نتحدث في هذا المبحث بإيجاز شديد عن موقف الإسلام من العلم ، وموقف العلم منه ، وعن موقف الإسلام من الطب والمرض في ثلاثة فروع :
الفرع الأول: موقف الإسلام من العلم :
نستطيع نحن المسلمين بكل فخر واعتزاز ، وعن بينة وبرهان أن نقول : إنه لا يوجد دين ، ولا نظام في العالم أولى عناية قصوى بالعلم والقراءة مثل الإسلام ، فلم نجد في أي دستور (حتى في عالمنا المعاصر) تنص أول مادة منه على وجوب القراءة والعلم كما هو الحال في الإسلام حيث تنزل أول آية من السماء إلى الأرض ومن الله تعالى على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم تقول : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)[1] .
والإنسان العاقل المتدبر يقف متعجباً في البداية أمام هذه الآيات التي تأمر أول ما تأمر بالقراءة المطلقة لكل شيء ، للكتاب والكون وكل ما فيه خير ونفع للناس ، ثم تبين أهمية العلم والتعلم ، وأن قيمة الإنسان بما يعلم ، ولا تأمر في أول آية بالصلاة ، أو الصوم أو بقية العبادات والشعائر والعقائد…. .
سبحان الله ما أعظم شأن العلم في القرآن الكريم حيث جعله شرطاً لصحة العقيدة والتوحيد ، والعبادات فقال تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)[2] وأمر به ، وفضل من يتصف به على غيره فقال تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ )[3] .
والقرآن الكريم أولى عنايته القصوى بالعلم والفكر ، والنظر ، والبرهان ، والحكمة ، والفقه ، والتدبر ، ونحوها ، حيث ذكرها في عدد كبير من آياته فقد ذكر كلمة العلم ومشتقاته أكثر من سبعمائة مرة بتعبيرات وأساليب مختلفة ، كما ذكر مشتقات الفكر ثماني عشرة مرة ، والفقه إحدى وعشرين مرة ، والحكمة عشرين مرة ، والبرهان سبع مرات ، ومشتقات العقل تسعاً وأربعين مرة ، وأما العقل نفسه فقد عبر عنه القرآن من خلال أولى الألباب التي تكرر ست عشرة مرة ، وأولى النهى مرتين ، ناهيك عن كلمات أخرى لها صلة بالعلم والفكر ، مثل (انظروا) و (ينظرون) ونحوها .
والسنة النبوية فصلت تفصيلاً ما بعده من تفصيل حيث خصص كل واحد من كتب الصحاح والسنن وكتاباً حافلاً أو أبواباً لموضوع العلم ، فقد خصص الإمام البخاري كتاباً خاصاً من صحيحه للعلم ، واشتمل كما يقول الحافظ ابن حجر في شرحه على مئة حديث وحديثين[4] ، وهكذا ، بل إن كتب السنة تذكر أحاديث كثيرة تتعلق بالعلم ولكن في كتب أخرى مثل كتاب الطب أو التداوي ، إضافة إلى أن بعض الحفاظ والمحدثين أفردوا كتاباً خاصاً بالعلم مثل الحافظ الفقيه ابن عبدالبر في كتابه : جامع بيان العلم وفضله[5] ، والحافظ الخطيب البغدادي في كتابه (الفقيه والمتفقه) .
فقد تناولت الآيات الكريمة والأحاديث الثابتة منزلة العلم والعلماء ، وأهمية العلم التجريبي ، والعلم النافع ، من خلال تكوين العقلية العلمية القائمة على البحث عن الدليل والبرهان ، ومحاربة الأمية والتخلف ، والحملة الشديدة على الأوهام والخرافات والتقاليد البالية ، وتعلم اللغات ، واستخدام أسلوب الإحصاء ، والتخطيط وإقرار منطق التجربة في الأمور الدنيوية ، والنزول عند رأي الخبراء وأهل الذكر والاختصاص ، والاستفادة من كل قديم صالح وكل جديد نافع ، كما تناولت هذه الآيات القرآنية ، والأحاديث الثابتة أخلاقيات العالم من الشعور بالمسؤولية والأمانة العلمية والتواضع ، والعزة ، والعمل بمقتضى العلم ، وعدم كتمان العلم وكذلك آداب العالم والمتعلم ، وواجبات الدولة والمجتمع نحو العلم والعلماء[6] وضرورة التقدم العلمي الشامل للجوانب الفكرية والثقافية والحضارية والتقنية ، وأن قوة العلم تقع في أعلى مراتب القوى التي أمر الله تعالى بإعدادها حتى تبقى الأمة قوية البنيان قادرة على أداء الشهادة والأمانة في هذه الأرض المستخلفة عليها .
