فقد ذكرنا بإيجاز التعريف بالمظاهرات ونحوها فوجدناها وسائل جماهيرية جديدة للتعبير عن الرضا ، أو السخط عن تصرفات الدولة ، أو الحزب ، أو الشركة ، أو نحوها ..

ومن هنا فالسؤال الذي يطرح نفسه هو : هل هذه المظاهرات السلمية مشروعة في الإسلام ؟

آراء المعاصرين :

اختلف المعاصرون في هذه المسألة ـ من حيث المبدأ والجملة ـ على رأيين:

الرأي الأول : المنع والحظر .

 ذهب جماعة من المعاصرين معظمهم من هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية ، منهم : الشيخ ابن باز ، والشيخ ابن عثيمين رحمهما الله ، والدكتور صالح بن فوزان الفوزان ، والشيخ صالح بن علي بن غصون ، والشيخ عبدالعزيز آل الشيخ مفتي المملكة العربية السعودية ، وذهب كذلك الشيخ الألباني رحمه الله إلى حرمة المظاهرات ضد الحكومات في عالمنا الإسلامي1  .

ملحوظة :

 ومن الإنصاف أن أبين بأن فتوى العلامة الشيخ ابن باز ، وفتوى العلامة الشيخ ابن عثيمين رحمهما الله ، كانتا في أعقاب مظاهرات حجاج إيرانيين أثناء مناسك الحج في العام 1412هـ ، وبالتالي فإن تنزيلهما على المظاهرات التي حدثت في تونس ، أو في مصر يكون غير دقيق في نظري ، لأن لازم المذهب ليس بمذهب ، وأن الظروف والملابسات والوسائل والغايات والمقاصد التي أحاطت بفتواهما السابقة غير متطابقة تماماً مع الظروف والملابسات والأحوال والمقاصد والوسائل التي أحاطت بالمظاهرات الأخيرة .

 كذلك نُبين من باب الانصاف : أن فتوى هيئة كبار العلماء خصصت الحرمة بالمملكة العربية السعودية حيث ذكرت أن أولياء أمورها ملتزمون بأحكام الشريعة والحفاظ على الهوية الإسلامية ، حيث قالت : (وبما أن المملكة العربية السعودية قائمة على الكتاب والسنة ، والبيعة ، ولزوم الجماعة والطاعة فإن الإصلاح والنصيحة فيها لا تكون بالمظاهرات والوسائل التي تثير الفتن وتفرق الجماعة …… والهيئة إذ تؤكد على حرمة المظاهرات في هذه البلاد فإن الأسلوب الشرعي الذي يحقق المصلحة ولا يكون معه مفسدة هو المناصحة2….. )  .

 وقال الدكتور ناصر العمر : المظاهرات في السعودية محرمة بسبب المفاسد ، مضيفاً : (نرى عدم صلاحية تطبيق المظاهرات في كل البلدان ، وذلك لاختلاف كل بلد عن غيره3 ) .

أدلة المانعين :

استدل معظم هؤلاء الفُضَلاء بمجموعة من الأدلة يمكن تلخيصها فيما يأتي :

الدليل الأول : أن هذه المظاهرات بدعة مستحدثة لم تكن معروفة في عصر الرسول صلى الله عليه  وسلم ولا في عصر الخلفاء الراشدين والصحابة الكرام .

 وبما أن المظاهرات تدخل في وسائل الدعوة فيجب أن تكون مما ورد فيه دليل معتبر ، وذلك لأن وسائل الدعوة توقيفية فلا يجوز إحداث وسائل جديدة فيها بغير دليل ، وهذا ( هو مسلك يميل إليه الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في كثير من المسائل ، ومنها مسألة المظاهرات ، ويوافقه كثير من تلامذته4 )  .

ويمكن أن يناقش هذا الدليل بما يأتي :

أولاً ـ لا نسلم أن وسائل الدعوة تعبدية توقيفية ، لأن كون الشي توقيفياً محصور في الشعائر التعبدية مثل الصلاة ، ومقادير الزكاة ، ومناسك الحج ، والصيام ، وأما المعاملات والعادات فالأصل فيها الاباحة ، وأنها معللة بعلل وحكم واضحات ، ولذلك فإن وسائل الدعوة هي وسائل للتعبير عن التبليغ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهي غير توقيفية ، بل مرتبطة بمقاصدها ، وهي التبليغ ، كما هو الحال في كثير من الوسائل والأدوات المستعملة اليوم في الدعوة والتبليغ .

