الحلقة الخامسة:
والحق أن ما قامت به الحركات النسوية الغربية في القرنين السابقين كان ردّ فعل لنظرة الدونية السائدة في الغرب في القرون الوسطى وما يليها حيث- كما تقول زيغرد هونكه: إن موقف الرجل الأوروبي من المرأة، ونظرته إليها كانت تتسم بالازدواجية والنفاق، والشهوانية والتسلط، والتضارب في المفاهيم والأفعال بل لم تكن القضية تنحصر في دائرة النظرة بل تجاوزت إلى استعمال كل مشاكل العنف النفسي والجسدي، والجنسي معها، ففي أميركا تشير أرقام سنة 1984م إلى أن 2928 حادثة قتل تمت داخل الأسرة الواحدة، وأن أكثر من ثلثها قتلن على يد الزوج أو الخليل، وتذكر أوردين، ونزبيت، أن أكثر من مليوني امرأة سنوياً في أميركا تبلغ الشرطة عن حادث اعتداء زوجها، أو خليلها عليها، وأن 4 نساء يومياً يقتلن بسبب الضرب المبرح، و1.5 مليون زيارة للنساء للطبيب سببها اعتداء الزوج أو الخليل، وهذا ما بلغ به الشرطة، أما ما لم يبلغ به فيتوقع أن يكون نسبة ليست قليلة، وفي بريطانيا تصل نسبة ضحايا الزوج والخليل من النساء القتيلات إلى 50 % وأنه في كل دقيقة تغتصب امرأة في أميركا.
ومن جانب آخر فإن الفلسفة السائدة في الغرب وبالأخص أوروبا هي الفلسفة الفردية الأنانية، والذرائعية الميكافيلية، والنفعية القائمة على اللذة التي جعلت المرأة بمثابة متاع للتمتع والاستعراض والإعلانات، وزاد الطين بلة تأثر المجتمعات الأوروبية بفلسفة الصراع، وخلق التناقض بين الأمم والمجتمعات، وهي فلسفة تؤكد ذلك الصراع حتى بين الله تعالى والإنسان، حيث إن الأسطورة اليونانية تقول إن برميثوس هو الذي سرق النار المقدسة من الآلهة حيث أثرت هذه الفلسفة الصراعية على العلاقات الأسرية والاجتماعية وحتى بين الأمم، يقول الشيخ سعيد النورسي: أوغلت الفلسفة في ضلالها حتى اتخذت دستور الصراع هذا حاكماً مهيمناً على الموجودات كافة فقررت…. أن الحياة كلها جدال وصراع.
ما يترتب على هذه المنهجية الموزونة
يترتب على هذه المنهجية التي أصلها الإسلام، وفكره الصحيح القائم على الوسطية والواقعية والدقة- كما سبق- ثلاثة أمور: أولاً- أن الأصل هو المساواة كما دلت على ذلك الآيات التي ذكرناها ويؤكدها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: النساء شقائق الرجال، وثانياً: أن العدل هو مراعاة الفروق التكوينية لكلا الجنسين التي ذكرناه، واعتبارها اختلاف تنوع وتكامل، لا اختلاف تعارض وتضاد وتصارع.
وثالثا: تطبيق المنهج الصحيح القائم على الجمع والشفع والتوافق البعيد عن النظرة الأحادية إلى النصوص، وذلك من خلال توزيع الأدوار.
أولاً- المساواة:
وبما أن الرجل والمرأة من نفس واحدة، ولهما خصائص مشتركة، وصفات متوافقة، وبهذا الاعتبار فالمرأة مثل الرجل فيما يأتي:
1) المساواة في الحقوق، حيث إن كلاً من الرجل والمرأة يتمتع بحقوق متساوية مع الآخر في شتى مجالات الحياة.
2) المساواة في جميع ما يخص أمور الآخرة من الأجر والثواب والجنة والنار، وفي العقيدة والشعائر إلاّ ما خففت على المرأة بسبب ظروف الحيض والنفاس، والحمل والرضاعة ونحوها.
3) المساواة في الاستخلاف في الأرض، إن الآيات الواردة في القرآن الكريم حول الاستخلاف واستعمار الأرض لم تفرق بين الرجل والمرأة، ولم تستثن المرأة من هذه الوظيفة العظيمة التي كلف بها الإنسان، بل لا يمكن تعمير الأرض إلى بشقي الإنسان وهما الذكر والأنثى، فقال تعالى «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» ولذلك اتفق الفقهاء على أن الخطابات العامة التكليفية شاملة للذكر والأنثى حتى ولو كانت بألفاظ تستعمل في الجمع المذكر، إلاّ ما استثنى بنص خاص.
يقول ابن حزم: «لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى الرجال والنساء بعثاً سوياً، وكان خطاب الله تعالى وخطاب نبيه صلى الله عليه وسلم للرجال والنساء خطاباً واحداً لم يجز أن يخص بشيء من ذلك الرجال دون النساء إلاّ بنص جلي، أو إجماع، لأن ذلك تخصيص للظاهر، وهذا غير جائز».
