بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين وبعد
فلا يخفى أن عملية الاقتصاد المعاصر تسير بسرعة فائقة في عالم المال ، وأن الأفكار الاقتصادية تبدع في كل يوم جملة من الأساليب لتطوير الفكر المالي ، وعدداً من الأدوات لتسهيل عملية الدوران الاقتصادي ، وتبتكر كل الوسائل المتاحة لتسييل رؤوس الأموال بسرعة وسهولة ، وإن من هذه الوسائل الأسهم ، والسندات ، والوحدات الاستثمارية للصناديق ، حيث يمكن تسييلها في السوق الأولية والثانوية بسهولة ، وتداولها دون معاناة ، ولذلك دخلت المصارف والشركات الإسلامية في هذا المجال فبالإضافة إلى أسهمها ، فإنها قد تقوم بإصدار سندات مشروعة نسميها بالصكوك ، وبترتيب أوعية استثمارية من خلال صناديق ، أو محافظ استثمارية تقسم أموالها على وحدات متساوية أو حصص متساوية ، حيث يشترك فيها في البداية عدد من المستثمرين فيكتتبون فيها ، ثم يأتي دور التداول في الأسواق المالية ، أو حتى عن طريق مُصدر هذه الصكوك ، أو الوحدات وحينئذ تقف أمام البنوك والشركات الإسلامية والمستثمرين المسلمين مشكلة وهي أن هذه الوحدات ، أو الأسهم تتحول بعض موجوداتها إلى ديون ونقود ، وقد تزيد نسبتهما منفردة أو مجتمعة على الأعيان والمنافع والحقوق ، فهل يطبق على ذلك قواعد الصرف في حالة زيادة النقود ، أو قواعد بيع الدين في حالة زيادة الديون وإذا طبقت هذه القواعد فستحول دون المرونة الممكنة في التداول بالبيع والشراء ، وحينئذ لا تستطيع هذه الأسهم أو الصكوك أو الوحدات أن تؤدي دورها المنشود في الوصول بسهولة إلى السيولة .
هذه هي المشكلة التي تحتاج إلى حلّ ، وسوف نحاول جاهدين ( بالاعتماد على الله وحده) أن نطرح عدة حلول لهذه المشكلة ونبذل جهدنا في تأصيلها ، مع مناقشة الآراء المطروحة في هذا المجال داعين الله تعالى أن يوفقنا ويسدد خطانا ويجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهه الكريم إنه مولاي فنعم المولى ونعم النصير .
كتبه الفقير إلى ربه
علي محي الدين القره داغي
غرة جمادى الأولى 1422هـ
طرح المشكلة :
قبل أن نعرض المشكلة نبدأ بتعريف الأسهم والسندات المشروعة (الصكوك) والوحدات الاستثمارية .
أولاً : الأسهم : هي جمع سهم ، وهو لغة له عدة معان منها : النصيب ، وجمعه : ” السُهمان ” بضم السين ، ومنها العود الذي يكون في طرفه نصل يرمي به عن القوس ، وجمعه : ” السهام ” ، ومنها : بمعنى القدح الذي يقارع به ، أو يلعب به في الميسر ، ويقال : أسهم بينهم أي أقرع ، وساهمه أي باراه ولاعبه فغلبه ، وساهمه أي قاسمه وأخذ سهماً ، أي نصيباً ، جاء في المعجم الوسيط : ( ومنه شركة المساهمة )[1] .
وفي القرآن الكريم ( فساهم فكان من المدحضين )[2] ، أي قارع بالسهام فكان من المغلوبين[3]. والقانونيون يطلقون السهم مرة على الصك ، ومرة على النصيب ، فبالاعتبار الأول قالوا : السهم هو : صك يمثل جزءاً من رأس مال الشركة ، يزيد وينقص تبعاً لرواجها .
وبالاعتبار الثاني : قالوا : السهم هو نصيب المساهم في شركة من شركات الأموال ، أو الجزء الذي ينقسم على قيمته مجموع رأس مال الشركة المثبت في صك له قيمة اسمية ، حيث تمثل الأسهم في مجموعها رأس مال الشركة ، وتكون متساوية القيمة[4].
