للفقر آثار اقتصادية ، وآثار علمية وثقافية ، وآثار اجتماعية ، وآثار سياسية ، نتناولها بإيجاز شديد … .

 

أولاً ـ الآثار العقدية ، والفكرية ، والأخلاقية :

 للفقر تأثيره على العقيدة ، إذا لم يكن الفقير قوي الايمان ، حيث قد يصيبه الشك والريبة في حكمة الخالق ، حينما يرى الغني المترف القاعد المتبطل ، ثم يرى نفسه مع جده وعمله لا يجد شيئاً لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ من الفقر مع الكفر ، فيقول : ( اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر )[1] وكان أيضاً يقول : ( إني أعوذ بك من الفقر ، والقلة ، والذلة ، وأعوذ  بك من أن أظلم أو أُظلم )[2] وكذلك لا ينكر للفقر دوره السلبي وخطره على الفكر ، من حيث انه يجعل صاحبه مشغولاً بضرورات الحياة لنفسه وعياله ، فلا يبقى له وقت للتفكير في الابداع ـ في الغالب ـ ولذلك قال الفقهاء لا يقضي القاضي وهو جوعان .

  وأما خطره على الأخلاق والسلوك فكبير جداً إلاّ إذا بلغ صاحبه مبلغاً كبيرة في الايمان والتقوى ، يقول الشيخ القرضاوي : ( فإن الفقير المحروم كثيراً ما يدفعه بؤسه وحرمانه ـ وخاصة إذا كان إلى جواره الطامعون الناعمون ـ إلى سلوك ما لا ترضاه الفضيلة والخلق الكريم ، ولهذا قالوا : صوت المعدة أقوى من صوت الضمير ، وشر من هذا أن يؤدي ذلك الحرمان إلى التشكيك في القيم الأخلاقية نفسها ، وعدالة مقاييسها )[3] .

  وهناك أحاديث كثيرة تدل على العلاقة بين الفقر والدين والمغرم وبين سوء الأخلاق ، فقد روى البخاري وغيره بسندهم عن عائشة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة ويقول : ( الله إني أعوذ بك من المأثم والمغرم ) فقال له قائل : ما أكثر ما تستعيذ ـ يا رسول الله ـ من المغرم ؟ قال : ( إن الرجل إذا غرم حدّث ، فكذب ، ووعد فأخلف )[4] قال الحافظ ابن حجر : ( يستفاد من هذا الحديث سدّ الذرائع ، لأنه صلى الله عليه وسلم استعاذ من الدين ، لأنه في الغالب ذريعة إلى الكذب في الحديث ، والخلف في الوعد ، مع صاحب الدين عليه من المقال)[5] .

  والحديث وإن كان في الدّين ولكن السبب الأساس في ذلك هو الفقر ، وعدم القدرة على الأداء ، بل إن هناك أحاديث تدل على وجود العلاقة بين الفقر ـ إذا لم يصحبه ايمان قوي ـ وبين الرذائل مثل السرقة ، والزنا ، ونحوه من الفواحش والاختلاسات[6].

  

ثانياً ـ الآثار الاقتصادية السلبية للفقر :

  للفقر آثار عقدية ، وفكرية ، وأخلاقية ، وآثار اقتصادية على النهضة الاقتصادية ، والتنمية الاقتصادية والنمو الاقتصادي على الدولة على ضوء ما يأتي :

  1. ان المجتمع إذا كان فقيراً فإن الدخل القومي يذهب إلى إطعام الأفواه الجائعة بدل أن تذهب إلى التنمية ، والاستثمار ، فتظل الدولة ( والمجتمع ) في دائرة مفرغة ، يكون من الصعب الخروج منها ، وبالتالي فلن تتحقق التنمية المنشودة في ظل الفقر المدقع .

  2.  زيادة الديون والقروض الفردية لسد الضروريات والحاجيات الاستهلاكية بدلاً من الخوض في خطط النهضة والبناء والتعمير .

  3. تبعية الشعوب الاقتصادية للدول والشعوب المانحة للقروض والديون ، وما يترتب عليها من آثار سلبية في جميع الجوانب والجبهات .

