ضوابط وآداب الطبيب ، وسرّ المهنة (ميثاق الشرف)
الضوابط والآداب :
فقد وضعت الشريعة مجموعة من الضوابط والأحكام ، والآداب للمعالج الذي يعالج الإنسان أي معالجة كانت سواء كانت معالجة للجانب البدني ، أو النفسسي ، أو غير ذلك ، نذكرها هنا بإيجاز :
أولاً : أن يكون المعالج ذا علم وخبرة وحذق بمهنته الطبية ، وفي وقتنا الحاضر : ضرورة الحصول على الشهادة الطبية ، والإذن ببمارسة المهنة الطبية من الدولة ، وهو أمر معتبر أيضاً في الشرع.
ثانياً : أن تكون أعماله على وفق الرسم المعتاد .
ثالثاً : أن يكون مخلصاً لعمله أميناً محافظاً على حقوق الآخرين يسعى بكل ما في وسعه للإتقان والإبداع[1] .
هذه الشروط الثلاثة هي أساسية في الإسلام ، وهي يمكن التعبير عنها بكلمتين هما : الإخلاص والاختصاص ، وهذا مما أشار إليه القرآن الكريم في أكثر من آية ، منها قوله تعالى : (إِنَّ خَيْرَ مَنِ ٱسْتَـئْجَرْتَ ٱلْقَوِىُّ ٱلأَمِينُ)[2] فالقوة تشير إلى الاختصاص والخبرة ، والأمانة تشير إلى الإخلاص والمحافظة على أسرار الآخرين .
رابعاً : أن يعرف الأحكام الشرعية الخاصة بالطب والمريض.
خامساًَ : أن يتسم بالأخلاق الإسلامية الراقية ، وبالأخص الأخلاق الآتية :
-
التقوى والخوف من الله تعالى واستشعار رقابته عندما يعالج المريض ، فيكون كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (ان تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)[3] .
-
التواضع لله تعالى ، ولمرضاه ، ولزملائه ، والتعامل على أساس الخلق الرفيع العالي مع الجميع .
-
الصدق ، والأمانة الشاملة لأمانة النظر والتصرفات ، والنزاهة والعفة ، والابتعاد الكامل عن الغش والخيانة والحسد والحقد وأمراض النفوس والقلوب .
سادساً : احترام تخصصه الطبي بمزيد من الاهتمام و الدراسة والإبداع ، مع احترام تخصص الآخرين ، وبالتالي فلا يعالج مريضاً خارج تخصصه ، بل يحوله إلى زميله المتخصص ، أو يستشيره ، وكذلك يدخل في احترام تخصصه أن لا يمارس مهنة يتعارض احترافها مع مهنة الطب ، كأن يعمل بالصيدلية بجانب عمله الطبي.
سابعاً : أن يلتزم بأسرار المهنة وقيمها الأخلاقية الإنسانية التي أقرها الإسلام ، وبالتالي فلا تؤثر فيه الدنيا بمالها وجاهها وشهواتها على الأمانة ، وعلى هذه القيم العليا يحيى فلا تشتري ذمته بكل ما في هذه الدنيا ولو كان المطلوب منه أمراً بسيطاً في الظاهر مثل كتابة الإجازة دون حق ، أو تقديم تقدرير غير صحيح ، فهذه أمانة عظيمة في أعناق الأطباء ومن في حكمهم.
ثامناً : أن يكون حريصاً على استشفاء المريض ، فلا يمتنع عن العلاج إلاّ لمبرر شرعي ، أو علمي مقبول ، وبالتالي فلا يجوز أيضاً التعاون لإنهاء حياة مريض بأي حال من الأحوال .
تاسعاً : ان لا يقوم بإجراء التجارب على مرضاه إلاّ بعد الحصول على إذنهم ، وعلى موافقة جهة الاختصاص .
عاشراً : أن يلتزم بالقوانين والأنظمة واللوائح والقرارات الصحية التي تصدر من السلطات المختصة ، والتي تنظم العلاقات والأمور الصحية العامة والخاصة .
وذلك لأن ذلك يدخل من الطاعة الواجبة لأولي الأمر ما دام لا يتعارض مع نص من نصوص الشريعة التزاماً بقوله تعالى : (يَـٰۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِى ٱلأَْمْرِ مِنْكُمْ)[4] .
