الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعامين محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين
وبعد :
فإن مما لاشك فيه أن الاقتصاد الإسلامي لا تكتمل جوانبه ولا يكون له دور مؤثر بمجرد ظهور مؤسسات مالية إسلامية (المصارف الإسلامية والشركات الملتزمة) على الرغم من أهميتها ، وإنما يتحقق ذلك إذا طبق على مختلف الأنشطة الاقتصادية والمالية ، وتوافرت الآليات والعقود ، والصيغ ، والأساليب المختلفة لتنمية الأموال واستثمارها ، ومن أهم هذه الآليات وجود (البورصة) التي هي بمثابة الرئة للمؤسسات المالية الإسلامية التي يكون من خلالها زفيرها وشهيقها .
ومن جانب آخر فإن من أهم آليات البورصة الإسلامية صكوك الاستثمار بمختلف أنواعها وصورها ، ومن هنا تأتي أهمية هذا الموضوع الذي نال عناية مجمع الفقه الإسلامي الدولي الموقر الذي شرفني أمينه العام حفظه الله باستكتابي في موضوع صكوك الإجارة ، وقد بذلت فيه جهدي ورجعت له مختلف المصادر القديمة والحديثة إضافة إلى القرارات والفتاوى والتوصيات التي صدرت من المجامع الفقهية ، والندوات والحلقات الفقهية ، إضافة إلى خبرتنا في التعامل مع البنوك الإسلامية والشركات الملتزمة لحوالي عشرين عاماً .
نسأل الله تعالى أن يوفقنا لخدمة الإسلام ونظامه الاقتصادي ومختلف أنظمته التي فيها سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة ، كما نسأله تعالى أن يوفقنا لما فيه الخير والسداد والرشاد ، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم ، ويعصمنا من الخطأ والزلل في العقيدة والقول والعمل إنه مولاي فنعم المولى ونعم النصير .
كتبه الفقير إلى ربه
علي بن محيى الدين القره داغي
ذو القعدة 1424هـ الدوحة
المبحث الأول
التعريف بصكوك الإجارة
وخصائصها ، والفروق بينها وبين غيرها ، والضوابط العامة ، وبعض أحكام الإجارة ..
التعريف بصكوك الإجارة :
صكوك الإجارة مصطلح مركب من كلمتين هما (صكوك) و (الإجارة) نعرف بهما ثم نعرف بالمصطلح المركب .
أولاً : الصكوك : هي جمع صك وهو معرب يُعنى به : وثيقة بمال ، او نحوه[1] ، وفي اللغة العربية يقال صكّه صكّاً أي دفعه بقوة وفي التنزيل العزيز ( فصكّت وجهها )[2] أي لطمته تعجباً ، وصكت الباب أي أغلقته ، والصك لفظ معرب يقصد به وثيقة بمال ، أو نحوه ، ويطلق على الشيك الذي تصّدره المصارف[3] ، وعلى صك الوقف ، أو صك المحكمة ، او صك الإثبات ، او نحو ذلك .
ثانيا : الإجارة : لغة هي الأجر على العمل ، وتستعمل في العقد الذي يرد على المنافع بعوض[4] .
وفي اصطلاح الفقهاء هي عقد على المنافع بعوض[5] ، وقال بعضهم : هي بيع المنافع[6] ، والراجح أن الإجارة هي : تمليك منفعة معلومة زمناً معلوماً بعوض معلوم[7] .
والإكراء ، والكراء في اللغة وعند جمهور الفقهاء بمعنى الإجارة غير أن المالكية سموا العقد على منافع ما لا ينقل كالأرض والدور وما ينقل من سفينة وحيوان كالرواحل كراء[8] .
ولا تختلف الإجارة في القانون كثيراً عما ذكره الفقه الإسلامي ، حيث نصت المادة 558 من القانون المدني المصري بأنها : (عقد يلتزم المؤجر بشيء معين مدة معينة لقاء أجر معلوم) .
ثالثاً : صكوك الإجارة : هي وثائق متساوية القيمة تمثل حصصاً شائعة في منافع أو خدمات عين معينة ، أو موصوفة في الذمة .
المصطلحات ذات الصلة بالموضوع :
أولاً : السندات : جمع سند ، والسند لغة بمعنى الاعتماد ، والركون إليه ، والاتكاء عليه ، وما ارتفع من الأرض في قبل الوادي ، أو الجبل ، والجمع أسناد ، وغير ذلك[9] .
والسند في عرف الاقتصاد الحديث عبارة عن وثيقة بقيمة محددة يتعهد مصدرها بدفع فائدة دورية في تأريخ محدد لحاملها .
وكما تصدر الحكومة السندات كذلك تصدرها بعض المؤسسات والشركات الخاصة في كثير من الدول.
والتكييف المتفق عليه عند الاقتصاديين للسندات هو أنها وثيقة بدين ، ولذلك يعمل مالكها كمقرض ، وليس كمالك ، وتسري عليه القوانين المنظمة للعلاقة بين الدائن والمدين .
