وقبل أن أذكر الرأي الراجح أقوم بتحرير محل النزاع حتى يكون الخلاف محدداً ، والرؤية واضحة ، ولا يقع خلط أو تلبيس ، من خلال ما يأتي :

أولاً ـ أننا نقصد بالمظاهرات المشروعة التي نُرجحها : أن تتوافر فيها الشروط والضوابط الآتية :

1- المظاهرات السلمية التي يتجرد أصحابها عن الأسلحة ، وإن واجهتها الحكومة بالأسلحة ظلماً وعدواناً ، فهذا لا يخرجها عن السلمية  ، أما الخروج المسلح على الحكومة فهذا أمر آخر ليس محل بحثنا هذا .

2- المظاهرات التي تُقام ، أو تنشأ بسبب وجود مظالم على العباد والبلاد ، أو على فئة معينة ، أو بسبب قيام الدولة بسنّ تشريعات وقوانين متعارضة مع أحكام الشريعة ، كإباحة الربا ، والخمور ، والفسق والفجور ، أو بسبب تقصير الدولة في تحقيق المعروف أو في تشجيع الفحشاء والمنكر ، والبغي ، أو بسبب تقصيرها في تحقيق التنمية الشاملة ، ومكافحة الفقر والبطالة ، أو بسبب تسببها في التضخم ورفع الأسعار ، والاحتكار وغير ذلك من المفاسد والمضار التي تتعلق بالأمة ، أو الشعب ، أو الاقليم ، أو أهل صنعة أو نحو ذلك .

 ومن التقصير ، بل من المنكر أيضاً تقاعس الدولة عن القيام بواجبها نحو قضايا أمتها مثل قضية فلسطين ، ونحوها ، ناهيك عن الاضرار بها ، وأما ولاء النصرة للمحتلين وأعداء الأمة والدين من دون المؤمنين ، بحيث تساعد الدولة أعداء الدين المعتدين بأي دعم أو مساعدة ضد المسلمين المظلومين فهو من الكبائر قطعاً ، بل قد تصل في بعض صوره إلى الكفر البواح .

 ومن هنا فإن أي مظاهرة ضد الحكومة أو الشركة ، أو نحوهما إذا لم يكن لها سبب مشروع ، فليست مشروعة لما يترتب عليها من مفاسد دون مبرر مشروع .

3- المظاهرات التي لها مقاصد مشروعة مثل رفع الظلم والعدوان ، ومنع الفواحش والمنكرات ، وتحقيق الخير والتنمية الشاملة ، والانصاف ، ومكافحة الأمية ، والفقر ، والتضخم ، والبطالة ، وبعبارة موجزة لا بدّ أن تكون للمظاهرة مقاصد مشروعة ، وغايات مرجوة ، وأهداف منشودة .

 أما المظاهرة بدون هدف مشروع بل لأجل المظاهرة ، أو لأجل مآرب شخصية أو حزبية فليست من هذه المظاهرة التي نتحدث عن حكمها في هذا البحث .

4- أننا نقصد بالمظاهرات المشروعة : المظاهرات  التي لا يقصد من خلالها ارتكاب المحظورات الشرعية المتفق عليها ، ولا يصاحبها أصالة فعل المحرمات الثابتة .

ثانياً ـ التأصيل الدقيق للمظاهرات السلمية :

 إن المظاهرات السلمية ليست خروجاً على الحاكم ، أو السلطة ، وإنما لها ثلاث حالات ، او مراحل ، وهي :

الحالة الأولى : أن تكون المطالبة بإصلاح النظام فقط سواء كان إصلاحاً شاملاً ، أو لبعض الجوانب ، فهذا أمر مشروع ، بل مطلوب داخل في باب المناصحة لأولياء الأمور ، ومن باب التواصي بالحق ، ولا يدخل في باب الخروج على الحاكم قطعاً .

الحالة الثانية : أن تبدأ المظاهرات الشعبية العارمة مطالبة بالإصلاحات ، ثم لا يستجيب لها الحاكم ، وإنما يواجهها بالعنف والقتل والضرب والتعذيب ، كما رأينا ذلك في تونس ، ومصر ، واليمن ، وسوريا ، وليبيا ، ففي هذه الحالات تتغير المطالبة إلى التغيير وإسقاط نظام الحكم ، وهذا أيضاً أمر مشروع ، لسبيين :

السبب الأول : أن الشعب هم في نظر الإسلام أهل الحل والعقد على سبيل الحقيقة ، فإذا طالب جميعهم ، أو جماهيرهم العظمى بالحل وفسخ العقد ، فهذا حق لهم كما أن لهم الحق في العقد والبيعة .

