أهمية الطب وحكمه الشرعي :

  إذا نظرنا إلى حقيقة الطب وتدبرنا في آثاره ونتائجه لوجدنا ان الطب يتعلق بالإنسان كل الإنسان ، وذلك لأن الإنسان إذا مرض وازداد مرضه فقد تأثر جميع ما يخصه ، حيث يضعف بدنه ، وبالتالي تضعف قدراته ، وتفكيره ، وحتى عقله وتصوراته ، كما تضعف كذلك قدرته على أداء الشعائر والعبادات ، وعلى الجهاد ، وتعمير الأرض وصناعة الحياة ، وذلك لأن العقل السليم في الجسم السليم ، وأن المريض المشغول بمرضه المؤثر قد لا يجد الوقت الكافي للتفكير في غيره ، أو على الأقل لا يمكن أن يكون مثل الصحيح السليم.

  ولذلك ذهب المحققون من العلماء إلى أن مهمة الطب من فروض الكفايات التي إذا تركت بشكل كلي ، أو بشكل غير كاف فقد أثمت الأمة كلها على ترك هذا الواجب العظيم فقال الإمام الغزالي : (وأما فرض الكفاية فهو كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا كالطب ، إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان) إذ لو خلا البلد من الأطباء لتسارع الهلاك إليهم ، وحرجوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك ، فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء وأرشد إلى استعماله ، وأعد الأسباب لتعاطيه ، فلا يجوز التعرض للهلاك بإهماله[1] .

  ولذلك حصر الإمام الشافعي العلوم إلى قسمين فقال : (العلم علمان : علم الأديان وعلم الأبدان)[2] ، وهذا الحصر للعوم المهمة ، وللمبالغة في أهمية هذين العلمين ، وقد لام الغزالي ـ وهو في عزلته ـ العلماء الذين لم يولوا عناية بالطب على حساب علوم أخرى لوماً شديداً ، ونهاهم بانه كيف يسمحون لأنفسهم بترك هذه الفريضة قائلاً : (فكم من بلدة ليس فيها طبيب إلاّ من أهل الذمة …. ثم لا نرى أحداً (أي من العلماء) يشتغل له ، ويتهاترون على علم الخلافيات والجدليات…؟)[3] .

  فعلى ضوء ما سبق فإن تعلم الطب والتطبيب من فروض الكفاية من حيث المبدأ ، ولكن إذا كثر الأطباء وزالت الحاجة فيبقى الأمر فيما بعد ذلك مندوباً إليه ومستحباً فيمن أراد خدمة الإنسان ، وإلاّ فيبقى مشروعاً ، إلاّ إذا كانت النية محرمة ، أو الوسائل محرمة فيكون تعلمه ، أو التطبيب محرماً ، بل قد يكون فرض عين إذا تعين على الشخص القيام بالتعلم ، أو التطبيب بأن لا يوجد غيره .

  فعلى ضوء ذلك ترد على تعلم الطب والعلاج الأحكام الشرعية الخمسة التكليفية (هي : الإيجاب ، والندب ، والتحريم ، والكراهة ، والإباحة) كما ترد على عليه الأحكام الشرعية الوضعية من السبب والمانع ، والشرط ، والصحة والبطلان والفساد ، حيث يمكن أن يكون الطب والعلاج سبباً للمسؤولية إذا قصر الطبيب في أداء واجبه ، أو تعمد الإضرار بالمريض ـ كما سيأتي ـ وقد يكون حكم الطبيب شرطاً أساسياً لإصدار حكم ما ، وهكذا ….  .

 


 


  1. إحياء علوم الدين ط. عيسى الحلبي / القاهرة 1/17) بتصرف بسيط

  2. آداب الشافعي (2/321) وخلية الأولياء لأبي نعيم (9/142) والأحكام النبوية في الصناعة الطبية للحموي (ت720هـ) تحقيق د. أحمد الجمل ط. دار ابن حزم ص 221

  3. المصدر السابق (1/22- 32)