العلاقة المتبادلة بين الفقه والطب :

إن العلاقة بين الفقه والطب علاقة وثيقة في مجالات متعددة ، نذكر أهمها بإيجاز شديد ، وهي :

 

أولاً : أن جميع مسائل الطب تخضع في الإسلام لأحكام الشريعة من حيث الحل والحرمة ، ومن حيث الالتزام بالأخلاق والآداب المطلوبة .

  فالطبيب المسلم يحتاج إلى الفقه الإسلامي ليعرف ما يجوز ولا يجوز من الممارسات الطبية من حيث العلاج والتداوي ، والعمليات التجميلية والجراحية ، ونقل الأعضاء وغير ذلك ، كما أنه يحتاج إلى الفقه الإسلامي لمعرفة آداب الطبيب وضوابطه الشرعية ، ومدى مسؤوليته عن النتائج المترتبة على تصرفاته .

  وكذلك يحتاج المريض إلى الفقه الإسلامي لمعرفة أحكام المريض في طهارته وعباداته وتصرفاته ، وبالأخص في حالة مرض الموت ، حيث لا يجوز أن يتبرع بأكثر من ثلث ماله .


ثانياً : يحتاج الفقه الإسلامي إلى الطب للوصول إلى الحكم الشرعي لجميع المسائل الطبية ، لأن الحكم على الشيء فرع من تصوره .

  فالفقيه لا يمكنه الحكم على كون هذا التصرف ، أو الشيء في عالم الطب حلالاً أو حراماً ، أو واجباً ، أو مندوباً ، أو مكروهاً ، أو مباحاً ، أو صحيحاً ، أو باطلاً … إلاّ من خلال معرفته بما لدى الأطباء وما يعرفه من خلال دراسته للموضوعات الطبية الخاصة بالموضوع ، فالعلم به ـ وإن كان إجمالياً ـ شرط لصحة اجتهاد الفقيه ، وضرورة لمعرفة الحكم الشرعي.

 وان أي اجتهاد ، أو فتوى لا ينبع عن علم كامل ، وفهم دقيق وإدراك عميق ومعرفة شاملة تامة بالموضوع يعتبر اجتهاداً باطلاً ، وفتوى غير مقبولة شرعاً ، وأن صاحبه يكون آثماً إذا اجتهد بدون هذا العلم ، وينطبق عليه وصف الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن القاضي الجاهل الذي يدخل النار ، حيث يقول صلى الله عليه وسلم : (القضاة ثلاثة : واحد في الجنة ، واثنان في النار ، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار ، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار) قال أبو داود : وهذا أصح شيء فيه[1] وفي رواية ابن ماجه : ( وقاض لا يعلم فأهلك حقوق الناس فهو في النار)[2] .  

 

وكذلك يحتاج الفقيه إلى الطب في كثير من مسائله ، منها :

1.  معرفة كون الشيء ضاراً أو خبيثاً حتى يحكم عليه في الفقه بالحرمة إذا كان الضرر كبيراً ،  وبالكراهة إذا كان قليلاً .

ولذلك قال الإمام الشافعي في الماء المشمس (الذي وضع أمام الشمس في أواني منطبعة وفي بلاد حارة) : (لا أكره المشمس ، إلاّ أن يكره من جهة الطب)[3] .

2.  في مسألة كون الإنسان مريضاً فيرخص له الرخص الشرعية في الطهارة ، والصلوات ، والحج والصيام ونحوها ، وكذلك في كونه مختل العقل ، أو مجنوناً  إذا اشتبه الأمر حيث يترتب على ذلك الحجر عليه ، ومنعه من التصرفات

3.     في إثبات النسب في حالات معينة .

4.     في إثبات الجرائم من خلال الطب الشرعي .

5.     في أحكام الزواج ، وثبوت بعض العيوب الموجبة للفسخ مثل العنة .

 

 وغير ذلك كثير ، ولذلك لام فقهاؤنا السابقون بعض علماء عصرهم في عدم عنايتهم بالطب الذي هو فرض كفاية ـ كما سبق ـ .

 وأخيراً فإن المستجدات الطبية يحتاج حلها من الناحية الشرعية إلى تعاون الفقهاء مع الأطباء ، فالأطباء يكشفون عن حقائقها وتفاصيلها ، والشرعيون يصدرون عن فهم ورؤية أحكامها ، وبذبك يتحقق التكامل والدقة ، والضبط ولذلك أثنى العلامة اسحاق ابن علي الرهاوي في كتابه (أدب الطبيب) على اهمية هذا الجمع وفصله كل واحد منهما ، حيث ذكر بأن :

 (ما ينبغي أن يدخر ويقتنى قبل فوت وجوده نوعان :

 أحدهما محنة جميع  مصالح النفس وآدابها ، وذلك مأخوذ من معدنين أحدهما : الكتب الشرعية فإنها جامعة لآداب النفوس ومصالح الأخلاص ، ومأمنة للإنسان ، فعليك بها أولا ، وخذ نفسك وولدك بحفظها بعد درسها على العلماء ، ثم تأمل لغتها وتدبر معانيها ، فإنك تظفر بما أنا حاث لك عليه من آداب النفس .

والنوع الثاني هو الشامل لجميع مصالح الجسم ، وما يقوّم عضواً عضواً من أعضائه ، ومعرفة ذلك مأخوذ من علم صناعة الطب ، ووصولك إلى ذلك يتم بدرس كتبها على أهلها ، في حال الشبيبة وزمن الحداثة ، ثم الخدمة لهم في أعمال الصناعة لتقتنيها قنية خاصة صحيحة ، فإنه منها تترقى إلى صلاح نفسك أيضاً ، إن كان قد فاتتك الدربة الشافية بكتب الشرائع ، وإن المتحققين بصناعة الطب هم أصحاب عدل وعفة ، وشجاعة ورأفة ، وقناعة ونصفة ، يؤثرون الصدق ويأبون الكذب ، ويكرهون الآثام ، ويبعدون من الحرام ، فكل عادل عفيف ، منصف رؤوف ، ذي أخلاق فاضلة ، فهو يعرف بما فيه من الفضل صناعة الطب وأهلها)[4] .


 


  1. سنن أبي داود الحديث رقم 3102 ، ورواه الترمذي أيضاً الحديث رقم 21244 وابن ماجه الحديث 2306

  2. سنن ابن ماجه الحديث 2306

  3. الأم ط. دار االمعرفة / بيروت (1/3) والمجموع للنووي ط. شركة االعلماء بالقاهرة (1/78)

  4. المنقول في كلمة فضيلة الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجه ، الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة ،  المنشور ضمن : اعمال ندوة  رؤية إسلامية لبعض المشكلات الطبية المعاصرة ، المعنقد في الدار البيضاء 8-11 صفر 1418هـ الموافق 14-17 يونيو 1997م ، سلسة مطبوعات المنظمة الإسلامية للعوم الطبية ، الجزء 2 ص 48