الدوحة ــــ بوابة الشرق
كتاب “إستراتيجية التنمية الشاملة والسياسات الاقتصادية النقدية والمالية في ظل الربيع العربي ، يخص به فضيلة الشيخ د. علي محي الدين القره داغي الشرق في رمضان من هذا العام ليكون عونا لكل شعوب الأمة العربية والإسلامية في مسارها ونهضتها وإنقاذ البشرية مما يعتريها من ظلم وفقر وحرمان، إذ يقدم الكتاب عبر الفصول المختارة التي ننشرها تباعا استراتيجية التنمية الشاملة والسياسات الاقتصادية (النقدية والمالية) في ظل الربيع العربي وهي دراسة فقهية اقتصادية، ومحاولة لبديل إسلامي، مع حلول طارئة.. يقول فضيلته:
التنمية الشاملة، بل والتنمية الاقتصادية فريضة شرعية، وضرورة عصرية.
مؤشر نجاح التنمية يكمن بالنسبة للفرد في: الخروج من حد الكفاف (الفقر) إلى حد الكفاية، للوصول إلى تمام الكفاية.
وللمجتمع والأمة الوصول إلى الاكتفاء الذاتي زراعياً، وصناعياً، وتجارياً، ثم الاستمرار في النمو
بالعقل يتحقق غذاء الانسان العلمي والفكري والثقافي في ظل الحرية والاطمئنان وبالنفس وبتغييرها نحو الأحسن، وتوفير الأمن النفسي، والاجتماعي.
التنمية في الاقتصاد الوضعي
إن للتنمية أنواعاً كثيرة من أهمها: التنمية الاقتصادية التي تعتبر بمثابة العمود الفقري للفكر الوضعي، وهي محور الاهتمام، ومركز العناية لدى الحكومات والاقتصاديين، وهي السبب الأساس في نظرهم للتقدم والاستقرار، لذلك كان الشعار المرفوع لديهم هو أن “كل شيء من أجل الاقتصاد”.
غير أن التجارب الحقيقية التي مرّ بها العالم أثبتت أن التنمية الاقتصادية المستدامة لن تتحقق بالنمو الاقتصادي وحده بل إن النمو الاقتصادي نفسه يتطلب أنواعاً من النمو، مثل التنمية العلمية، والاجتماعية، والسياسية والثقافية، وفي نظرنا أن نجاح الدول الغربية في التنمية الاقتصادية خلال القرن الماضي (العشرين) كان بسبب أنها حققت في الماضي (وما زالت) التنمية العلمية والسياسية والثقافية، حتى الاجتماعية إلى حد مناسب، ولكنها كانت تنقصها التنمية الدينية، أو التربية الأخلاقية والدينية، وهذا ما تنبه إليه بعض المفكرين الغربيين من ضرورة العناية بتجربة المجتمع، وثقافته وفكره وبيئته.
ولذلك فإن التنمية الحقيقية لها ركنان أساسيان في فكر الاقتصاد الإسلامي يتمثلان في التنمية الروحية والتنمية المادية، أو بعبارة أخرى فإن التنمية الاقتصادية المستدامة الحقيقية لن تتحقق إلا إذا نما الإنسان وتحققت له التنمية الثقافية والعلمية والسياسية والاجتماعية إضافة إلى التربية الروحية والأخلاقية.
ومما هو جدير بالتنبيه عليه أنه من الضروري ملاحظة ظروف كل بلد وبيئته وثقافته وإمكانياته.
معايير التنمية البشرية لدى الأمم المتحدة:
بعد فشل كثير من المحاولات التي بذلتها الأمم المتحدة لاحداث التنمية البشرية في العالم الثالث توصلت في تقاريرها السنوية إلى مجموعة من المعايير تتضمن التحصيل العلمي، والحرية، ونصيب الفرد من الناتج المحلي، وتمكين النساء من التصويت والترشيح والمساواة مع الرجل في العمل والأجور.
بل إن تقرير التنمية البشرية لعام 2004م الصادر من الأمم المتحدة يركز على الحريات الثقافية كمعيار للتنمية في المجتمعات المعاصرة.
التنمية في ظل الفكر الاسلامي:
من خلال النظر في الكتاب والسنة وأقوال الفقهاء يتبين لنا أن التنمية الشاملة في الفكر الاسلامي يمكن تعريفها باعتبارين: باعتبار حقيقتها، وباعتبار نتيجتها.
فباعتبار حقيقتها هي: الارتقاء بالروح بتحقيق متطلباتها من الايمان والعقيدة الصحيحة، وسمو الأخلاق، وبالعقل يتحقق غذاءه العلمي والفكري والثقافي في ظل الحرية، والاطمئنان، وبالنفس بتغييرها نحو الأحسن، وتوفير الأمن النفسي، والاجتماعي، وبالبدن بتحصيل متطلباته المادية والاقتصادية المشروعة، فهي إذن عملية تغيير وتطوير دائم للإنسان بمكوناته، وأمواله وأحواله للوصول إلى ما هو الأحسن في كل شيء.
ثم إن الارتقاء والنماء في المجالات الأربعة يبدأ بالضروريات للوصول إلى الحاجيات، ثم منها إلى التحسينات، ثم داخل التحسينات يكون هناك الارتقاء حسب الكم والكيف، فهي اذن في نماء مستمر، وزيادة مطردة للفرد والمجتمع دون أن تعرف التوقف، لأن التوقف هو عين التأخر، فقال تعالى (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) (سورة المدثر: الآية 37) ولم يقل (أو يتوقف)، لأن التوقف هو عين التأخر في مآلاته.
وباعتبار نتيجتها: فهي تحقيق السعادة والرفاهية الروحية، والعقلية، والنفسية، والبدنية للانسان داخل المجتمع الذي يعيش فيه.
مؤشر التنمية في الاقتصاد الإسلامي:
ففي نظرنا: أن المؤشر للتنمية الشاملة هو تحقيق النتيجة السابقة، ولكن من الجانب الاقتصادي نستطيع القول إن مؤشر نجاح التنمية يكمن بالنسبة للفرد في: الخروج من حد الكفاف (الفقر) إلى حد الكفاية، للوصول إلى تمام الكفاية كما سيأتي تفصيله
وبالنسبة للمجتمع والأمة الوصول إلى الاكتفاء الذاتي زراعياً، وصناعياً، وتجارياً، ثم الاستمرار في النمو والزيادة دون توقف في كافة مجالات الحياة، مع تحقيق القوة الاقتصادية المتكاملة والقوة السياسية والعسكرية، والتحرر من التبعية بكل أشكالها من خلال التقدم العلمي والتكنولوجي، والابداع والقدرة على المساهمة الفعالة في إدارة النظام الدولي وتحقيق أمة الشهود بالحق والعدل.
أهمية التنمية وحكمها:
إن التنمية الشاملة بالمعنى الذي ذكرناه هي الغاية من إنزال الكتب وإرسال الرسل، فالله تعالى أنزل هدايته لتتحقق للناس سعادة الدنيا والآخرة، ويتحقق لهم الخير كله والرحمة كلها، وأن الشعائر التعبدية كلها لتحقيق العبودية لله تعالى ولاصلاح الانسان حتى يكون صالحاً لأداء رسالته على الأرض وهي الاستخلاف والتعمير والعمارة والحضارة.
لذلك كله فإن التنمية الشاملة، وحتى التنمية الاقتصادية فريضة شرعية، وضرورة عصرية، فلن تكون لأمتنا الاسلامية قوة ولا عزة ولا كرامة إلاّ إذا كانت أمة واحدة قوية غنية غير محتاجة إلى الآخر في قوتها وصناعتها وأسلحتها، ناهيك عن أن هناك مئات الملايين من المسلمين وغيرهم يتضورون جوعاً، ويفتقدون أبسط حياة كريمة، بل يموت مئات الآلاف بسبب المجاعة، وسوء الغذاء والدواء.
شروط تحقيق التنمية الشاملة في الفكر الاسلامي:
إن الفكر الاسلامي ينطلق نحو التنمية من خلال قيمة الانسان نفسه حيث يعتبره قطب الرحى، ومركز التوجيه والتركيز، والناهض بالتنمية إن أعدّ لها إعداداً جيداً، وهو السبب في نجاح التنمية بعد توفيق الله تعالى، وهو السبب في فشلها، لذلك فلا يلومنّ عند المصائب إلاّ نفسه، قال تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ).
فالفكر الاسلامي يربط بين الأسباب الظاهرة والنتائج، ولا يقبل بإسناد المسؤولية إلى خارج الانسان فقط، وبالتالي فلا يجعل الآخر (عدواً أو غيره) شماعة يعلق عليها مصائب الأمة، بل يضع المسؤولية عن النتائج على المسلمين أنفسهم، ويربط بين الأسباب الظاهرة والنتائج، فهذه سنة الله تعالى التي جرت لعباده، بأن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، وأن النصر لا ينزل من السماء إذا كانت النفوس لم تتغير، ولم تعمل ولم تجاهد، ولم تصبر ولم تتق، وأن الله تعالى لا يغير النعمة إلى النقمة إلاّ بسبب تغير النفوس نحو الظلم والشرور والخبائث، والجرائم والعجز والكسل، كما أنه تعالى لا يُغَيِّرُ النقمة إلى النعمة إلاّ إذا تغيرت النفوس نحو الايمان والعمل الصالح والطيبات فقال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)
فقد قال ابن خلدون كلمات نيرات مضيئات لتحقيق التنمية في نظر الاسلام: (الملك لا يتم عزه إلاّ بالشريعة، والقيام لله بطاعته، والتصرف تحت أمره ونهيه، ولا قوام للشريعة إلاّ بالملك، ولا عزّ للملك إلاّ بالرجال، ولا قوام للرجال إلاّ بالمال، ولا سبيل للمال إلاّ بالعمارة، ولا سبيل للعمارة إلاّ بالعدل، والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة، نصبه الربّ، وجعل له قيماً، وهو الملك… فهذه ثماني كلمات حكيمة… ارتبط بعضها ببعض، وارتدت أعجازها إلى صدورها، واتصلت في دائرة لا يتعين طرقاتها ).
فهذه الحلقات الثماني هي التي تستطيع ان تملأ الفراغ، وتحقق التنمية الشاملة بإذن الله تعالى.
ولذلك يعتبر من أهم شروط التنمية ومقوماتها ما يأتي:
الشرط الأول: الاعداد الايماني والتربوي والأخلاقي لجعل الانسان الذي يقوم بالتنمية، والانسان الذي يجني ثماره صالحيْن قادريْن على الانتاج والترشيد الاستهلاكي.
فعلى الدولة إن أرادت التنمية الشاملة أن يكون ضمن برامجها الأساسية التربوية الاعداد الشامل للجانب العقدي، والجانب الأخلاقي والسلوكي والوعي الحضاري، والفقه المقاصدي، للوصول إلى المؤمن القوي الهادي الهادئ الهادف.