ويرتقي ثابتاً على أصوله وقيمه وغاياته ، متطوراً في معارفه وأساليبه وأدواته ، فبالثبات يستعصي المجتمع المسلم على عوامل الانهيار والفناء أو الذوبان في المجتمعات الأخرى ….وبالمرونة يستطيع هذا المجتمع أن يكيف نفسه وعلاقاته حسب تغير الزمن…)[16] .
الطريقة الثانية : طريق الاجتهاد والاستنباط :
والاجتهاد هو لغة من الجهد بمعنى المشقة ، والنهاية والغاية ، والوسع والطاقة ، فالاجتهاد هو بذل منتهى الجهد في سبيل الوصول إلى الهدف المنشود[17].
والاجتهاد في الاصطلاح الفقهي هو : استفراغ الفقيه الوسع ليحصل له ظن بحكم شرعي ، أو هو استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة الإجمالية[18] .
والاجتهاد هو عمل عقلي فكري مبذول في سبيل الوصول إلى بيان الحكم الشرعي لكل نازلة من النوازل وحادثة من الحوادث ، وأن دوره يختلف في الحالات الخمس الآتية :
1. وجود نص من الكتاب والسنة قطعي الدلالة والثبوت
فالمراد بقطعي الدلالة أن يكون النص دالاً على معنى واحد واضح ولا يحتمل غيره مثل (فاجلدوهم ثمانين جلدة)[19]وقطعي الثبوت أي ثبتت نسبة النص عن طريق التواتر الذي يرويه جمع عن جمع يستحيل العقل تواطأهم على الكذب مثل القرآن الكريم كله ، ومثل الأحاديث المتواترة فدور الاجتهاد أو العقل هنا محصور في الفهم ، وفي بيان الأركان والشروط المطلوبة للتطبيق ، وهذا هو المقصود بقول الفقهاء : ( لا اجتهاد مع النص) أي لا يجوز الاجتهاد مع وجود نص قطعي الدلالة والثبوت ، حيث لا يجوز البحث عن خلاف مؤاده ومحتواه ، كما هو الحال في النصوص الدالة على الأركان الخمسة والحدود والثوابت في العقيدة والفروع ، ولكن يبقى مجال للاجتهاد في هذه النصوص من حيث الشروط والأركان ونحو ذلك وهذا ما يسمى بالاجتهاد لأجل فهم النص ، وتنزيله على الوقائع.
2. وجود نص من الكتاب والسنة ظني الدلالة والثبوت ، مثل قوله صلى الله عليه وسلم : ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر) حيث هو حديث ظني الثبوت ، لأنه حديث الآحاد ، رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه[20] كما أنه ظني الدلالة لأنه يحتمل أكثر من معنى ، حيث يحتمل أن يكون معناه (من تركها غير مؤمن بها فقد كفر) ومعنى الكفرهنا أيضاً يحتمل الكفر المطلق أي الخروج من الإسلام ، ويحتمل كفراً دون كفر ، أو كفر النعمة .
3. وكذلك الحال إذا كان النص قطعي الثبوت مثل القرآن الكريم ولكنه ظني الدلالة مثل قوله تعالى (فامسحوا برؤسكم…..)[21] حيث يحتمل كل الرأس ، أو بعضه .
4. وكذلك الأمر إذا كان النص قطعي الدلالة ولكنه ظني الثبوت مثل (المسلمون عند شروطهم)[22] فالحديث دلالته قطعية ولكنه ظني الثبوت ، وهكذا .