ونتيجة لهذه الأهمية قفزت العلوم في ظل الإسلام قفزة عالية وتحققت الحضارة الإسلامية في فترة قصيرة شهد بتطورها في ذلك العصر وتقدمها كل المنصفين ، بل برهن على ذلك واقع المسلمين في تلك العصور الذهبية ، وقد كتب عن ذلك الكثيرون منهم المستشرق آدم متز في كتابه : الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ، أو عصر النهضة في الإسلام[7] فذكر أنه في القرن الثالث الهجري ظهرت مجموعة أخرى من الفنون والعلوم الدنيوية ، والعناية الكبرى بالكتب والمكتبات ، حتى استدعى السلطان نوح بن منصور الساماني : الصاحب بن عباد (ت384هـ) ليوليه وزارته ، فكان مما اعتذر به أنه لا يستطيع حمل كتبه التي لا تحمله أربعمائة جمل ، كان فهرس كتبه في عشرة مجلدات[8] .
دور العلماء المسلمين في الطب ونحوه والنهضة العلمية :
وقد نبغ المسلمون في مختلف العلوم وأبدعوا فيها ، فكونوا حضارة رائعة رائدة في عصورها ، ويقول الدكتور عبدالوهاب عزام : (لا أخال التأريخ يعرف أمة من الأمم الغابرة سارت سيرة المسلمين في طلب العلم والاخلاص في تحصيله وجعله عبادة لله تعالى يتعبد بها العلماء والمتعلمون ، واتخاذ المساجد للصلاة والدرس معاً ، فكما جعل الإسلام الأرض كلها للمسلم مسجداً وطهوراً ، جعل الأرض كلها دار علم وتعليم ، فالمسلم مأمور أن ينظر في السموات والأرض وآثار الأمم وسيرها وأن يطلب العلم حيث كان ، ويلتقط الحكمة أنى وجدها فهو يتعلم في الحضر والسفر وفي المسجد والدار ، كانت مساجد المسلمين منذ أنشئت دار تعليم منذ جلس المعلم الأعظم صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه في المسجد إلى يومنا هذا)[9] ولذلك اعترف معظم المستشرقين بأن جامعة القرويين بفاس هي أقدم جامعة في العالم ، وقد أثبت التأريخ أنه تخرج منها المئات من غير المسلمين ، وعلى رأسهم الراهب (جربرت) الذي صار فيما بعد البابا سلفستر الثاني الذي أدخل الأعداد العربية إلى أوربا ، وهو الذي ترجم إلى اللغة اللاتينية العلوم التي تلقاها في الجامعات الأندلسية ، وأدخل تعديلات جوهرية في القانون الروماني[10] ، وحينما ننظر في هذه التعديلات نراها تتماشى مع الفقه الإسلامي[11] .
وقد سجل التأريخ أن أوربا بنت نهضتها على المنهج التجريبي لدى المسلمين ، وعلى العلوم التي طورها ، وأبدعها المسلمون ، فمثلاً إن (سبتاي بن أبراهام اليهودي) الذي أسره المسلمون من النصف الأول من القرن العاشر الميلادي عاش ببغداد فتعلم العربية ، ودرس الطب فيها ، وهو الذي قاد حركة طبية علمية في أوربا ونشر فيها آراء الأطباء المسلمين ، وكذلك قسطنطين الذي عاش في (قرطاجنة) ثم عاد إلى روما في نهاية القرن العاشر فترجم مصنفات المسلمين ، وأن أول مدرسة للطب في أوربا أنشأها المسلمون في (ساليدن) بإيطاليا ، وأول مرصد فلكي عرفته أوربا كان المرصد الذي أنشأه المسلمون في أشبيلية .
كما استطاع المسلمون أن يدخلوا في عالم الصناعة في مختلف مجالاتها فما زالت بعض المصنوعات الراقية تحمل أسماء عربية وأن يبتكروا في مختلف مجالات العلوم الفكرية والفنية والتقنية ، يقول الفيلسوف (أرنست رنان) في كتابه (تعليقاتي على تواريخ الأديان) : (إن الآثار والأسفار المحتوية على شتى الفنون والعلوم التي أضفاها علماء الإسلام على الكون ، والتي نقلتها الحملات الصليبية إلى جميع بلاد الفرنجة ، وما تقدمها من احتكاك بين العرب وأوربا عن طريق الأندلس أدى كل ذلك إلى إفعام المكتبات الأوربية الخاوية الفقيرة بكنوز لا تفنى من العلم الذي أنتجته قرائح المسلمين ، وكان من نتائجه انتشار الثقافة والترعرع العلمي في البيئة الأوربية بأسرها ، كما رفع مستوى شعوبها إلى أفق التمدن الذي نشاهدها عليه اليوم)ويذكر العالم الكبير (هـ.حـ.ويلز) في موسوعته الكبيرة عن معالم التأريخ الإنسانية أن العالم الإسلامي قد سبق العالم الغربي بجامعاته العظيمة التي أضاء نورها خارج العالم الإسلامي إلى مسافات بعيدة واجتذب إليها الطلاب من الشرق والغرب[12] .