  4. زيادة الاستغلال والاحتكار ، وبالتالي يزداد الفقراء فقراً ، والأغنياء غنى ، لأن الفقراء بسبب حاجتهم الشديدة يكونون غير قادرين على المنافسة ، فيخضعون للشروط التعسفية للأغنياء والشركات الاحتكارية .

  5. انخفاض مستوى الانتاج ، وبالتالي انخافض الدخل والاستثمار ، والادخار ، ونصيب الفرد من الناتج القومي وذلك لأن قدرات الفقير وبخاصة الفقير المدقع ، يكون نصيبه أقل من غيره في الصناعة والزراعة ، واستغلال الأرض بسبب عدم قدرته على شراء التقنيات الحديثة المتطورة التي تزيد في الانتاج ، والاتقان ، فالفقير في الغالب يعتمد على الوسائل البدائية ، وبالتالي فيكون إنتاجه قليلاً في مختلف المجالات ، ويكون معدل نصيبه من الناتج القومي قليلاً ، وكل الخبراء ينصحون الدول الفقيرة بضرورة زيادة الانتاج وبخاصة الانتاج الصناعي .

 

وأما الآثار الاقتصادية على الدول الفقيرة فهي ما يأتي :

‌أ-    عجز الموازنة بسبب قلة الموارد ، وانخفاض حجم الايرادات العامة التي تحصل عليها الخزانة العامة ، وعدم امكانية فرض أو تحصيل ضرائب مناسبة تصرف في أوجه الرعاية الغذائية والصحية ، والخدمات الأساسية الأخرى ، بل ان الدولة إذا فرضت ضريبة ، أو حجبت الدعم عن سلعة أساسية ثارت الجماهير واضطربت الأمور مما يجعل الدولة تحسب ألف حساب لفرض ضريبة ، أو رفع دعم ، فقد حدثت مظاهرات عارمة في معظم بلاد العالم الثالث لأجل رفع الدفع الدعن عن الخبر انتفاضة 1976 في مصر لرفع الدعم عن الخبز ، أو لدفع الدعم عن أعلاف الحيوانات في الأردن  ولزيادة سعر البنزين في العراق أيام عبدالكريم قاسم ، راح ضحيتها عشرات بل مئات من المواطنين ، وتسببت في تحقيق أضرار مادية ومعنوية تقدر بالمليارات ، والغريب أن مثل هذه المظاهرات لم تحدث في معظم هذه الدول لأجل الاستبداد السياسي وما فعلته الدكتاتورية بالشعوب … .

‌ب-  عجز ميزان المدفوعات بسبب ضآلة حجم وقيمة الصادرات ، وزيادة قيمة وحجم الواردات ، حيث تكون النسبية في الصادرات والواردات في معظم الدول الفقيرة هي 1/3 أي الثلث[7] .

‌ج-  زيادة الديون الخارجية ، وذلك لعدم وجود موارد اقتصادية ، او صناعات قوية ، ولما ذكرناه آنفاً إضافة إلى الفساد الاداري ، وبالتالي فإن الدولة تضطر للاقتراض بفائدة ، وبأي ثمن كان ، ثم تتراكم الديون ، وتصبح الدولة أسيرة لمن منحها .

‌د-  زيادة التضخم ، وتدهور القيمة الشرائية للعملة محلياً .

هـ ـ زيادة معدلات الجرائم المالية والفساد الاداري[8] .

  

ثالثاً ـ الآثار السلبية للفقر المدقع على العلم والثقافة والعقل والتخلف ، وهي :

  1. ان الفقير المدقع في الغالب ينشغل بسد جوعته عن العلم والثقافة ، فلا يبقى له القوت الكافي للتعلم والثقافة .

  2. ان أولاد الفقراء المعدمين  لن يتركهم أولياء أمورهم في الغالب للتعلم والثقافة ، بل يشغلونهم بالأعمال اليدوية ، والزراعية ، والرعوية ، وبالتالي يصبحون أميين .