وقد عرف مجمع الفقه الإسلامي الدولي في قراره الرابع في دورة مؤتمره السابع : ( السهم بأنه حصة شائعة في موجودات الشركة وأن شهادة السهم هي وثيقة لإثبات هذا الاستحقاق في الحصة).
وتتميز الأسهم بكونها متساوية القيمة ، وان السهم الواحد لا يتجزأ ، وأن كل نوع منها ـ عادياً أو ممتازاً ـ يقوم ـ من حيث المبدأ ـ على المساواة في الحقوق والالتزامات وأنه قابل للتداول .
وليس من مهام هذا البحث الدخول في تفاصيل أنواع الأسهم وأحكامها[5] ، وإنما الذي يعنينا أن حكم الإسهام من حيث المبدأ أنه مشروع ما لم يكن نشاط الشركة محرماً[6].
ثانياً : السندات : وهي من حيث المشروعية وعدمها نوعان :
أ . السند ( التقليدي ) الذي تصدره الحكومات ، أو الشركات بفوائد محرمة ، فهو في عرف الاقتصاد الحديث عبارة عن وثيقة بقيمة محددة يتعهد مصدرها بدفع فائدة دورية في تأريخ محدد لحاملها ، وبعبارة أخرى فإن السند عبارة عن صك يمثل حقاً للمقرض ـ أي الدائن ـ له قيمة اسمية واحدة وهو قابل للتداول وغير قابل للتجزئة تقدمه الدولة أو الشركة للدائن لقاء قرض مؤجل يتم عن طريق الاكتتاب العام[7].
وكما تصدر الحكومة السندات كذلك تصدرها بعض المؤسسات والشركات الخاصة في كثير من الدول حين تحتاج إلى أموال جديدة إما لرفع قدراتها ، أو للتوسع في مشاريعها .
والتكييف المتفق عليه عند الاقتصاديين للسندات هو أنها وثيقة بدين ، ولذلك يعامل مالكها كمقرض ، وليس كصاحب سهم ، وتسري عليه القوانين المنظمة للعلاقة بين الدائن والمدين .
والسندات تشترك مع الأسهم في تساوي القيمة الاسمية لكل فئة ، وقابليتها للتداول سواء كانت اسمية ، أم للآمر،أم لحاملها ، وفي عدم قابليتها للتجزئة،غير أن السندات تتميز عن غيرها بالخصائص الآتية :
1.أن السند يعتبر شهادة دين على الشركة ، وليس جزءاً من رأس المال كما هو الحال في الأسهم.
2.حصول صاحبه على الفائدة الدورية المقررة له دون النظر إلى أن الشركة ربحت ، أم خسرت ، أو كانت الأرباح كثيرة ؟! .
3.عدم مشاركة صاحبه في إدارة الشركة .
4.تحديده بوقت محدد على عكس الأسهم ، وبالتالي يحصل صاحبه على قيمة سنده وفوائده في التأريخ الذي حدد له دون النظر إلى تصفية الشركة ، ومدده مختلفة أقصرها تسعون يوماً ، وبعضها يمتد إلى مائة عام ، على أن بعض السندات تستمر لحين قيام المصدر باستدعائها ، أو شرائها من السوق .
5.يحصل حامله على ضمان خاص على بعض موجودات الشركة وقد يكون الضمان عاماً على أموالها ، ولذلك يحصل على حقه في حالات التصفية قبل أن يحصل حامل السهم على أي شيء[8].
حكم السندات :
السندات التقليدية محرمة باتفاق ، وصدر قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي بحرمتها في دورته السادسة ( قرار رقم 62 / 11 / 6 ) .
ب . السندات المشروعة : وهي التي تسمى بصكوك المقارضة أو الإجارة ، أو المشاركة ، أو نحوها ، وهي البديل الإسلامي للسندات التقليدية،حيث صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي في دورته الرابعة بمشروعية صكوك المقارضة إذا توافرت مجموعة من الشروط والضوابط (قرار رقم”5″د4 /08/88).
الصكوك :
يقصد بها أداة استثمارية تقوم على تجزأة رأس المال على حصص متساوية ، وذلك بإصدار صكوك ملكية برأس المال على أساس وحدات متساوية القيمة ، ومسجلة بأسماء أصحابها باعتبارهم يملكون حصصاً شائعة في رأس المال وما يتحول إليه بنسبة ملكية كل منهم فيه[9] .
ثالثاً : الوحدات أو الحصص للصناديق أو المحافظ الاستثمارية :
الوحدات ، أو الحصص للصناديق ، أو المحافظ الاستثمارية بمعنى واحد يقصد بها أن يقوم البنك بترتيب محفظة ، أو صندوق استثماري لنوع من الاستثمار ، أو لعدد منه ، أو لكل أنواع الاستثمار ، ثم يقسم الأموال المطلوبة لهذا الصندوق ، أو المحفظة على حصص متساوية من حيث القيمة الاسمية ، والحقوق والالتزامات ، وهي في حقيقتها بمثابة الأسهم للشركات ، وحكمها الجواز دون خلاف[10].
المشكلة :
هذه الأسهم ، والصكوك المشروعة ، والوحدات الاستثمارية تمرّ بخمس مراحل :
المرحلة الأولى : التأسيس والاكتتاب .
ففي هذه المرحلة يعتبر من يدفع القيمة الاسمية ( أو جزءاً منها حسب لوائح الشركات ) مشاركاً ، ويعتبر ما دفعه ثمن الأسهم التي اشترك بها ، أو بعض ثمنها ، ويصبح شريكاً بذلك القدر من الأسهم ، وهذا جائز شرعاً .
المرحلة الثانية : مرحلة ما بعد تجميع النقود وقبل أن تتحول إلى أعيان ومنافع ففي هذه المرحلة لا يجوز للمشاركين أن يبيعوا أسهمهم ، أو صكوكهم ، أو وحداتهم الاستثمارية إلاّ مع تطبيق قواعد الصرف[11] حسب قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم 30(5/4) ، من ضرورة التماثل والتقابض في المجلس إن كان البيع بنفس النقد ( مثل الريال القطري بالريال القطري ) ومن ضرورة التقابض في المجلس إن كان بنقد آخر ( مثل بيع الريال بالدولار ) ولكن يجوز بيعها بالعروض ، أما إذا كانت الحصص المقدمة ، أو أكثرها كانت أعياناً ومنافع وحقوقاً معنوية ( حيث تجوز المشاركة بغير النقود أيضاً في القانون ، وكذلك في الفقه الإسلامي على الرأي الراجح)[12] ، وحينئذ لا يمنع التداول بطريق البيع العادي .
وليس في تطبيق قواعد الصرف في حالة كونها نقوداً حرج كبير ، إذ أنها مرحلة قصيرة متحملة ، وغالب الناس لا يدخلون في هذه الشركات أو المحافظ ليوم أو يومين .
المرحلة الثالثة : تحول النقود كلها أو معظمها إلى أعيان ومنافع وحقوق معنوية وظلت هذه النسبة باقية ، أي لم تزد نسبة النقود أو الديون منفردة ، أو مجتمعة على 50% . ففي هذه الحالة يجوز تداولها ، لأنها في حكم الأعيان والمنافع والحقوق التي يجوز بيعها والتصرف فيها ، كما صدر بذلك قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي رقم 30(5/4).
المرحلة الرابعة : تحول السلع والأعيان والمنافع كلها أو معظمها إلى أثمان عاجلة ( نقود ) وآجلة (ديون) من خلال المرابحات والبيع الآجل ، وبالتقسيط ، كما هو الحال في البنوك الإسلامية حيث يتحول جزء كبير من أموالها إلى الديون والنقود ، بحيث نرى أن ميزانيتها يتمثل معظمها في الديون الناشئة عن المرابحات والبيوع الآجلة وبالتقسيط ن وفي النقود المتوافرة لديها إضافة إلى الأعيان والمنافع والحقوق المعنوية المكتسبة من الترخيص التجاري والسمعة ونحوها التي قد لا تصل في بعض الأحيان إلى 30% .
وكذلك الحال في صكوك المقارضة ، والمشاركات ، وصكوك الاستصناع ، والبيوع والمرابحات ، حيث يتحول مقابلها إلى نقود أو ديون للبنوك أو الجهة المصدرة لها .
ولا يختلف الحال عن الصناديق الاستثمارية التي جعلت نشاطها في البيوع الآجلة وبالتقسيط ، والمرابحات في السلع والمعادن ، وعادة هذه الصناديق والبنوك الإسلامية لا تحتفظ بالسلع والبضائع والعقارات ونحوها فترة طويلة ، وإنما بمجرد شرائها وقبضها ، ودخولها في ملكيتها تقوم ببيعها بالآجل عن طريق المرابحات أو البيوع الآجلة ، وحتى الاستصناع يتحول ثمنه في الغالب بعد إتمام العقد إلى ديون ، وما يؤخذ منها كمقدمة ، أو يسترد فهو نقود ، وحينئذ قد تكون نسبة الأعيان الموجودة والمنافع والقيمة المعنوية أقل بكثير من 50% .
ففي هذه الحالة لو نظرنا إلى موجودات تلك البنوك ، والصكوك ، والمحافظ الاستثمارية لوجدنا أنها مختلطة من كل هذه الأشياء التي ذكرناها ، وقد تكون نقودها ، أو ديونها منفردة أو مجتمعة أكثر من الأعيان والمنافع والحقوق المعنوية ، فأين الحل ؟
فإذا تعاملنا مع هذه القضية بنظرة كلية وبالجملة لا بالمفرد ونظرنا إلى مكوناتها نظرة كلية واحدة لربما نجد حلاً ، أو حلولاً لها ، وذلك لأن للاجتماع ـ كما يقول الإمام الشاطبي ـ تأثيراً في أحكام لا تكون في حالة الانفراد)[13] ، أما إذا نظرنا إليها نظرة انفرادية وعالجنا كل مكون من مكوناتها علاجاً فردياً خاصاً به بأن ننظر إلى الديون فإن كانت هي الغالبة فقلنا بضرورة تطبيق قواعد بيع الدين وهي قواعد صعبة غير مرنة لا تسمح إلاّ ببيعها بالأعيان ، أو بشروط صعبة مع خلاف كبير في جواز بيعها[14]. وكذلك الحال في النقود حيث إذا طبقنا عليها قواعد الصرف لحالت فعلاً دون الوصول إلى الهدف المنشود من سهولة تسييل هذه الأموال وتداولها التدوال المطلوب !!
هذه هي المشكلة التي يركز البحث على حلها دون التطرق إلى بقية شروط الأسهم والصكوك ، والوحدات الاستثمارية .
ما لا يدخل في موضوع البحث :
في هذه الحالة لا يتحقق الاشكال في صندوق الإجارات العادية ، ولا صندوق الإجارات مع الوعد بالتمليك في صوره المجازة ، ولا في صكوك الإجارات بنوعيها ، ولا في أسهم شركات خاصة بالعقارات والسيارات والسفن ، والطائرات ، والمصانع ، ونحوها مما تبقى الأعيان أو معظمها فترة من الزمن ، ثم تباع بأثمان عاجلة تتحول فوراً إلى أعيان وسلع ومنافع وحقوق معنوية .
وهكذا الأمر في الصكوك والوحدات الاستثمارية الخاصة بإنشاء صناديق خاصة لتلك السلع والأعيان المذكورة آنفاً ، حيث لا يرد عليها هذا الإشكال ، وكذلك الحال في حصص صناديق الأموال قصيرة المدة او المؤقتة ما دامت لا تصل نسبة ديونها ، أو نقودها إلى النسب التي ذكرناها في الأسهم .
كما أن هذا الاشكال لا يرد على الصناديق أو الشركات المغلقة[15] التي تصفى في آخر المدة مرة واحدة ، ثم يفتح الاشتراك فيها من جديد ، لأنه ليس هناك عملية تداول أثناء النشاط ، ولا بعده ، وإنما هو عبارة عن مشاركة ، ثم تصفية وردّ للأموال لأصحابها .
المرحلة الخامسة : مرحلة التصفية عند توقف نشاط الشركة ، أو الصندوق ، وحينئذ تكون معظم حقوقها ديوناً آجلة ، أو نقوداً ، وما بقي من الأعيان تباع لأجل التصفية ، ففي هذه المرحلة الأخيرة لا بدّ أن تطبق عليها قواعد الصرف ، وقواعد بيع الديون وهذه المرحلة (مرحلة التصفية) لا تدخ