ويبدو من خلال استقراء التأريخ الإسلامي أن الخطوط العلمية يسير كلها جنباً إلى جنب دون تقاطع ، وأنه إذا تحققت النهضة فإن خطي العلم المادي بمختلف أنواعه ، والعلم التكليفي الشرعي يسير نحو الإبداع في الوقت نفسه ، ولذلك حينما كان هناك فقهاء أفذاذ أمثال الحمادين ، وأبي حنيفة والأوزاعي وأبي ثور ، ومالك والشافعي، وأحمد ، وغيرهم ، ومحدثون عظام أمثال الزهري ، وابن معين ، والمديني ، والبخاري ، والرازي ، ومسلم وأبي داود ، ونحوهم ، وكان هناك علماء كبار أيضاً في مجالات الطب والكيمياء ، والطبيعة والفلسفة والنبات ، والرياضيات والفلك والجغرافيا ونحوها .
فقد أبدع المسلمون في علم الكيمياء حتى اعترف المؤرخون بأن هذا العلم هو علم المسلمين ، لأنهم هم الذين وضعوا أسسه ونظرياته ، وأكثروا فيه مؤلفات دقيقة حتى يصل عدد كتب الكيمياء في مكتبات فرنسا ، وألمانيا وإيطاليا إلى أكثر من ثلاثمائة كتاب شملت مختلف فروع الكيمياء ، وفي المتحف البريطاني ما يربو على ثمانين كتاباً اتخذها علماء الكيمياء بانجلترا مراجع لدراسة هذا العلم منذ قرون ، بل إن العلامة (هولميارد) أستاذ الكيمياء بكلية (إيتون) الذي اعتبر أكبر أساتذة الكيمياء في أوائل القرن التاسع عشر يعترف بأن سبب نبوغه في الكيمياء يعود إلى تعلمه اللغة العربية ، ودراسته للكيمياء الإسلامية من أصلها العربي[13] .
ومن أكبر علماء المسلمين في الكيمياء جابر بن حيان الكوفي الخراساني (ت200هـ) الذي يعتبر شيخهم في هذا العلم وحجة فيه حيث ألف كتابه (الخواص) الكبير و(الأحجار) و(السر المكنون) و(الموازين) و(الخمائر الكبيرة) حيث يبلغ عدد مؤلفاته مائتي كتاب منها ثمانون كتاباً في الكيمياء ، وهو أول عالم استعمل الميزان في تجاربه العلمية ، واستعمل بعض الأوزان الدقيقة التي تحتاج إلى ميزان حساس جداً ، وابتكر اعداد المضيء الذي استعمل في كتابة المخطوطات الثمينة ، لإمكان قراءتها في الظلام ، كما اخترع صنفاً من الورق غير قابل للاحتراق ، وكذلك محاولته صناعة الذهب من المواد الأولية ، ولأهمية دور جابر بن حيان في الكيمياء وضع العالم (هولميارد) صورته في المقدمة لكتابه (مشاهير الكيميائيين)[14] .
وكذلك نبغ من بعده عدد من العلماء المسلمين منهم عزالدين الجلدكي(ت1360م) وأبو القاسم المجريطي الذي قاد أكبر حركة كيميائية في الأندلس في القرن التاسع الميلادي[15] .
