الدوحة ـــ بوابة الشرق
كتاب “إستراتيجية التنمية الشاملة والسياسات الاقتصادية النقدية والمالية في ظل الربيع العربي ، يخص به فضيلة الشيخ د. علي محي الدين القره داغي الشرق في رمضان من هذا العام ليكون عونا لكل شعوب الأمة العربية والإسلامية في مسارها ونهضتها وإنقاذ البشرية مما يعتريها من ظلم وفقر وحرمان، إذ يقدم الكتاب عبر الفصول المختارة التي ننشرها تباعا استراتيجية التنمية الشاملة والسياسات الاقتصادية (النقدية والمالية) في ظل الربيع العربي وهي دراسة فقهية اقتصادية، ومحاولة لبديل إسلامي، مع حلول طارئة.. يقول فضيلته :
المنفعة في الاقتصاد الإسلامي:
فعلى ضوء ما سبق فالمنفعة في الاقتصاد الرأسمالي فردية، وليست مرتبطة بالقيم والأخلاق، وأنها مادية وليست روحية دنيوية وليس لها علاقة بالآخرة، وانها صفة ذاتية تنبعث من الشيء عند وجود الرغبة، ثم تزول بزوال الرغبة، فهي تتبع الرغبة وجوداً وعدماً، وأن الثمن هو المقياس الاقتصادي للمنفعة، وأن فائض المستهلك هو الفرق بين المنفعة الكلية والقيمة الكلية التي هي عبارة عن ثمن كلِّ واحدة مضروباً في عدد الوحدات، فمثلاً لو وجد في السوق عرض مناسب أو كثير فيكون ثمن كيلو برتقال ثلاثة ريالات مثلاً ولكن إذا لم يوجد إلاّ قليل جداً فيشتري نفس المقدار منه بعشرة ريالات، إذاً فهذا الفرق وهو سبعة ريالات يسمى فائض المستهلك.
أما المنفعة في الفكر الإسلامي فهي شاملة للمادة والروح، وللجسد والنفس، والعقل، وللدنيا والآخرة، وانها مرتبطة بل خاضعة للقيم العليا والأخلاق السامية في الإسلام، حيث استعمل القرآن الكريم النفع بهذه المعاني الجامعة، فقال تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) في الحج: حيث تشمل: المغفرة من الذنوب، وأداء العبادة، والتجارة، قال الماوردي: (إنها التجارة في الدنيا، والأجر في الآخرة، وهذا قول مجاهد)، قال تعالى: (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ) أي بما ينفع الناس من المعايش وقال تعالى بالنسبة للخمر والميسر: (قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا)، والمنافع هنا دنيوية مثل منافع التجارة، ولذة الطرب والنشوة.
الفرق بين الحاجة والرغبة في الاقتصاد الاسلامي:
يفرق الفكر الإسلامي بين الحاجة والرغبة، فالحاجة هي: ما يفتقر إليه الإنسان وبدون وجوده يقع الإنسان في حرج وضيق كما سيأتي وبالتالي فهي مرتبة بين الضروريات والتحسينات، وان تحقيقها مطلوب.
غير أن الحاجات، أو الطيبات في الاقتصاد الإسلامي تطلق على ما هو أعم من الحاجيات في علم أصول الفقه، لأنه يريد به الحاجة مطلقاً سواء كانت ضرورية، أم لا، إذن فيقصد بها: كلّ ما يحتاج إليه، فيشمل كلّ مراتبه، أو ما يطيب له وأما الرغبات فهي ما تميل إليه النفس وتريده لأي سبب معقول أو غير معقول، وبالتالي فهي أعم حتى تشمل أهواء النفس ونزواتها، ولذلك تتدخل فيها العقيدة والأخلاق الاسلامية لضبطها وتزكيتها فقال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا).
مراتب المنافع والحاجات في نظر الفقهاء:
وقد قام فقهاؤنا العظام منذ أبي اسحاق الشيرازي فإمام الحرمين، فالغزالي، فالعز بن عبدالسلام فابن تيمية، ثم الشاطبي، بتأصيل هذه المنافع والمصالح، وتنظيمها تنظيماً بديعاً قائماً على الأهمية وفقه الأولوية، حيث قسموها إلى ثلاثة أنواع بل ثلاث رتب، وهي:
الرتبة الأولى: الضروريات التي لا بدّ منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وهلاك.
وهذه الضرورات حصرها علماؤنا السابقون في خمس أو ست، وهي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والعرض، والمال، وسبق أنني أضفت إليها مقصدين آخرين، وهما: حفظ أمن المجتمع حيث وضع للاعتداء عليه حدّ الحرابة، قال تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، وأما الضرورة الثامنة فهي حفظ أمن الدولة ومؤسساتها حيث وضع له أيضاً حدّ البغاة، قال تعالى: (فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ).
الرتبة الثانية: الحاجيات التي يفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق والحرج والمشقّة.
الرتبة الثالثة: التحسينات، والكماليات: وهي ما كان بها كمال حال الفرد، والأمة، بحيث يحصل إلى أعلى المراتب في كلّ الطيبات، ففي المأكل أطيبها، وفي الملابس أنعمها، وفي المساكن أجملها وأوسعها، وفيما يخصّ الآخرة فعل السنن والمستحبات والمندوبات، ثم في الآخرة الوصول إلى الجنة أعلاها.
فهذه المصالح تشمل المنافع الدنيوية، والمصالح الأخروية، كما أنها تشمل الجانب الروحي والديني بالإضافة إلى الجانب المادي، وأنها تقابلها المفاسد والمضار والخبائث في الدنيا والآخرة.
العنصر الثاني ندرة الموارد:
يستعمل الاقتصاديون: الندرة لبعض الموارد، ويريدون منها القابلية للنفاد، كمناجم الثروات المعدنية، ولكن عندما يقولون: ندرة الموارد يريدون بها الندرة النسبية.
أسباب ندرة الموارد:
تعود أسباب هذه المشكلة إلى أن هذه الموارد تتّسم بأنها:
. نسبية، أي أنها نسبية بالنسبة لمقدار الطلب، وانها تختلف حسب الظروف والأحوال والدول والأشخاص، كما أنها نسبية بالنسبة لدرجات القوّة والضعف والوسط.
. تعدد الاستعمال، حيث يمكن استعمال المورد الواحد في أكثر من استعمال، فالأرض مثلاً يمكن أن تستخدم في الزراعة أو البناء، أو لصناعات متعدّدة، وحتى الأرض الزراعية يمكن زرعها بالحبوب، أو بالأشجار المثمرة، أو الأشجار الخاصة بالصناعة، أو بالخضر،… وحتى داخل الحبوب والأشجار ونحوها فهناك أنواع كثيرة.
. تفاوت الموارد بين بلد وآخر من حيث القلة والوفرة.
. عدم نقل بعضها، أو بتكلفة كبيرة، مثل البحار، والأنهار، والتربة.
. زيادة السكان، وبالتالي زيادة الطلب.
. سوء استخدام الموارد مما يؤدي إلى تبديدها واستنزافها وسرعة نضوبها.
. الجشع، وسوء سلوك الإنسان، وما يترتب عليه من الاحتكار والمظالم.
العنصر الثالث عدم المواءمة بين الحاجات والموارد، أو بعبارة أخرى عدم تنظيم الإنتاج والاستهلاك.
الحلّ في النظام الرأسمالي:
إن النظام الرأسمالي يسعى لحلِّ هذه المشكلة من خلال نظام السوق، أو ميكانيكية السعر، أو جهاز الثمن، حتى يجيب عن الأسئلة السابقة: ماذا ينتج؟ وكيف ننتج؟ ولمَن ننتج؟ وكيف ننمي الانتاج؟ وكيف نوزِّع؟.
إن الاقتصاد الرأسمالي يبنى على فرضية أن ترك قوى العرض والطلب يفعل في ظل المنافسة الكاملة، والحرية الاقتصادية وعدم تدخل الدولة في الأسواق يؤدي إلى تحديد نوع الانتاج، وكميته وصفته، وتخصيص الموارد بشكل أمثل، وذلك من خلال جهاز الأسعار، أي الحركات التلقائية للأثمان الناتجة عن تفاعل قوى العرض والطلب.
المشكلة الاقتصادية في النظام الشيوعي:
لا يعترف الفكر الشيوعي بوجود المشكلة الاقتصادية بسبب الندرة، او تعدّد الحاجات، فقد هاجم ماركس هجوماً لاذعاً هذه النظرية، واعتبر عدم كفاية الموارد لأعداد السكان المتزايدة تشهيراً بالجنس البشري وتنقيصاً له، وحمّل الفكر الرأسمالي صنع هذه المشكلة وآثارها
والمشكلة في الفكر الاشتراكي هي الصراع، والتناقض بين الانتاج والاستهلاك، وبين المؤسسات القادرة والمؤسسات الأقل قدرة، وبينها وبين مصلحة المجتمع،
والتناقض بين مالكي وسائل الانتاج، والعمال (طبقة البوليتاريا )، فالفكر الاشتراكي يرى أن كل المفاسد تأتي من الملكية الخاصة فهي المسؤولة عن كلّ هذه المظالم التي وقعت على العمال والفقراء، لأنها تؤدي إلى علاقات توزيعية ظالمة ومجحفة بحقهم، لذلك لا بدّ أن تلغى وأن تحلّ محلها الملكية الجماعية لجميع وسائل الانتاج من خلال ثورة (البروليتاريا) واستيلائها على الحكم، وبالتالي تولي الدولة للتوزيع الجماعي وفق الخطة المركزية.