ومن هنا حينما طلبت المرأة في عصر الرسالة تخصيصها بالذكر نزلت الآيات استجابة لها، فقال تعالى: «وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» وقال تعالى: «مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» ومن هنا جاء استعراض القرآن لقصة ملكة سبأ بصورة تنبئ عن الإشادة بحكمتها وسياستها، بل تأكيد قولها وتخليده حينما قالت: «قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً» فقال تعالى مؤكداً هذه الحكمة: «وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ».
وأعتقد أن إثبات هذا الأمر «المساواة في الاستخلاف من حيث المبدأ يساعدنا كثيراً في تأصيل جواز المرأة أن تتولى من وظائف الاستخلاف ما لم يكن هناك نص خاص يمنعها من ذلك.
4) المساواة في الولاية والموالاة، مما لا يختلف فيه أحد أن الموالاة التي فرضها الله تعالى على المسلمين شاملة للذكر والأنثى، وكذلك الولاية فقال تعالى: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» ومن المعلوم أن هذه الولاية تشمل كل جوانب الحياة، وعلى رأسها الولاية السياسية من حيث المبدأ.
5) المساواة أمام القانون والقضاء.
6) المساواة في حرية الاعتقاد والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال تعالى: «مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» ويقول تعالى: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» ويقول تعالى: «إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً».
7) المساواة في الحقوق الاجتماعية والمدنية.
8) المساواة في أهلية الأداء الكاملة، حيث لها ذمة مالية مستقلة التملك والتصرف وإجراء العقود المالية ونحوها، علماً بأن هذه الأهلية لم تعترف بها القوانين الرومانية والغربية إلاّ في وقت متأخر، فعلى سبيل المثال إن القانون الفرنسي اعترف بها في عام 1938م.
9) المساواة في الحقوق المالية، حيث إذا نظرت إلى الواجبات المفروضة على الرجل فإن الفروق الموجودة في الإرث معوضة تماماً من خلال النفقة، والتزامات الرجل.
إضافة إلى أن هناك حالات يتساوى فيها الرجل والمرأة، وفي بعضها تكون حصة المرأة أكثر منه.
10) المساواة في إبداء الرأي ووجوب الاستماع إلى رأيها، ويدل على ذلك ما دار بين الخنساء بنت خزام الأنصارية وبين النبي صلى الله عليه وسلم حيث ذكرت: «أن أباها زوجها من ابن أخيه دون إذن منها، فجعل صلى الله عليه وسلم (الأمر إليها) وحينما علمت بهذا الحق قالت: قد أجزت ما صنع أبي، ولكني أردت أن أعلم أللنساء من الأمر شيء؟ وفي رواية ابن ماجة صححها الحافظ الهيثمي قالت: ولكني أردت أن تعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء).
وفي مجال الزوجية أمر الله تعالى الزوجين أن تتم الأمور بينهما عن تراض منهما وتشاور فقال تعالى: «فإن أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وقصة المرأة التي وقفت أمام عمر فعارضته في تحديد المهر فقالت: «ما ذلك لك» قال عمر: ولم؟ قالت: «إن الله قال: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً فرجع عمر عن رأيه وقال: كل أحد أفقه من عمر.
ثانياً- عدم المساواة في بعض الأمور اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد:
وبما أن المرأة تختلف في التكوين والخلقة والهرمونات عن الرجل- كما سبق- اختلاف تنوع، لا اختلاف تضاد، ومن باب توزيع الأدوار.
وهذا الاختلاف في بعض الأمور الخاصة بالأعمال التي لا تتناسب مع فطرتها، وبالأخص في موضوع الحقوق السياسية التي هي موضوع بحثنا.
حق المرأة في تولي الولاية العامة المناصب الرئيسية:
الولاية- بالكسر- في اللغة: الإمارة، وبالفتح: النصرة والنسب والقرابة وغيرهما.
والولاية في اصطلاح الفقهاء لها نوعان:
النوع الأول- الولاية العامة، وقد ذكر لها القاضي أبو يعلى أربعة أقسام، وهي:
1 – الولاية العامة في الأعمال العامة كالخلافة (أو رئاسة الدولة تحت أي اسم كان) والوزارة.
2 – الولاية العامة في الأعمال الخاصة كإمارة الأقاليم.
3 – الولاية الخاصة في الأعمال العامة كقاضي القضاة، وقائد الجيوش، وحامي الثغور، ومستوفي الخراج، وجابي الصدقات.
4 – الولاية الخاصة في الأعمال الخاصة كقاضي بلد، أو إقليم… وقد شرحها بعض المعاصرين بأنها تشمل القيام بأي عمل من أعمال السلطات الثلاث: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية.
النوع الثاني- الولاية الخاصة في مجال تنفيذ العقود التي عرفوها بأنها: تنفيذ القول على الغير، وهذا النوع غير مقصود هنا، وأنه خارج عن موضوعنا.
وقد اختلف الفقهاء في مدى صلاحية المرأة للولاية العامة على ثلاثة آراء:
الرأي الأول: المنع المطلق
الرأي الثاني: الجواز المطلق
الرأي الثالث: التفصيل
ونحن هنا نذكر هذه الآراء الثلاثة مع الأدلة والترجيح بشيء من الإيجاز: