إذا استحضرنا التجارب السابقة والمعاصرة لتقدم الأمم والشعوب والدول بدءاً من حضارتنا الإسلامية إلى الحضارة الأوروبية، والآسيوية (اليابان، وكوريا الجنوبية، والصين) لتوصلنا بدون عناء إلى أن ذلك التقدم يعود إلى تقدم الانسان نفسه، وقدرته على التطوير والاتقان والابداع.
كل ما ذكرناه يدل بوضوح على أن الأموال والمعادن ، والموارد الطبيعية المتوافرة وحدها لن تحقق الحضارة والتقدم إلاّ إذا كانت في ظل مجموعة من البشر المتقدمين تكون قادرة على استغلالها واستثمارها لتحقيق الأهداف المنشودة، والأهداف المرصودة بدقة لكل مرحلة، والأهداف الاستراتيجية الموضوعة.
بل إن الطاقات البشرية المتقدمة والكفاءات العالية هي التي تصنع المال ، وتجني الثمار كما نشاهده في اليابان وكوريا الجنوبية اللتين لم تكن لديهما المعادن والموارد الطبيعية ، ومع ذلك بلغتا ما بلغتا بسبب التقدم العلمي والابداعات العظيمة التي توصل إليها الانسان الياباني، والكوري ببالغ العناء والتعب.
فقد ثبت تجريبياً ان العنصر البشري القادر على التطوير والتجديد والابداع، والاختراع ، والابتكار يستطيع توفير الأموال وترشيد الموجود منها.
حتى من الناحية الاقتصادية فإن الانسان يمثل حلقة الوصل بين عناصر الإنتاج ، فالأرض ورأس المال لا تحققان الغرض المنشود إلاّ إذا كان معهما العمل المتقن ، والإدارة الناجحة، والعقلية المبدعة.
ولذلك فإن الأولوية القصوى للتقدم والحضارة هي لصناعة الإنسان المتقدم المنتج المبدع، وانه بمقدار إنتاجه وإدارته المنظمة، وتقدمه وإبداعاته ، واختراعاته يكون تقدم المجتمع وتحضره، وازدياد القيمة المضافة داخله، ولذلك توجه القرآن الكريم في جميع آياته إلى الانسان نفسه مفرداً وجمعاً، موصوفاً بصفات أو بدونها موجهاً خطابه إليه، وجعله قطب الرحى في هذه الدنيا.
نعم إن الموارد المالية والمعادن ، والأموال لا تنكر أهميتها فهي قيام الحياة، وقوام المجتمع، ولكن درجتها تأتي بعد الانسان المتقدم المتطور المخلص المتخصص القادر على صنع المال ، وعلى تطويره، وعلى استغلاله وتشغيله لخدمة الأهداف المرجوة.
لذلك فإن صناعة الحياة والحضارة لن تتم إلاّ من خلال العنصر البشري الماهر الكفوء ، المعدّ إعداداً جيداً على أسس علمية دقيقة.
وبناءّ على هذا التمهيد ، فإنني أوجز القول في امرين مهمين يتعلقان بالموارد البشرية ، هما :
الأمر الأول : وضع خطة استراتيجية محكمة لتطوير الموارد البشرية (ذكوراً وإناثاً، صغاراً وكباراً) والصرف عليها بسخاء، وأرى أن تتضمن الخطة المعالم الأساسية الآتية :
1- ربط التعليم من الحضانة إلى الجامعة بالتنمية الداخلية والتطوير الذاتين والقدرة على الابداع.
2- تطوير الخطاب الديني (من خلال الخطب والمحاضرات والوعظ) ليقوم بتطوير الانسان المسلم، وجعل دينه العظيم دافعاً للاتقان والإحسان والابداع ، فديننا عظيم جداً في هذا المجال ويكفي أنه حوّل أمة جاهلية إلى خير أمة أخرجت للناس، وحققت أعظم حضارة عظيمة خلال أقل من قرنين ، فلا ينبغي أن تبقى دائرة الخطاب الديني في دائرة الوعظ والشعائر التعبدية على الرغم من أهميتها.