  3. ان الفقير لن يتمكن ـ في الغالب ـ بسبب عدم وجود المال لديه عن الاستفادة من تكنولجيا العصر ، والتقنيات الحديثة .

  4. التلازم بين الفقر والمرض ، فأينما كان الفقر المدقع كانت الأمية ، وبالعكس .

  5. أما أثر الفقر المدقع على العقل والابداع فيأتي من خلال ما قاله الخبراء : (إن سوء التغذية يضرّ بنمو وتطور الانسان ، وذلك بالتأثير على شكل حجم الجسم ، أما في الصغار فيؤدي إلى تخلف خطير في النمو الفعلي)[9].

 ومن الجدير بالذكر أن للرفاهية ،والغنى المفرط دون ضوابط آثاراً سيئة على العلم والابداع والابتكار أيضاً ، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستعيذ من شر الغنى ، ومن شر الفقر ـ كما سبق ـ  .

 

رابعاً ـ الآثار الاجتماعية للفقر :

للفقر آثار اجتماعية خطيرة ، ولا سيما إذا لم تكن هناك تربية ايمانية قوية ، من أهمها:

  1. الأمية والجهل والتخلف ـ كما سبق ـ

  2. كثرة الأمراض ، حيث ان معظم الأمراض تعود أسبابها إلى سوء التغذية ، ويعود تأثيرها على الانسان بالموت ، أو الانهاك وإلى عدم وجود الدواء المناسب الصالح ، ومع الأسف الشديد فإن العالم النامي ـ وعلى رأسه عالمنا الاسلامي ـ  يفتقد الأمرين بنسبة كبيرة ، يذكر الدكتور الطويل : (أن الجوع والمجاعة ضاربان بجذروهما في ديار المسلمين) ، ويقول المدير لمنظمة الصحة العالمية في عام 1963م : (من المؤسف أن يكون نصف سكان العالم أو ربما ثلثاهم مصابين بسوء التغذية) ، ويقول المدير العام لمنظمة الأغذية والزراعة عام 1981 : ( لم يطرأ أي تحسن على حالة الأغذية في البلدان ذات الدخل المنخفض ….)  وهناك من يقول : ( إن 70% من أولاد البلدان النامية يشكون من سوء التغذية ) ، ومن المعلوم أن السبب الأول لسوء التغذية هو الفقر[10] .

  3. زيادة معدل الوفيات ، حيث ربط جميع الخبراء بين معظم الأمراض بحلقة محكمة بالفقر ، وبالتالي موت الكثيرين ـ وقد ذكرنا أثر الجوع في موت الأطفال في السابق ـ حيث ذكرو أن نقض فيتامين A يؤدي إلى فقدان البصر ، وأن نسبة 60-70% من حالات فقدان البصر تنجم عن هذا المرض ، وأن ضحاياه هم أبناء العلائلات المعدمة ، وان مرض التراخوما ، وهو أيضاً أحد أسباب العمى يترتب على سوء التغذية في الغالب ، وأن عدد المصابين به يقدر بأكثر من أربعمائة مليون نسمة ، وكذلك مرض عمى الأنهار الذي قدر ضحاياه بأكثر ثامينة وعشرون مليون ، ومعظمهم في البلاد النامية[11] .

    بل إن صحة الوليد مرهونة بعوامل عدة منها صحة الوالدين ، وبخاصة الأم ،ومستوى تغذيتها ، والامراض التي أصابتها ، ومنها تغذية الطفل ، ومنها بيئة الطفل من حيث النظافة والتهوية ، وهناك بعض الأمراض الخطيرة في بلاد المسلين تعتبر من أمراض الفقر والحرمان وسوء التغذية وعدم وجود مياه الشرب الصالحة ، وعدم وجود المسكن الصحي المناسب ، وعدم النظافة ، ومنها مرض السل والتدرن الذي لا يزال موجوداً في البلاد الفقيرة ، وله ضحاياه في حدود ثلاثة ملايين شخص ، ومرض الجذام الذي للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية دور فيه ، ومرض البلهارسيا الذي يعود سببه إلى طفيلي ينتقل بالماء ، وأن عدد المصابين به يقدر بمائتي مليون إصابة ، وهو منتشر في مصر ، ونيجريا والسودان ، وايران وغيرها ، ومرض الملاريا حيث يموت به حوالي مليون طفل كل عام في أفريقيا وحدها ، ومرض النوم الأفريقي ، وسببه طفيلي اسمه Trypanosome وهو أيضاً أحد المخاطر الصحية على الانسان ، ومن أهم العراقيل في سبيل التنمية الزراعية والصناعية ، وعدد المصابين به خمسة وأربعون مليون إنسان ، وهو ينتقل بسبب ذبابة تسمى  Tse Tse وهو مرض يحدث في المصاب تغييراً في فسيولوجيته فيجعله أرقاً في الليل ، وناعساً في النهار ، وأمراض أخرى[12] .