السبب الثاني : أن مقاصد الشريعة في نصب الحكام هي الحفاظ على مصالح البلاد والعباد ، والحفاظ على الضروريات الست ، والوطن ، فإذا عكس الحاكم ذلك المقصد فبدأ بالفساد والإفساد ، والقتل والتعذيب فقد فَقَدَ شرعيته ، وأصبح بلا غطاء شرعي ولا شعبي .

 ثم إن هذه المطالبة ليست خروجاً على الحكم ، وإنما استعمال الشعب حقه الذي منحه الها تعالى .

الحالة الثالثة : أن تبدأ المظاهرات من بدايتها بالمطالبة بإسقاط النظام .

وهنا ننظر في هذه المسألة :

أ ـ فإن كانت أسباب المظاهرة مشروعة حيث توجد المظالم الحقيقية العامة ، أو الفساد في الأموال العامة ، أو التقصير البيّن في حقوق الأمة ، أو المخالفة لشروط العهد ( الدستور ) الذي نظم العلاقة بين الشعب والحاكم فإن تلك المطالبة تدخل ضمن الحقوق المشروعة للشعب صاحب حق العقد والحل وحينئذ إذا كانت المظاهرة تمثل غالبية الشعب المصرة على التغيير فيجب على الحاكم أن يستجيب لهذه المطالب المشروعة عن طريق الحوار والمفاوضات حتى لا يترتب على ذلك ضرر كبير ، وقد قال القاضي عياض : ( فلو طرأ عليه ـ أي على الإمام ـ كفر ، وتغيير للشرع …. خرج عن حكم الولاية ، وسقطت طاعته ، ووجب على المسلمين  القيام عليه ، وخلعه ، ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك ، فإن لم يقع ذلك إلاّ لطائفة وجب عليهم القيام وخلع الكافر ، ولا يجب في المبتدع إلاّ إذا ظنوا القدرة عليه1 )  .

ب ـ أما إذا كانت أسباب المظاهرات غير مشروعة فهي غير جائزة ، ويجب على الحكومة أن توضح هذه المسائل وتكشف زيف الأسباب الموهومة لمظاهرتهم عن طريق الحوار ، وأهل العلم ، كما حدث مثل ذلك في أيام الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، حيث قامت ضده الخوارج لأسباب غير مقبولة شرعاً ، فأرسل إليهم ابن عباس رضي الله عنهما ، فناقشهم وفَنّد آراءهم ، فتراجع منهم خلق كثير ، كما هو معروف .

 كما يجب على الحكومة أن تُحَسّن من أدائها وأن تكون واسعة الصدر ، وتسمح لكل ما يقولون فإن كان فيه حق تنفذه ، وإلاّ فالحوار ، ثم الأمر بفض المظاهرة .

ثالثاً ـ إن معظم التشدد يأتي من دائرة التوسع في دائرة البدعة المحرمة ، مع أن التحقيق يقتضي أن لا نعطي لها حجماً أكبر ، ولا وزناً أثقل من وزنها ، كما لا ينبغي ، بل لا يجوز أن توسع دائرة البدعة المحرمة لتشمل كل شيء جديد ، وحينئذ تتوقف الحياة عن الحركة والتطوير ، وبالتالي فلا يتناسب مع صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان ، ولذلك حصر العلماء الاثبات لمعناها قديماً وحديثاً في ( إحداث شعيرة تعبدية قولية ، أو فعلية ، أو عقدية لم يشرعها الله تعالى ) . 

 يقول الامام الشاطبي : ( فالبدعة إذن عبارة عن طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشريعة ، يقصد بالسلوك عليها : المبالغة في التعبد لله سبحانه ) ثم قال : ( وإنما قيدت بالدين ؛ لأنها لو كانت طريقة مخترعة في الدنيا على الخصوص لم تُسمّ بدعة كإحداث الصنائع2 … )  .