تلك الوصايا العشر يجب على الطبيب أن يلتزم بها وهي بمثابة ميثاق شرف المهنة ، وهي الميثاق الغليظ ، والعقد الذي أمر الله تعالى بالوفاء به (يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَوْفُواْ بِـﭑلْعُقُودِ)[5] والعهد الذي فرض الله تعالى عليه (وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً)[6] .
الحفاظ على سرّ المهنة :
وعلى الرغم من أن هذا الأدب داخل في الوصايا العشر التي ذكرتها ، ولكن نلقي عليه بعض الأضواء لأهميته .
ويسمى أيضاً السر الطبي ، وسر مهنة الطب ، والمقصود به الحفاظ عما سمعه ورآه من المرض ، فلا يبوح بما يعتبر سراً يتأذى به المريض او من له صلة به ، والسر الطبي يشمل جميع المعلومات المتعلقة بصحة المريض وبسيرته الذاتية ، وعلاقاته الجنسية ونحوها .
ومن المعلوم في الدين بالضرورة ان الاعتداء على الأعراض حرام كحرمة الاعتداء على الأنفس والأموال ، وأن الإيذاء لكك إنسان ـ بدون حق ـ محرم بشتى أنواعه ، ولذلك كان إفشاء السر منهياً عنه شرعاً ، ومؤاخذاً عليه مهنياً وقانونياً ، وهو يدخل في خيانة الأمانة التي هي ليست من صفات المؤمنين الصادقين ، وأما المؤمنون فقد وصفهم الله تعالى بحفظ الأمانات فقال تعالى : (وَٱلَّذِينَ هُمْ لأَِمَـٰنَـٰتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَٰعُونَ)[7] وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم خيانة الأمانة من علامات النفاق[8] بل إن الحفاظ على أسرار المرضى جزء من القيم البشرية جميعاً التي أكدتها جميع الأديان المساوية ، بل إنه يوجد ضمن قَسَم (أمحوتب) أحد فراعنة مصر هذه العبارة (إن كل ما أسمعه في مهنتي ، أو خارجها مما لا يجوز إفشاؤه أو إذاعته لن أذيعه أبداً)[9] وجاء من بعده ابقراط اليوناني الذي ما زال قسمه سارياً على الخريجين من معظم كليات الطب حتى الآن ، وفيه (أن كل معلومات حصل عليها الطبيب خلال أداء مهمته سواء كانت معلومات طبية أم غير طبية ، سواء عرفها سماعاً أم مشاهدة أم مجرد إنتاج فهو سر لا يفشى معطى سر المهنة)[10] .
وقد أكد ذلك الأطباء المسلمون القدامى مثل ابن أبي اصيبعة في كتابه : عيون الأنباء في طبقات الأطباء ، حيث ذكر بعضاً من العهود التي أخذت على أطباء زمانه ، منها : (وأما الأشياء التي أعاينها أو أسمعها وقت علاج المرضى ، أو في غير أوقات علاجهم مما لا ينطق به خارجاً ، فأمسك عنه) كما ذكر بعض آداب الطبيب مثل (كمال التخلق ، وتوافر العقل ، والحرص على كتمان أسرار المرضى ، والفقه ، والعزوف عن إسقاط الأجنة إلى غير ذلك من مكارم الأخلاق)[11] .
وقد حرم الإسلام كشف الأسرار (إلاّ للضرورة وبضوابط نذكرها) لما يترتب عليه من الأضرار النفسية والمعنوية ، والبدنية ، والمالية ، بل يترتب على كشف الأسرار الطبية الإضرار بالمهنة نفسها ، حيث عندما يفقد المريض الثقة لا يبوح بكل ما لديه وبالتالي لا تنكشف حقيقة المرض ، بل إن الإسلام شدد في مسألة الحفاظ على الأمانات حتى أوجب على الشخص كتمان ما دار في المجلس إذا ظهر فيه ما يدل على رغبة الآخر في الكتمان حيث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال : (إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهو أمانة)[12].
فهذا الحديث يدل بوضوح على أن المجلس بأمان ، وأن المستشار مؤتمن .
قرار مجمع الفقه الاسمي الدولي في مؤتمره الثامن :
وقد صدر قرار عن مجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورة مؤتمره الثامن في 1 ـ 7 /1/1414هـ الموافق 21 ـ 27 يونيو 1993م ، قرار رقم (79(10/8) حول الحفاظ على سرّ المهنة ، حيث نص على أنه :
(( أولاً : السرّ هو ما يفضي به الإنسان إلى آخر مستمسكاً إياه من قبل أو من بعد ، ويشمل ما حفت به قرائن دالة على طلب الكتمان إذا كان العرف يقضي بكتمانه ، كما يشمل خصوصيات الإنسان وعيوبه التي يكره ان يطلع عليها الناس .
ثانياً : السر أمانة لدى من استودع حفظه ، التزاماً بما جاءت به الشريعة الإسلامية وهو ما تقضي به المروءة وآداب التعامل .
ثالثاً : الأصل حظر إفشاء السر ، وإفشاؤه بدون مقتضِ يعتبر موجباً للمؤاخذة شرعاً .
رابعاً : يتأكد واجب حفظ السر على من يعمل في المهن التي يعود الإفشاء فيها على أصل المهنة بالخلل ، كالمهن الطبية ، إذ يركن إلى هؤلاء ذوو الحاجة إلى محض النصح تقديم العون فيفضون إليهم بكا ما يساعد على حسن أداء هذه المهام الحيوية ، ومنها أسرار لا يكشفها المرء لغيرهم حتى الأقربين إليه
خامساً : تستثنى من وجوب كتمان السر حالات يؤدي فيها كتمانه إلى ضرر يفوق ضرر إفشائه بالنسبة لصاحبه ، أو يكون في إفشائه مصلحة ترجح على مضرة كتمانه ، وهذه الحالات على ضربين :
أ ـ حالات يجب فيها إفشاء السر بناء على قاعدة ارتكاب اهون الضررين لتفويض أشدهما ، وقاعدة تحقيق المصلحة العامة التي تقضي بتحمل الضرر الخاص لدرء الضرر العام إذا تعين ذلك لدرئه .
وهذه الحالات نوعان :
ـ ما فيه درء مفسدة عن المجتمع .
ـ وما فيه درء مفسدة عن الفرد .
ب ـ حالات يجوز فيها إفشاء السر لما فيه :
ـ جلب مصلحة للمجتمع .
ـ او درء مفسدة عامة .
وهذه الحالات يجب الالتزام فيها بمقاصد الشريعة وأولوياتها من حيث حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال .
سادساً : الاستثناءات بشأن مواطن وجوب الإفشاء او جوازه ينبغي أن ينص عليها في نظام مزاولة المهن الطبية وغيره من الأنظمة ، موضحة ومنصوصاً عليها على سبيل الحصر ، مع تفصيل كيفية الإفشاء ، ولمن يكون ، وتقوم الجهات المسؤولة بتوعية الكافة بهذه المواطن .
ويوصي بما يلي :
دعوة نقابات المهن الطبية ووزارات الصحة وكليات العلوم الصحية بإدراج هذا الموضوع ضمن برامج الكليات والاهتمام به وتوعية العاملين في هذا المجال بهذا الموضوع ، ووضع المقررات المتعلقة به ، مع الاستفادة من الأبحاث المقدمة في هذا الموضوع .
والله الموفق)) انتهى قرار المجمع .
القَسَم الطبي :
لأهمية الطب وتعلقه بذات الإنسان جرت العادة منذ نشاة الطب إلى يومنا هذا أن الطبيب عندما يؤذن له بممارسة الطب ان يقسم على مجموعة من القيم ، وقد سجل لنا التأريخ مجموعة من هذه الأيمان منها قَسَم (أمحوتب) وقَسَم (أبقراط)اللذان أشرت إليهما ، وقد رتب الطبيب موفق الدين أحمد بن أبي القاسم المعروف بابن أبي أصيبعة (المولود عام 600هـ بدمشق والمتوفى00000) قسماً مناسباً مع عقيدة الإسلام ، هذا نصه[1] : (أقسم بالله رب الحياة والموت ، واهب الصحة وخالق الشفاء وكل علاج ، وأشُهد أولياء الله من الرجال والنساء جميعاً على أني أفي بهذه اليمين وهذا الشرط ، وأرى أن المعلم لي هذه الصنعة بمنزلة آبائي ، وأواسيه في معاشي ، وإذا احتاج إلى مال واسيته ووصلته من مالي ، وأما الجنس المتناسل منه فأرى أنه مساو لاخوتي ، وأعلمهم هذه الصناعة إن احتاجوا إلى تعلمها بغير أجرة ولا شرط ، وأشرك أولاد المعلم لي والتلاميذ لي الذين كتبت عليهم الشرط وأحلف بالناموس الطبي في الوصايا والعلوم وسائر مافي الصناعة … ولا أعطي إذا طلب مني دواءً قتالاً ،ولا أشير بمثل هذه المشورة ، وكذلك أيضاً لا أرى ان أدني من النسوة فزوجة تسقط الجنين ، وأحفظ نفسي في تدبيري وصنعتي على الزكاة والطهارة ولا أشق أيضاً عمن في مثانته حجارة لكن أترك هذا إلى من كانت حرفته هذا العمل … وكل المنازل إنما ادخل إليها لمنفعة المرضى ،وانا بحال خارجة عن كل جور وظلم وفساد إرادي مقصود إليه في سائر الأشياء … وأما الأشياء التي أعاينها في أوقات علاج المرضى أو اسمعها في غير أوقات علاجهم في تصرف الناس من الأشياء التي لا ينطق بها خارجاً ، فأمسك عنها وأرى ام مثلها لا ينطق به) .
وقد أقر المؤتمر العالمي الأول للطب الإسلامي : الدستور الإسلامي للمهنة الطبية[14] الذي يتضمن القسم الطبي الآتي : (بسم الله الرحمن الرحيم : أقسم بالله العظيم أن أراقب الله في مهنتي ، وان أصون حياة الإنسان في كافة أدوارها ، في كل الظروف والأحوال ، باذلاً وسعي في استنقاذها من الموت والمرض والألم والقلق ، وأن أحفظ للناس كرامتهم ، وأستر عوراتهم ، وأكتم أسرارهم ، وان أكون على الدوام من وسائل رحمة الله تعالى ، باذلاً رعايتي الطبية للقريب والبعيد والصالح والخاطئ والصديق والعدو ، وأن أثابر على طلب العلم ، وأن أسخره لنفع الإنسان لا لأذاه ، وأن أوقر من علّمني ، وأعلّم من يَصغُرُني ، وأكون أخاً لكلّ زميل في المهنة الطبية في نظاق من البرّ والتقوى ، وان تكون حياتي مصداق إيماني في سرّي وعلانيتي نقيةً مما يشينها تجاه الله ورسوله والمؤنين ، والله على ما أقول شهيد) .
-
يراجع لمزيد من التفصيل : البحوث المقدمة حول هذا الموضوع من الأساتذة الدكاترة : علي داود ، وأحمد رجائي الجندي ، وعبدالستار أبو غدة ، ومحمد عطا السيد ، ومحمد علي البار ، ومصطفى عبدالرؤوف ، وسعود الثبيتي ، المنشورة في مجلة مجمع الفقه الإسلامي ، العدد 8 ، الجزء 3 ، ص 10 ـ 407 ، والموسوعة الطبية ص 651 ـ 655
-
سورة القصص / الآية 26
-
جزء من حديث صحيح رواه مسلم في صحيحه الحديث رقم 8 ورواه الترمذي الحديث 2613 وأبو داود 4695 والنسائي (8/97)
-
سورة النساء / الآية 59
-
سورة المائدة / الآية 1
-
سورة الإسراء / الآية 34
-
سورة المؤمنون / الآية 8
-
ونص الحديث:( آية المنافق ثلاث:إذا حدث كذب ، وإذا وعد اخلف ، وإذا اؤتمن خان) انظر : صحيح البخاري مع الفتح (1/83 ، 84) ومسلم الحديث 59
-
الموسوعة الطبية الفقهية ص 556
-
د. على داود الجفال : أخلاقيات الطبيب ، بحث منشور في مجلة المجمع المشار إليها سابقاً (3/17-18)
-
عيون الأنباء في طبقات الأطباء (1/35)
-
رواه الترمذي الحديث رقم 1882 وقال : هذا حديث حسن ، وأبو داود الحديث رقم 1882 ، وأحمد الحديث رقم 14531 ، 14706 ، وحسنه كذلك الحافظ العراقي ، شرح الإحياء (5/216)
-
عيون الأنباء في طبقات الطباء ص 17 وما بعدها
-
أبحاث وأعمال المؤتمر العالمي الأول عن الطب الإسلامي ط. وزارة الصحة العامة ـ المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت 1981م ، ص 700 ، ويراجع الموسوعة الطبية الفقهية ص 784 ـ 785