  4. نقص الخدمات الصحية والسكنية ونحوهما ، فمما لا شك فيه أن هذه الأمراض المذكورة وغيرها يرتبط جميعها ارتباطاً ـ مباشراً أو غير مباشر ـ بالفقر وانعدام الامكانيات المادية ، وانخفاض الخدمات الصحية ، فمثلاً يوجد في الدول المتطورة ( أوروبا مثلاً ) ما يقابل 250-500 شخص طبيب ، وفي الدول النامية (ومعظم دولنا الاسلامية ) يوجد في مقابل 7400-18000 شخص طبيب واحد[13] .

    كما أن الشعوب الفقيرة تعاني من نقص الخدمات الأساسية من مياه الشرب الصالحة ، والمسكن المناسب ، تقول مصادر الأمم المتحدة : إن أكثر من نصف سكان بنغلاديش يعيشون دون مستوى الكفاف ، وتنقل وكالة رويتر أن 10% من سكان ( دكا ) من الشحاذين ، وأن نسبة النساء 34% منهم ،وان 12% منهم من الأطفال والمراهقين والمراهقات ، يقول الدكتور الطويل : (فلقد شاهدتهم بنفسي منذ سنوات يفترشون بالآلاف أرصفة الشوارع … فالأجساد الهزيلة المريضة الجائعة تتكدس بأسمالها البالية متراصة على جوانب الطريق…. فأين التكافل الاسلامي ؟ )[14] .

    ويقول الدكتور حمدي عبدالعظيم : ( نستنتج من جدول رقم 8 أن نسبة السكان الذي يحصلون على مياه نقية صالحة للشرب إلى إجمالي السكان في الدول الفقيرة ضئيلة جداً تتراوح بين8% -56% أما في الدول المتقدمة فلا تقل عن 100% ، وبالنسبة للصرف الصحي فإن أرقام البنك الدولي تشير إلى أن نسبة السكان الذين يحصلون على هذه الخدمات … تتراوح بين 6% في باكستان ، 22% في زائير ، وذلك قابل 100% في الدول الصناعية المتقدمة)[15] .

  5. التبعية الاجتماعية ، حيث ان معظم الفئات الغنية القادرة تبذل كل جهودها لاستغلال الفقر لصالح مصالحها الاقتصادية ، والسياسية ، وشراء أصواتهم بأموال لمكاسب سياسية ، إضافة إلى التبعية الاجتماعية للدول المانحة ، حيث لا تعطي الأموال ـ مجاناً ـ وإنما تحاول التغلغل في المجتمع الفقير بالتاثير فيه دينياً واجتماعياً ، وجعله تابعاً لها ، كما حدث أثناء الحرب الباردة ، حيث كان العالم النامي مقسماً على المعسكرين الرأسمالي ، والشيوعي ، وكان الدولة تعطى لها الأموال حينما تترك معسكراً إلى الآخر .

  6. التلازم بين الفقر المدقع والتخلف ، فحيثما كان الفقرـ وبخاصة المدقع ـ يؤثر تأثيراً مباشراً ويؤدي إلى تحقيق التخلف للمجتمع ، فالفقير الجائع غير قادر على المساهمة الجادة في تحقيق التنمية ، إلاّ أخذ بيده وتمت مساعدته[16] .