 وقد أكد معظم المفسرين هذا المعنى السابق ، ولذلك لم يجعلوا الهيئات الخاصة بالعمائم والملابس ، وما يقوم على العادات والأعراف من البدع ، بل جعلوا ما فيه من المصالح معتبراً بالأدلة العامة3  .

 وبالإضافة لذلك فإن ما له أصل عام في الدين لا يدخل في البدعة ، وهذا ما فهمه الفاروق حيث روى البخاري وغيره بسنده عن عبدالرحمن بن عبدالقاريّ أنه قال : ( خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون ، يصلي الرجل لنفسه ، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط ، فقال عمر :  إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ، ثم عزم فجمعهم على أبيّ بن كعب ، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم ، قال عمر : نِعْمَ البدعة هذه4 …….)  .

أخذت البدعةُ حجماً أكبر ؟

أ ـ ولو نظرنا إلى حجم ما كتب عن البدعة على الرغم من أهميتها قديماً وحديثاً ، وما جرى فيه خلاف لتوصلنا إلى أنه أعطى لها حجم أكبر مما تستحق ، فعلى سبيل المثال فإن الكلام عن البدعة في ( المرجع الأكبر للتراث الإسلامي ) قد تكرر ( 5509 ) مرة ، وتكرر في فتاوى بعض المعاصرين آلاف المرات ، وكان يكفي أن يحسم هذا الخلاف بالفرق بين إحداث البدعة في العقائد ، والشعائر ، وفي العبادات المحضة بالزيادة أو النقصان ، أو بتغيير صورتها الشرعية بدون دليل ، وبين الإبداع في أمور الدنيا الذي هو من المطلوبات بل من الواجبات للنهوض بالأمة .

ب ـ ويبقى بينهما أمر ثالث في غاية من الأهمية يمكن أن يكون محل النزاع هو أن الخروج من البدعة في الدين ( العبادات الشعائرية ) هل يتحقق بوجود أصل عام أم لا بدّ من دليل خاص ؟ ، وهذا محل نظر واختلاف يسع الطرفين ، وأن الراجح هو أن ما يوجد له أصل عام معتبر من الأدلة لا يدخل في البدعة المحرمة ، وإنما يدخل في البدعة الحسنة كما قال الفاروق الخليفة الراشد في جمع الناس جميعاً على إمام واحد ، والصلاة بهم ثلاثاً وعشرين ركعة (نعمت البدعة هذه) .

ج ـ ومن جانب آخر نرى ما رآه المحققون من أن الأمور الخلافية الاجتهادية التي قال بها بعض العلماء الثقات خارجة من دائرة البدعة ، وأنه لا يجوز تسمية ذلك بالخلاف ما دام قال به أحد الأئمة الأعلام ، فإذا كانت قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا ترد فيما اختلف فيه الأئمة الأعلام ، فكيف يوصف اجتهاد واحد منهم بالدعة ؟

وسيأتي لهذا مزيد تفصيل .

د ـ ومما وقع في هذه المسألة إشكال آخر وهو أن الموسعين في دائرة  البدعة جعلوا قضية البدعة بين الحق والباطل ، والهداية والضلال ، والصواب والخطأ المبين ، وفي بعض الأحيان يصل الأمر عند بعضهم إلى الحكم بالكفر والخروج عن الملة لمرتكب البدعة .

 مع أن الصواب هو أن البدع مراحل ، منها البدع العقائدية التي هي أخطر بكثير من البدع العملية التي نتحدث عنها .

 إن البدعة قد ثار حولها خلاف كبير ـ كما سبق ـ ومع ذلك فإن تنزيلها على المسائل أصعب بكثير من التحقيق في معناها ، ولذلك اختلف فيها الصحابة والتابعون ، فمثلاً يطلق بعضهم عليها أنه بدعة ، فقد كان ابن عمر رضي الله عنه يعد صلاة الضحى بدعة ، وخالفه في ذلك جماعة من الصحابة الكرام .

هـ ـ سؤال آخر :

 ويرد في مسألة البدعة سؤال ثان ، وهو : هل الاختلاف الفقهي ، والاجتهاد يبعد صفة البدعة عن المختلف فيه ؟

 إن التحقيق يقتضي أن يكون المجتهد فيه خارجاً عن دائرة البدعة ما دام قد قال به أحد العلماء الأثبات ، بل إن ذلك ليس محلاً للإنكار وللآمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند المحققين ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ( مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ، ولم يُهْجَرْ ، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه )5  ونقل في موضوع آخر : (أن العلماء قالوا : إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد ، وليس لأحد أن يُلزم الناس باتباعه فيها ، ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية ، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه ، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه6 )  .

 ولذلك يجب ـ في نظري ـ أن نُبْعِدَ عن دائرة البدعة مطلقاً ـ حتى في العبادات ، كلّ ما جرى فيه اجتهاد سائغ من أهله ، وهذا ما أكده بعض العلماء المحققين ، يقول الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : ( أنا أتحرج من أن يكون مخالف السنة على وجه يسوغ فيه الاجتهاد مبتدعاً …. فكوننا نقول : إن هذا مبتدع ، لأنه خالف اجتهادنا هذا ثقيل على الإنسان ، ولا ينبغي للإنسان أن يطلق كلمة ( بدعة ) في مثل هذا ، لأنه يؤدي إلى تبديع الناس بعضهم بعضاً في المسائل الاجتهادية التي يكون الحق فيها محتملاً في هذا القول ، أو ذاك ، فيحصل به من الفرقة ما لا يعمله إلاّ الله7 )  .

 وهذا كلام نفيس ووجيه بل هو حق ، لأنه بدون ذلك يكون الحكم على معظم الأئمة حتى الصحابة بالابتداع ، وهذا أمر غير مقبول ، فالصحابة ، والتابعون قد اختلفوا في وصف الجهر بالبسملة في الصلاة ، والفقهاء كذلك اختلفوا في القنوت في الفجر ، وصلاة الضحى ، ورفع الأيدي في الدعاء ، وغيرها ، فبعضهم جعلها بدعة ، وبعضهم الآخر جعلها سنة8  .

 والعلماء المعاصرون حتى من مدرسة واحدة اختلفوا في عدّ بعض التصرفات بدعة ، أو ليست بدعة ، أو أنها سنة ، فقد ذهب الشيخ ابن باز 9 وابن جبرين10  رحمهما الله ، إلى جواز إقامة مجالس التعزية لاستقابل المعزّين ، في حين ذهب الشيخ محمد بن عثيمين11  ، والشيخ الألباني12  رحمهما الله ، والشيخ صالح الفوزان13  إلى أنها بدعة .

 ومثال آخر : تكرار العمرة في رمضان ، ذهب إلى مشروعيته ، بل استحبابه جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة ، ومن المعاصرين : ابن باز ، واللجنة الدائمة للبحوث والافتاء ، في حين ذهب إلى كونه بدعة ، الشيخ ابن عثيمين14  ( رحمهم الله جميعاً ) ، وكذلك قبض اليدين بعد الرفع من الركوع عدّه الألباني بدعة15  في حين أن ابن باز عدّه من السنة16  .

——————————————————————————

(1) شرح صحيح مسلم للنووي ( 12/ 229 )
(2) الاعتصام ( 1/ 4 )
(3) تفسير حقي : للآجري ط. الدار السلفية / الهند ( 13 / 487 )
(4) صحيح البخاري (2/407) الحديث 1986
(5) مجموع الفتاوى ( 20/207)
(6) المصدر السابق ( 30/ 79 – 81 )
(7) فتاوى أركان الإسلام لابن عثيمين ص 324
(8) يراجع لمزيد من البحث والتأصيل : د. عبدالاله بن حسين العرفج : مفهوم البدعة ، وأثره في اضطراب الفتاوى المعاصرة ، ط. دار الفتح / عمان ، الأردن 14300هـ ، ص 155- 424 ، حيث أفاض فيها افاضة طيبة .
(9) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للشيخ ابن باز (13/371)
(10) الموقع الرسمي للشيخ عبدالله بن جبرين
(11) فتاوى أركان الإسلام ص 416
(12) أحكام الجنائز ، وبدعها للألباني ، فقرة 114
(13) موقع الشيخ صالح الفوزان ، الفتوى رقم 5693
(14) يراجع : الدكتور العرفج : المرجع السابق ص 254 ومراجعه
(15) في كتابه صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ، ص 138
(16) موقع الشيخ ابن باز