3- الاهتمام الكبير بالتنمية الذاتية ، وبالتدريب للناشئين ، وللعاملين كل في مجاله، ومحاولة غرس المهارات العظيمة الإبداعية في نفوسهم ، وهذا يتطلب ان توضع له خطة محكمة للتدريب في الدوائر والمؤسسات كلها، وفي المدارس والجامعات.
4- التخطيط السليم القويم للقوى العاملة، والتواصل الدائم المباشر بينهم وبين وزارة العمل ووزارة التخطيط، وفي ونظري أنه لا يكتفى بوضع الخطط العامة، وبعض الدورات، بل الواجب على هاتين الوزارتين أن تتعاونا لتبني عمليات الاعداد والتدريب والتوجيه والمتابعة، بما فيها متابعة الأداء، والتحسين الوظيفي، وصناعة الكفاءات المتميزة والمهارات المتنوعة.
5- الحوافز والجوائز المناسبة للناجحين والمبدعين وأعتقد ان المؤسسة القطرية للتعليم لها دور عظيم في هذا الجانب.
6- القيام بالتصميمات الدقيقة لكل وظيفة، وتصنيفها، وتوصيفها بمنتهى الدقة.
7- إعادة النظر في جميع الوظائف والدوائر لاكتشاف الخلل دون مجاملة ، ووضع الحلول العملية لها.
8- عدم السماح للتوظيف والعمل إلاّ بعد التحقق من المهارات المطلوبة ، ولا سيما في نطاق العمالة التي عاني مجتمعنا من جهلها وعدم مهنيتها، وعدم وجود مراقبة عليها.
الأمر الثاني : تشغيل الطاقات المعطلة أو شبة المعطلة ، وبخاصة للمتقاعدين.
فإن مما لا شك فيه أن سنّ قوانين التقاعد أمر في غاية من الأهمية يحقق الأمن والاستقرار للمجتمع ، ويجعل الموظف آمناً في سربه وفي مستقبله بعد توكله على الله تعالى، وتعود جذوره إلى عصر الخليفة الراشد عمر الفاروق الذي قرّر ان يمنح بيت المال لكل من عجز عن العمل بسبب كبر سنه منحة بمقدار حاجته، حتى من غير المسلمين الذين يعيشون في ظل الدولة الإسلامية ، فقد رأي الخليفة عمر عجوزا كبيراً بسوق المدينة يطلب المساعدة، فقال له عمر : من أنت؟ فقال: أنا يهودي عجوز أسأل الناس الصدقة لأفي بالجزية وأنفق على عيالي! فقال عمر متألماً : ما أنصفناك يا شيخ… أخذنا منك الجزية شاباً ، ثم ضيعناك شيخاً. فأمسك بيده إلى البيت فأطعمه ورضخ له شيئاً ، ثم أرسل إلى خازن بيت المال وقال له: افرض لهذا وامثاله ما يعينه وعياله، فخصص له عطاء يكفيه وعياله( وهذه القصة مشهورة رواها أبو عبيد القاسم بن سلام ، وابن زنجويه، وذكره السيوطي في جامع الأحاديث، وابن القيم في أحكام أهل الذمة وغيرهم).
ثم تنبهت إلى نظام التقاعد أوروبا الحديثة فنظمته منذ حوالي قرن، بعد الخليفة عمر بحوالي ثلاثة عشر قرناً.
وقد روعي في تحديد سن التقاعد أنها السن التي يعجز فيها الانسان، ويحتاج إلى الراحة والاستجمام، ومن هنا اختلفت الدول ، ففي بريطانيا حددت بداية سن التقاعد ببلوغ الرجال سن 65 سنة، والنساء 60 سنة ، وفي اسبانيا وألمانيا حددت 65 عاماً ، وفي فرنسا كانت 60 عاماً ولكن حدث عجز في صندوق التقاعد فرفعته إلى 62 عاماً، وبقية الدول تريد رفع سن التقاعد للتقليل من العجز، ولأن معدل الأعمار في ازدياد ، ولذلك تريد بريطانيا رفع سن التقاعد إلى 68 في عام 2046 ، وألمانيا إلى 67 في عام 2029 ، وكذلك زادت هذه الدول من سنوات العمل ، ففي فرنسا يجب دفع مساهمات التقاعد خلال أربعين سنة، وفي إيطاليا خلال 36 وبريطانيا خلال 30 عاماً وفي ألمانيا واسبانيا خلال 35 سنة العمل ، وهكذا .