وفي مجال الطب نبغ علماء كبار أيضاً أمثال أبي بكر محمد بن زكريا الرازي (ت 924م) الذي أدخل في التجارب الكيميائية أجهزة وأدوات لم تكن معروفة من قبله وألف في الطب والكيمياء مئتين وتسعة وعشرين كتاباً ، وأبي علي الحسين بن عبدالله بن سينا المعروف بابن سينا ، وبالرئيس ، الذي اكتشف الدورة الدموية في الإنسان قبل وليم هارفي بستمائة سنة ، وأجرى جراحات لمعالجة الأورام الخبيثة قبل أن يعرف ذلك حيث يقول الدكتور كاظم إسماعيل ، مدير جامعة استنبول في بحثه الذي ألقاه في مؤتمر ابن سينا ببغداد : ( إن آراء ابن سينا عن السرطان مضبوطة كل الضبط …فقد لاحظ بدقة التغيير الذي يحدث في الجسم من السرطان ، وذهب إلى أنه في النساء أكثر ، وإذا كان السرطان باطنياً فإنه ينمو بطيئاً ، ولا فائدة من العلاج… وفي السرطان الظاهري يمكن إنقاذ المريض إذا كان الورم صغيراً وتدخل الطبيب باستئصاله بعملية جراحية) أليس ذلك ما يقوله الطب الحديث[16] وقد ألف ابن سينا أكثر من مائة كتاب في الطب وحده ، من أهمها كتابه (القانون) الذي يعد أكبر الموسوعات الطبية حيث يشتمل على خمسة موضوعات في غاية من الأهمية منها التشريح ، ووظائف الأعضاء ، وما يجب معرفته من أمر الطب ، والأدوية وغيرها ، وكتابه (الشفاء) و (النجاة) وكذلك نبغ ابن سينا في الكيمياء والفلسفة ، حتى إن نظرياته في تكوين الصخور والجبال والحفريات اتخذت أساساً لعلم الجيولوجيا الحالي[17] ، وقد استطاع الأطباء المسلمون أن يطوروا علوم الجراحة بشكل كبير ، حيث تكلموا في كتبهم عن عملية تفتيت الحصى الموجود في المثانة ، وعملية فتح القصبة الهوائية ، واستئصال اللوزتين ، وعملية ثقب الأذن المسدودة ، وعن التفرقة بين الأورام الخبيثة والزوائد اللحمية ، فقد وصف عبدالملك زاهر الاشبيلي (ت557هـ) جراحة الجهاز التنفسي في كتابه البديع (التيسير في المداواة والتدبير) وصفاً دقيقاً اعتبره المؤرخون أول طبيب تكلم عن هذه العملية ، كما كان الرازي (ت311 هـ ببغداد) أول من تكلم عن الفواري بين النزيف الشرياني ، والنزيف الوريدي ، كيفية إيقافهما[18].
ونبغ في مجال الطب أيضاً العالم الفقيه الفلسفي الموسوعي أبو الوليد محمد بن رشد ، فقد كان بيت ابن رشد يستقبل من الزوار مختلف أصحاب الحاجات ، فهذا عليل يريد العلاج ، وهذا عالم يريد المزيد من الحكمة ، والفلسفة ، وهؤلاء طلبة العلم يدرسون على يديه الطب والحكمة ، أو الفقه والأصول فقد عرف ابن رشد الطب بأنه صناعة فاعلة عن مبادئ صادقة يلتمس بها حفظ بدن الإنسان وإبطال المرض….(أي الوقاية والعلاج) ، ثم قسمه إلى سبعة أجزاء وهي دراسة الأعضاء ، وتعريف الصحة وأنواعها ، والمرض وأنواعه وأعراضه ، والعلامات الصحية والمرضية ، والآلات وهي الأغذية والأدوية ، والوجه في حفظ الصحة ، والحيلة في إزالة المرض ، وهو بذلك أول طبيب يجعل الوجه مرآة الصحة ، كما أنه بين فوائد الرياضة ، وألف في الصحة الغذائية (حيث يعتبر ما كتبه في هذا الميدان الأول من نوعه) كما ألف في طب الأطفال ، وبين توظيف الطب لزيادة الإيمان ، أو الطب في محراب الإيمان حينما قال : ( من اشتغل بعلم التشريح ازداد إيماناً بالله) وقد ترجمت كتبه إلى مختلف اللغات الأجنبية ، وأصبحت فلسفته معروفة في الغرب بالفلسفة الرشدية حتى يقول الفيلسوف (نيكون) : ( ابن رشد فيلسوف متين متعمق صحح كثيراً من أغلاط الفكر الإنساني ، وأضاف إلى ثمرات العقول ثروة قيمة لا يستغني عنها بسواها) حتى إنه يذكر فلاسفة الغرب مثل رينان مع أرسطو في هذا المجال .
وقد دعا ابن رشد الناس إلى أن ينشدوا الحقيقة فقط دون النظر إلى المصدر ذاته ودينه ومكانه وزمانه فقال : ( يجب علينا ….أن ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم ، فما كان منها موافقاً للحق قبلناه منهم ، وسررنا به ، وشكرناهم عليه ، وما كان غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه ، وعذرناهم …وعلينا أن نستعين على ما نحن بسبيله بما قاله من تقدمنا في ذلك …وسواء كان ذلك الغير مشاركاً لنا في الملة أو غير مشارك في الملة ، فإن الآلة تصح بها التزكية ليس يعتبر في صحة التزكية كونها آلة المشارك لنا في الملة ، أو غير مشارك إذا كانت فيها شروط الصحة….)[19] .