  7. أثر الفقر على أمية المرأة التي هي نصف المجتمع ، فالنساء في البلدان النامية وفي ظل الفقر المدقع لا يتاح لهنّ التعليم أصلاً ، أو مواصلة التعليم على الأقل[17] ، والخلاصة أن التجارب الواقعية ، والوقائع المشاهدة ، والدراسات العلمية تربط بين الفقر ، وبخاصة الفقر المدقع ، والأمية ، فالفقر والحرمان يصنعان بيئة معوقة تمنع ، أو تقلل من امكانية التعلم مطلقاً ، أو التعلم المؤثر على الأقل .

  8. هجرة العقول والعمالة إلى الخارج ، فقد أشارت التقارير الحديثة في الهند ـ مثلاً ـ أن حوالي 30% من خريجي معاهد القضاء وعلوم الكومبيوتر ، والكيمياء ، والهندسة الميكانيكية في الهند يهاجرون سنوياً إلى أمريكا وكندا[18] وغيرها .

    وقد عقد في القاهرة مؤتمر لمناقشة هذه الظاهرة الخطيرة ، توصل من خلاله إلى أن وراءها مجموعة من الأسباب حيث ذكر ضمن البحوث أن مصر وحدها هاجرت منها إلى الخارج أكثر من 824000 عالم في مختلف التخصصات[19] ، ونشرت جريدة الحياة دراسة أعدها مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية في الامارات إلى أن الدول العربية تتكبد خسائر مذهلة لا تقل عن مائتي مليار دولار سنوياً بسبب ما يعرف بهجرة العقول العربية إلى الخارج ، وأظهرت الدراسة أن 5.4% من الطلبة العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى أوطانهم وأن 34% من الأطباء الأكفاء في بريطانيا هم من العرب ( علماً بأن عدد الأطباء العراقيين فقط في بريطانيا وحدها 2000 طبيب ) وأن 75% من الكفاءات العلمية المهاجرة تتجه نحو أمريكا ، وبريطانيا ، وكندا[20] ، ومن الملاحظ أن هجرة العقول تدخل في الآثار الاجتامعية السلبية لأنها تؤدي إلى خلخلة الوضع الاجتماعي ، وتدخل كذلك في الآثار العلمية السلبية ، وفي الآثار الاقتصادية السلبية للفقر .

  9. التفكك الأسري وزيادة الطلاق ، أو عدم الزواج أصلاً ، حتى إن الاسلام أمر من كان فقيراً بالعفاف فقال تعالى : (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ)[21] وذلك لخطورة الفقر على الأسرة ، فالزوج العائل إذا لم يجد مالاً ينفق على عياله الذين يتضورون جوعاً ، أو يموتون بسبب عدم الدواء والغذاء يفكر ـ إن لم يكن تقياً ـ في أية وسيلة لتحصيل المال ، ولذلك يستغل تجار المخدرات هؤلاء الفقراء ويغرونهم بالمال حتى يوقعوهم في شباك التهريب والترويج لسموم الموت ، بل إن الله تعالى أشار إلى ما كان يفعله الجاهليون من قتل أولادهم بسبب الفقر فعلاً ، او الخوف من وقوعه فقال تعالى : (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ)[22] وقال تعالى : (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا)[23] .

    ومن واقعية الفقه الاسلامي أن الفقهاء أجازوا التطليق قضاءً بسبب الاعسار وعدم القدرة على الانفاق[24] .

  10. زيادة الجرائم بين الشباب ، والنساء ، والأحداث ، فلا شك أن للفقر أثره الكبير في زيادة الجرائم التي تقع من الشباب ، أو النساء ، أو الأحداث ، حيث ترى المدرسة الاجتماعية في تفسير الاجرام أن الأحوال الاقتصادية السيئة تحتل المرتبة الأولى في مسؤولية الجنوح نحو الاجرام ، وأن هناك ارتباطاً وثيقاً بين الجريمة والدورات الاقتصادية ، فالبيئة التي فيها الفقر والبطالة هي البيئة التي تكثر فيها جرائم المال والاغتصاب والقتل ونحوها[25] ـ هذا بلا شك إذا جرد المجتمع من قيمه الدينية المؤثرة ـ وذكرت بعض الدراسات الاجتماعية أن 25% من أطفال المناطق الفقيرة يجنحون إلى الجريمة ، في حين أن النسبة في المناطق المتقدمة لا تزيد على 1% ، وكذلك تدل الدراسات الاجتماعية ان انتشار البغاء والدعارة له ارتباط كبير بالفقر والمناطق الفقيرة ، وقد عملت مقابلات مع النساء الداعرات في تركيا في عهد أربكان ـ عندما كان رئيساً للوزراء ـ فتبين أن نسبة كبيرة منهن دفعتهن الظروف المعيشية والجهل إلى هذه المهنة ، وأن نسبة تزيد عن 95% مستعدات لتركها إذا أتيح لهنّ معيشة مناسبة مع زوج صالح[26] ، ولذلك فرق بعض الباحثين بين البغاء في المجتمعات الفقيرة الذي يرتبط بالحاجة ، والبغاء في المجتمعات المتقدمة الذي يرتبط بالتحلل الجنسي والترفيه[27] .

وهكذا تعاطي المخدرات ، وتهريبها ، حيث أوضحت بعض الدراسات : أن أكثر الفئات تعاطياً للمخدرات هم الفقراء ، ومتوسطو الجهل ، حيث تأتي مرتبة الأغنياء في المرتبة الثالثة ، وذلك لشيوع الجهل فيما بينهم والهروب من المشاكل وغير ذلك[28] كما تشير الاحصائيات إلى أن حجم استهلاك المخدرات في الهند وصل إلى 250 طناً مترياً عام 1987 وفي باكستان 34 طناً مترياً[29] ، وفي دراسة للمجلس القومي للأمومة والطفولة بمصر تبين أن 16% من الشباب جربوا المخدرات ، و4% منهم أدمنوا عليها ، وأن مصر تكبدت خلال السنوات العشر الأخيرة 178 مليار جنيه[30] ، ولكن الواقع أن المخدرات منتشرة حتى في الدول الخليجية الغنية مما يستدعي دراسة عميقة مفصلة لجميع أسبابها التي لا تقتصر على سبب واحد .

 

خامساً ـ الآثار السياسية للفقر :

حيث يترتب على شيوع الفقر في المجتمع عدة آثار سياسية منها :

  1. الاستبداد السياسي ، والتبعية السياسية في الداخل من خلال أن القوة تكون لأصحاب الأموال والنفوذ ، وشراء الذمم في الداخل ، والتبعية السياسية للخارج ، اي للدول الاستعمارية المانحة للقروض والمساعدات .

    والواقع الفعلي للشعوب الفقيرة هي أنها تعاني من الاستبداد السياسي والدكتاتورية المطلقة ، وأن للفقر دوراً في صنع المستبد والدكتاتور الذي يعتمد على الشعارات البراقة وعلى دعم الطبقات الجاهلة ، وابعاد الطبقات المتعلمة والسياسية عن مراكز القرار ، والمشاركة السياسية ، ومؤسسات المجتمع المدني ، وبالمقابل إعطاء الدور الأكبر للعسكر ، والانفاق العسكري[31] ، لذلك يظهر لنا بوضوح أن هناك خطة لتطبيق سياسة التجويع والافقار في عالمنا الاسلامي لاعداده للاحتلال المباشر من جديد (والله المستعان) .

  2. الاضطراب السياسي وعدم الاستقرار ، حيث تدل التجارب الواقعية على أن الفقر أحد أسباب الفوضى والاضطراب ، وأن معظم المشاكل السياسية تعود إلى الفقر والعوز والحرمان ، وأن غنى الشعب أحد أهم الأسباب لاستباب الأمن ، لأن الأمن من مصلحته ، ومصلحه ماله فيحافظ عليه ، ناهيك أن المجتمع الفقير محروم تنقص فيه نسبة المتعلمين ، وتزداد فيه نسبة الأمية ، ولا سيما إذا رأى الفقير المعدوم أن الأغنياء يتمتعون بغناهم المفرط وهو يتضور جوعاً ، فلا يستبعد منه أن يبذل كل جهده للفوضى والاضطراب حتى يكون الجميع سواء ، ناهيك عن استغلاله من قبل الأعداء للتجسس وإثارة المشاكل والقلاقل ، كما يحدث الآن في بعض الدول الفقيرة .