وقصدي من هذا السرد هو أن هذه الدول ذات الكثافة العلمية ، وكثرة العلماء والباحثين ترفع سن التقاعد وتجعل السن المحددة مثل 65 سنة اختيارية يستطيع الموظف أو العامل أن يبقى سنوات أخرى حسب الأنظمة واللوائح ، كما أن الأنظمة الخاصة بالجامعات ومراكز البحوث المرتبطة بالجهود الفكرية تعطي فرصاً أكبر من الوظائف المرتبطة بالجهود البدنية ، أو الشاقة.
فإذا كانت هذه الدول تفعل هكذا ومعها الكم الهائل من الكفاءات؛ فما الذي يجب على دولنا الإسلامية وبخاصة الدول الحديثة ذات الأعداد القليلة مثل معظم دول الخليج العربية التي تعتمد على الموارد البشرية من الخارج بنسبة قد تصل إلى 80%؟ وكيف يجوز لها أن تستغني عن علمائها وباحثيها وأصحاب الشهادات العالية فيها بمجرد البلوغ إلى سن الستين؟ !.
إنني – إلى الآن- لم أستطع أن أفهم أو أستوعب ما كان يعرض على أساتذة الجامعة القطريين أن يوافقوا على إحالتهم للتقاعد حتى قبل سن الستين ، وأن الجامعة مستعدة لدفع مستحقاتهم التقاعدية .
وبهذه الحالة ، وبإجبارية التقاعد في سن الستين خرجت كوكبة كبيرة من الدكاترة والأساتذة أصحاب الشهادات العالية من الجامعة والمدارس ، والوظائف الحكومية الأخرى. وبذلك خسرت الدولة كل هذه الطاقات المتخصصة والمخلصة.
نعم لو كان لهؤلاء الدكاترة والأساتذة في الجامعة وأصحاب الشهادات العالية في الدوائر الأخرى بدائل من الشباب ينتظرون دورهم لكان هناك وجهة نظر مقبولة إلى حدّ ما، أما والجامعة والمدارس والوظائف العليا بأمسّ الحاجة إليهم فهذا أمر غير مفهوم – على الأقل في نظري-.
إنني سعدت بكلمة حضرة صاحب السمو الشيخ تميم أمير البلاد المفدى حفظه الله ، الذي ركز فيها على أن ( البلاد بحاجة إلى الكفاءات الوطنية لتحقيق التقدم والازدهار) حيث أعطتن الأمل بأن يستفاد من طاقات جميع المتقاعدين القادرين على الأداء والعمل في أي مجال كان ، ولا سيما أن نسبتهم ليست قلية فهم يمثلون قريباً من 19% وهي في ازدياد ان بقيت سنّ الستين هي المعيار المعول عليه، حيث يمكن أن تصل نسبة المتقاعدين إلى ثلث السكان خلال السنوات العشر اللاحقة.
ولذلك أقترح تشكيل لجنة من وزارتي العمل ، والتخطيط، وبقية الوزارات ذات العلاقة لاستثمار طاقات المتقاعدين ، وتستهدف ما يأتي:
1- إنشاء قاعدة بيانات مفصلة عن المتقاعدين بدولة قطر، وشهاداتهم ، ووظائفهم السابقة ، وخصائصهم الاجتماعية والعملية والاقتصادية وكل ما يتعلق بهم ، على أن يتم التحديث بصورة دورية مع الربط بجميع المؤسسات ذات العلاقة .
2- وضع الحوافز للمتقاعدين القادرين على العطاء بالعودة إلى أعمالهم ، ولا سيما في الجامعات والمدارس ونحوها من خلال عقود مقبولة تراعي حقوق الطرفين.
3- ولا مانع – بل والأفضل- فتح دورات تطويرية لمواكبة العصر ، ولمزيد من التطوير ، وأن من لم ينجح فيها يمكن أن لا يقبل ، أو يحول إلى عمل آخر مناسب .
وهذا الاقتراح معمول في عدد من البلاد الأوروبية والعربية.