والسندات تشترك مع الأسهم في تساوي القيمة الاسمية لكل فئة ، وقابليتها للتداول حسب كونها اسمية ، أو للآمر ، او لحاملها ، وفي عدم قابليتها للتجزؤ ، غير أن السندات تتميز عن غيرها بالخصائص الآتية :
1. أن السند يعتبر شهادة دين على الشركة ، وليس جزءاً من رأس المال كما هو الحال في الأسهم .
2. حصول صاحبه على الفائدة الدورية المقررة له دون النظر إلى أن الشركة ربحت أم خسرت ، أو كانت الأرباح كثيرة ؟!
3. عدم مشاركة صاحبه في إدارة الشركة .
4. تحديده بوقت محدد على عكس الأسهم ، وبالتالي يحصل صاحبه على قيمة سنده وفوائده في التأريخ الذي حدد له ، دون النظر إلى تصفية الشركة ، ومدده مختلفة أقصرها تسعون يوماً ، وبعضها يمتد إلى مائة عام ، على أن بعض السندات تستمر لحين قيام المصدر باستدعائها ، أو شرائها من السوق .
5. يحصل حامله على ضمان خاص على بعض موجودات الشركة وقد يكون الضمان عاماً على أموالها ، ولذلك يحصل على حقه في حالات التصفية قبل أن يحصل حامل السهم على أي شيء [10].
وللسندات أنواع كثيرة لا يسع المجال لذكرها ، ولكنها جميعاً محرمة ما دامت ديوناً تترتب عليها فوائد ربوية ، وهذا ما صدر بشأنه قرار من المجمع الفقهي الدولي(رقم 62/11/6) نص على :
((1: إن السندات التي تمثل التزاماً بدفع مبلغها مع فائدة منسوبة إليه أو نفع مشروط محرمة شرعاً من حيث الإصدار أو الشراء أم التداول ، لأنها قروض ربوية سواء أكانت الجهة الجهة المصدرة لها خاصة أو عامة ترتبط بالدولة ولا أثر لتسميتها شهادات أو صكوكاً استثمارية أو ادخارية أو تسمية الفائدة الربوية الملتزم بها ربحاً أو ريعاً أو عمولة أو عائداً .
2 : تحرم أيضاً السندات ذات الكوبون الصفري باعتبارها قروضاً يجري بيعها بأقل من قيمتها الاسمية ، ويستفيد أصحابها من الفروق باعتبارها خصماً لهذه السندات .
3: كما تحرم أيضاً السندات ذات الجوائز باعتبارها قروضاً اشترط فيها نفع و زيادة بالنسبة لمجموع المقرضين ، أو لبعضهم لا على التعيين ، فضلاً عن شبهة القمار.)) .
الفروق الأساسية بين الصكوك الاستثمارية والسندات :
فالفروق الجوهرية بين السندات والصكوك الاستثمارية تكمن فيما يأتي :
1ـ السندات بجميع أنواعها تمثل ديناً في ذمة المدين مصدر الصك لصالح دائنه (حامل الصك) فالعلاقة بينهما علاقة المداينة .
وأما الصكوك الاستثمارية فهي تمثل حصة شائعة من جميع موجودات المشروع ، وبالتالي فالعلاقة بين صاحب الصك ، والمصدر هو علاقة المشاركة وليست علاقة المداينة .
2ـ السندات تحدد لها فائدة ثابتة ، أو متغيرة من زمن إلى آخر ، ولذلك صدرت قرارات المجامع الفقهية بحرمة السندات لأن تلك الفائدة هي الربا المحرم .
وأما صكوك الاستثمار فليست لها فائدة ثابتة أو متغيرة ، وإنما الأمر فيها إذا تحقق لها الربح فهي تأخذ نصيبها منه ، وإذا خسرت الشركة فإن الموجودات التي يمثلها الصك الاستثماري قد قلت ، أي ان الصك الاستثماري خاسر بنسبة نصيبه من الخسارة .
والخلاصة أن الصك الاستثماري يتأثر بموجودات المشروع سلباً وإيجاباً ، ربحاً وخسارة ، في حين أن السند لا يتأثر بأي شيء ، وإنما يأخذ صاحبه أصل الدين مع الفائدة المقررة المتفق عليها .
3ـ عند تصفية المشروع يكون لصاحب السند الأولوية في الحصول على قيمة السند وفوائده المتفق عليها ، أما الصك الاستثماري فليس له الأولوية ، وإنما تصرف له نسبته مما يتبقى من موجودات المشروع بعد سداد الديون ، أي أن موجودات المشروع ملك لأصحاب الصكوك وتعود إليهم[11] .
ثانياً : شهادات الاستثمار :
هذا المصطلح لولا أنه سبق استعماله في سندات الديون من قبل بعض البنوك التقليدية لكان المراد الظاهر منه هو : صكوك الاستثمار ، أو الصكوك الاستثمارية ، وذلك لأن لفظ (شهادات) تعني ما يثبت المدلول من ورقة ونحوها ، والمراد بها هنا الورقة ، أو الصك ، والاستثمار يقصد به تنمية المال عن طريق التجارة والتداول ونحوهما .
ولكن هذا المصلح (شهادات الاستثمار) قد اشتهر استعماله في السندات التي أصدرها البنك الأهلي في مصر على شكل فئة ـ أ ـ ، أو ـ ب ـ والتي تعتبر قرضاً بفائدة ، حيث يصبح البنك ملتزماً برد المبلغ المدفوع مع فوائده[12] .
وسماها البنك الأهلي : شهادات البنك الأهلي المصري ، بالجنيه المصري ، ونصت نشرة إصدارها على أنها : (تعطيك عائداً يصرف كل ثلاثة شهور يصل إلى 57,5% من قيمة الشهادة ، يصرف العائد بواقع 10% عن السنة الأولى ويتزايد حتى يصل إلى 13,5 عن السنة الأخيرة …يمكن استرداد قيمة الشهادة في أي وقت ، وتدفع قيمتها بالكامل دون أية استقطاعات بالإضافة إلى العائد المستحق) .
ثالثاً : شهادات ادخار بنك مصر الدولارية التي نصت نشرة إصدارها على أنها (تضمن لك أعلى سعر فائدة في سوق المال المصرية وهي 16% صافي سنوياً) .
فهذه الشهادة وإن كانت سميت بشهادات ادخار ، وأن الادخار لا يعني الاقتراض بفائدة ، ولكن واقع هذه الشهادات كما رأينا يقوم على فائدة ربوية محددة ولذلك فهي محرمة داخلة ضمن قرار مجمع الفقه الإسلامي الذي سبق ذكره .
رابعاً : سندات التنمية أو شهادات التنمية التي تطلق على حالات اقتراض الدولة من السوق المحلي ـ غالباً ـ وهو ما يطلق عليه : الدين العام ، فهذه السندات أو الشهادات تقوم على الاقتراض بفوائد محرمة[13] ، وبالتالي فهي داخلة في قرار المجمع السابق .
الحاجة الاقتصادية والمالية إلى إصدار الصكوك الإسلامية :
مما يخفى أن السوق المالية الإسلامية تحتاج حاجة ملحة لإصدار صكوك الاستثمار الإسلامية لما يأتي:
أولاً : أن هذه الصكوك تساعد على النهوض بالاقتصاد الإسلامي نظرياً وعملياً .
أما نظرياً فهذه الصكوك الإسلامية استكمال لبقية الآليات والأدوات الاقتصادية التي يتطلبها الاقتصاد الإسلامي ، إذ أن الاقتصاد الإسلامي لا ينحصر دوره في الوسائل التي تخلو من الربا ، ولا في البنوك الإسلامية أو شركات التأمين الإسلامي ، أو الشركات الاستثمارية أو التمويلية الإسلامية ، وإنما يشمل كل جوانب الاقتصاد الذي تعتبر الأدوات الاستثمارية جزءاً مهماً فيه وركناً وركيناً من أركانه ، إضافة إلى أن وجودها يدل على عظمة النظام الإسلامي وشموليته وقدرته على التطوير والازدهار مع الحفاظ على ثوابته.
وأما عملياً فإن الجمهور الإسلامي الملتزم بأحكام الشريعة الإسلامية يحتاجون للاستثمار عن طريق هذه الأدوات الاستثمارية المعاصرة ، كما أن المؤسسات المالية الإسلامية أحوج ما تكون إلى هذه الأدوات لتحقيق مقاصدها الشرعية المتنوعة لما يأتي :
أ ـ إنها تحتاج إلى مزيد من الأدوات وطرح المنتجات لكسب المستثمرين وتوزيع قاعدة الاستثمار الإسلامي ، وذلك لأن لكل أداة استثمارية أصحابها والراغبين فيها ، وبالتالي تتضخم مجموعة طيبة من هؤلاء إلى الاستثمار الإسلامي.
ب ـ إن البنوك المركزية تشترط على البنوك الإسلامية أن تدع نسبة من ودائعها ، او من الحساب الجاري في حساب البنك المركزي في كل بلد ضماناً للسيولة ونحوها ، وحينئذٍ تجمد هذه النسبة دون فائدة ، لأن البنوك الإسلامية لا تأخد الفوائد في حين أن البنوك الربوية إما أن تأخذ عليها فوائد ، او تضع في البنك المركزي سندات الخزينة ، لذلك فوجود صكوك الاستثمار الإسلامي يساعد البنوك الإسلامية للاستفادة من كافة ما لديها من نقود وسيولة بطاقة قصوى من خلال ايداع مثل هذه الصكوك بالقدر المطلوب لدى البنك المركزي .
ج ـ إن وجود هذه الأدوات الاستثمارية الإسلامية يرفع الحرج عن شريحة كبيرة من المستثمرين الذين يحتاجون إلى مثلها لأسباب اقتصادية معقولة .