 

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1])  رواه الحاكم في المستدرك (1/9) وابن حيان في صحيحه (3/302) وابن خزيمة في صحيحه (1/367)

([2])  رواه أبو داود ـ مع العون ـ (4/403) وابن ماجه (4/1263) وأحمد في مسنده (2/305 ، 325 ، 354 ،  540)

([3])  الشيخ القرضاوي : مشكلة الفقر ص 13

([4])  صحيح البخاري ـ مع الفتح ـ كتاب الاستقراض (5/60)

([5])  فتح الباري (5/61)

([6])  فقد روى مسلم في صحيحه ( 2/709) حديث الرجل الذي تصدق على زانية وعلى سارق ، فأغنم كثيراً ، فأتي فقيل له : ( أما صدقتك فقد قبلت ، أما الزانية فلعلها تستعف بها عن الزنا ، ولعل السارق يستعف بها عن سرقته ) حيث يدل على أن الفقر له دور في الاندفاع نحو الرذائل إلاّ في حالة الايمان القوي والقناعة .

([7])  د. حمدي عبدالعظيم : المرجع السابق ص 185 وما بعدها ، ود. رمزي زكي : التأريخ النقدي

([8]) المراجع السابقة أنفسها

([9])  البروفيسور آبل سميث : الفقر والتنمية ، والسياسة الصحية ، المشار إليه في د.الطويل : المرجع السابق ص77

([10])  د. الطويل : المرجع السابق ص 62 ، 68 ، 72

([11])  د. نبيل الطويل : المرجع السابق ص 81-91

([12]) د. ماهلر ، المدير العام لمنظمة الصحة العالمية ، كلمته المنشورة في منشورات المنظمة الخاصة بالسل عام 1982م ، ودنبيل الطويل الذي أفاض في كتابه المشار إليه سابقاً ص 81-124

([13]) د. حمدي عبدالعظيم : فقر الشعوب ص 120 وما بعدها

([14]) د. الطويل : المرجع السابق ص 0027

([15]) د. حمدي عبدالعظيم : المرجع السابق ص 121-122

([16])  يراجع : د. اسماعيل حمادي : تعقيبه المسمى : التلازم بين التخلف والفقر والجوع ، المنشور ضمن : كتاب الفقر والغني في الوطن العربي ، وقائع الندوة العلمية لقسم الدراسات الاجتماعية ببغداد 22-23تشرين أول 2000 ، ط. بيت الحكمة ص 229

([17]) المصدر السابق نفسه

([18])  د. حمدي عبدالعظيم : المرجع السابق ص 204

([19]) موقع البلاغ www.balagh.com

([20])  جريدة الحياة اللندنية في 6/4/2005

([21])  سورة النور / الآية 33

([22])  سورة الأنعام / الآية 151 

([23])  سورة الاسراء / الآية 31

([24])  يراجع :

([25])  د. سامية حسن الساعاتي : الجريمة والمجتمع ، دار النهضة العربية بيروت 1983 ص 112-118 ، 184 ، ود. حمدي عبدالعظيم : المرجع السابق ص 208-209

([26])  قد قرأتها بنفسي في صحف تركيا في عام 1996م

([27])  د. رشدي فكار : تأملات اسلامية في قضايا  الانسان والمجتمع ط. وهبة بالقاهرة 1980 ص 148 ، والمراجع السابقة

([28])  د. السيد على الشتا : علم الاجتماع الجنائي ط. دار المعرفة الجامعية بالاسكندرية 1988 ص 165 وما بعدها

([29])  د. حمدي عبدالعظيم : المرجع السابق ص 211

([30])  موقع عمرو خالد على شبكة الانترنيت

([31])  المراجع السابقة