4- إن استثمار الكفاءات والقدرات الموجودة لخمس السكان القطريين اليوم وثلثهم خلال عشر سنوات ، ضرورة مدنية وحاجة وطنية ، ومساهمة فعالة في الإسراع بوتيرة التنمية الشاملة، وترشيد للانفاق بشكل كبير.
فإذا وجد بديل موجود لأي وظيفة من المتقاعدين أو المقيمين المؤهلين وفي نفس المستوى فهذا أفضل وأقل تكلفة، أما إذا لم يتوافر المطلوب من هؤلاء الكوادر الوطنية أو المقيمة ، فلا شك يكون الاستعانة بالخارج مطلوباً مهما كان الثمن ، لأن ما يصرف لأجل العلم والتعليم مهما بلغ لا يسمى كثيراً .
إن لدينا من المتقاعدين ومن المقيمين العاطلين عن العمل بسبب السنّ عدداً كبيراً من ذوي الكفاءات العالية في مختلف التخصصات لو كلفوا لأدوا واجبهم بأفضل ما يتصور ويتوقع.
5- استحداث إدارة تنظيمية جديدة في وزارة العمل تكون مهمتها تطوير أداء المتقاعدين ، وتنمية قدراتهم بالتنسيق مع وزارة التخطيط التي تقوم بوضع الخطة وكيفية التنفيذ والآلية .
6- العمل على نشر ثقافة الإنتاج والعمل من الصغر إلى اللحد، وعدم الاستسلام لليأس والكسل، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة (نخلة صغيرة) فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل) رواه أحمد بسند صحيح ، وفي رواية أخرى بلفظ (…فليغرسها) رواه البخاري في الأدب المفرد ، الحديث 371 ، قال الألباني : صحيح .
وقد أثرت هذه التربية النبوية في صحابته حيث عملوا واجتهدوا وجاهدوا ، وأنتجوا وغرسوا إلى الموت فهذا أبو الدرداء الصحابي الجليل قد كبرت سنه جداً وهو يغرس شجر الجوز، فمرّ به رجل فقال : أتغرس هذه وانت شيخ كبير ، وهي لا تثمر إلاّ في كذا وكذا عاماً؟ فقال أبو الدرداء: ( ما علي أن يكون لي أجرها ، ويأكل منها غيري) وفي لفظ آخر ( ما علي أن يكون لي ثوابها، ولغيري ثمرتها).
7- ترتيب الفرص للمتقاعدين للالتحاق بالجامعات ، أو المعاهد او المراكز للحصول على الشهادات المتخصصة ، فالعلم من المهد إلى اللحد، ثم الاستفادة من هذا التطوير .
8- عمل معارض دورية لابداعات المتقاعدين ، وإنتاجاتهم الفكرية والعلمية والفنية، ووضع جوائز تشجيعية للأعمال المبدعة.
9- تشكيل مجلس استشاري من المتقاعدين في كل دائرة، أو كلية ، أو جامعة، يكون لهذا المجلس اجتماعات دورية بينهم وبين المسؤولين الحاليين للاستفادة من خبراتهم، وتفادي السلبيات حتى لا تتكرر ، وفي هذا جمع بين خيرين ، إحساس المتقاعدين بأن لهم دوراً في الحياة، واستفادة الشباب والجيل الحالي من تجارب الماضي بمرها وحلوها وسلبياتها وايجابياتها.
10- عمل ندوات عامة ، وورش العمل للمتقاعدين على كافة المستويات للإفادة ، والاستفادة وهناك جوانب إنسانية ، واجتماعية ، وصحية للمتقاعدين لا أتناولها ؛ لأن موضوعنا ليس فيها، وعقدت لها ندوات.
وأخيراً فإنني أؤكد على ضرورة الاستفادة من جميع إخواننا المقيمين القادرين على العطاء أيضاً الذين انتهت خدماتهم رسيماً وبقيت إقاماتهم ، فيجب أن يكون لهم الأولوية لأنه أصحاب خبرات جربوا في البلد ونجحوا، ولأنهم أعلم الناس بطبيعة البلد وعاداته وقيمه.
والله تعالى أسأل أن يحفظ هذا البلد العزيز، ويزيده أمناً واستقراراً وتقدماً وازدهاراً وسائر بلد الإسلام والمسلمين، آمين