وفي مجال الطبيعة ظهر علماء عظماء مثل ابن الهيثم أبو علي (ت 354هـ/965م) المهندس البصري صاحب التصانيف الجليلة في علم الهندسة والبصريات ، والرياضيات ، والضغط الجوي ، وعلم الضوء وقانون الانعكاس ، حيث بلغت مؤلفاته مائتي كتاب منها سبعة وأربعون في الرياضيات والطبيعة ، وثمانية وخمسون في الهندسة ، يقول سارتون فيه : ( إنه أكبر عالم طبيعي مسلم ، ومن أكبر المشتغلين بعلم الضوء في جميع الأزمان) ويقول الأستاذ مصطفى نظيف : ( لقد أبطل ابن الهيثم علم المناظر الذي وضعه اليونان ، وأنشأ علم الضوء بالمعنى الحديث ، وأن أثره في هذا العلم لا يقل عن أثر نيوتن في علم الميكانيكا…..)[20] .
وكذلك كمال الدين الفارسي الذي عاش في القرن السادس الهجري ، واستهواه ما كتبه ابن الهيثم في علم المناظر ، فألف في علم الضوء كتاباً سماه (تنقيح المناظر لذوي الأبصار والبصائر) الذي يعتبر من أهم مراجع الضوء،وحجة في علم الضوء بلا منازع[21].
وكذلك نجد كتباً كثيرة في علم الطبيعة مثل الآثار الباقية لأبي ريحان البيروني ، والبرهان في أسرار الميزان للجلدكي ، ومسالك الأبصار في ممالك الأمصار لابن فضل الله العمري ، وعيون المسائل من أعيان الرسائل لعبدالقادر الطبري ، وميزان الحكمة للخازن ، حيث يتضمن وصفاً دقيقاً للموازين ، وبالأخص الميزان الذي توزن فيه الأجسام في الهواء والماء ، وغيرها[22] .
وفي علم الزراعة والنبات نجد عدداً كبيراً من العلماء منهم موفق الدين عبداللطيف البغدادي في القرن الحادي عشر الميلادي وضياء الدين بن البيطار الذي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي واستخرج أكثر من ألف وخمسمائة عقاراً من مكتشفاته ، ومن أشهر كتبه في ذلك (الجامع لمفردات الأدوية والأغذية) و (المغني في الأدوية)[23] .
وفي علم الرياضة والفلك نبغ الخوارزمي محمد بن موسى الخوارزمي في عصر المأمون الذي ألف في الحساب كتاباً سماه (الجبر والمقابلة) الذي ترجم إلى الانجليزية في عام 1831م ، وثابت بن قرة الذي عاش في القرن الثامن الميلادي والذي استطاع استعمال الهندسة من حل معادلات الدرجة الثالثة ، ووضع حساب التكامل والتفاضل ، كما نبغ آخرون في علم الفلك منهم أبو عبدالله محمد بن سنان بن جابر اليتاني الذي قال عنه المؤرخون : ( إنه أحد العشرين فلكياً المشهورين في العالم) ومنهم أبو يحيى البطريق ، وأحمد النهاوندي ، وموسى بن شاكر ، ونصير الدين الطوسي ، وغيرهم كثيرون[24].
وفي علوم الاجتماع والانسانيات والتأريخ والجغرافيا والرحلات نبغ الكثيرون من علماء المسلمين وأصبحت لهم نظرياتهم الخاصة ، منهم الشريف الادريسي الذي عاش في القرن الحادي عشر الميلادي ، والذي يقول فيه جوتيه : ( إن الشريف الادريسي الجغرافي كان أستاذ الجغرافيا الذي علم أوربا هذا العلم دام معلماً لها مدة ثلاثة قرون ، ولم يكن لأوربا مصور للعالم إلاّ ما رسمه الادريسي) ، وتقول دائرة المعارف الفرنسية : ( إن كتاب الادريسي في الجغرافيا أعظم وثيقة علمية جغرافية في القرون الوسطى) وهذا الكتاب هو المسمى : نزهة المشتاق في اختراق الآفاق ، حيث ترجم إلى الألمانية عام 1828م والايطالية عام 1885م والاسبانية عام 1793م والفرنسية عام 1839م[25] .
ومنهم أبو الريحاني البيروني (المولود في 362هـ المتوفى 437هـ) فكان ألمع زمانه في التأريخ والجغرافيا والرياضيات ، حيث ألف كتابه (الآثار الباقية) و(الجماهر في الجواهر) وغيرهما[26] .