ثانياً ـ ولو سلم ذلك لما سلّمنا بعدم وجود دليل وأصل على عمومية وسائل الدعوة لكل وسيلة قديمة وجديدة مشروعة ، حيث توجد أدلة معتبرة من الكتاب والسنة على وجوب البيان والتبليغ مطلقاً فقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)5  وقال تعالى : (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)6   ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( بلغوا عني ولو آية7)  .

الدليل الثاني : هو أن هذه المظاهرات أخذت من الكفار ولم تكن معروفة في العصور الإسلامية الأولى ، وبالتالي فإنها تَشَبُّه بالكفار ، وهو منهيّ عنه محرم8  .

 ويمكن أن يُجاب عن هذا الدليل بأن التشبه بالكفار إنما يكون محرماً إذا كان التشبه خاصاً بالجانب الديني ، أو مقصوداً به الكفر 9 ، ولذلك جاءت فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء برئاسة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله ، مبينة ما يدخل في المحرمات في هذا المجال : ( ثانياً : ما كان من ذلك مقصوداً به التنسك والتقرب ، أو التعظيم كسباً للأجر ، أو كان فيه تشبه بأهل الجاهلية ، أو نحوهم من طوائف الكفار فهو بدعة محدثة…. ) ، ثم صرحت الفتوى بوضوع بأن : ( ما كان المقصود تعظيم الأعمال مثلاً لمصحلة الأمة ، وضبط أمورها كأسبوع المرور ، وتنظيم مواعيد الدراسة ، والاجتماع بالموظفين للعميل ونحو ذلك مما لا يفضي إلى التقرب به ، والعبادة ، والتعظيم بالأصالة فهو من البدع العادية التي لا يشملها قوله صلى الله عليه وسلم : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ10 )  .

 ولأجل ذلك لم نسمع من أحد علماء المملكة العربية السعودية أنه يقول بحرمة اليوم الوطني للمملكة ، أو لغيرها ، أو أسبوع المرور ، ونحو ذلك .

 وبناءً على ذلك فإن المظاهرات هي تعبير عن الاستنكار عن شيء محرم ، أو عن الرضا عن شيء نافع فلا يراد بها التعبد ، ولا التقرب ، ولا التعظيم ، وإنما يراد بها توصيل رسالة جماعية ، أو شعبية إلى الحكومة ، أو الجهة المعنية ، فلا يمكن وصفها بأنها بدعة محرمة ، أو أنها تَشَبُّه بالكفار ، بل هي وسيلة للتعبير عما يريده الإنسان ، وبالتالي تكون معتبرة بنتائجها وغاياتها ومقاصدها .

الدليل الثالث : أن المظاهرات فتنة من الفتن التي تؤدي إلى الفرقة بين المسلمين ، وتمزيق كلمتهم ، ومن المعلوم أن إثارة الفتنة محرمة بالاجماع ، وبالأدلة المعتبرة من الكتاب والسنة ، منها قوله تعالى :       ( وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ11 )   .

ويمكن أن يناقش هذا الدليل من عدة وجوه :

الوجه الأول : أن لفظ ” الفتنة ” قد تكرر في القرآن الكريم ، ولها معان كثيرة ، يقول الأصفهاني12  : (أصل الفتن إدخال الذهب النار ، لتظهر جودته من رداءته ) ثم ذكر بأنه استعمل في القرآن الكريم بمعنى العذاب ، وسبب دخول النار ، والاختبار ، الامتحان بالخير والشر ، ثم قال : ( والفتنة من الأفعال التي تكون من الله ، ومن العبد ، كالبليّة والمصيبة ، والقتل ، والعذاب … ، ومتى كان من الله يكون على وجه الحكمة ، ومتى كان من الإنسان … يكون بضدّ ذلك ، ولهذا يذم الله تعالى الإنسان بأنواع الفتنة في كل مكان ـ أي إذا كانت منه ـ ، نحو قوله تعالى : ( وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ )13   ، وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ14)  .

الوجه الثاني : أن المراد بالفتنة هي الفتنة في الدين وأن الآية الكريمة التي استشهد بها المانعون هو في ما كان المشركون يقومون به من وسائل الايذاء والتعذيب للمؤمنين المستضعفين لارجاعهم عن دينهم أي فتنتهم في الدين ، أو ما كان يقوم به المنافقون من الوسائل المؤدية إلى الفتنة في الدين .

 فقد ذكر الطبري في تفسير قوله تعالى : ( وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ )15    أي : ( والشرك بالله أشد من القتل ، وقد بينت فيما مضى أن أصل الفتنة الابتلاء والاختبار ، فتأويل الكلام : وابتلاء المؤمن في دينه حتى يرجع عنه فيصير مشركاً بالله من بعد إسلامه أشدّ عليه وأضرّ) ثم نقل روايات كثيرة تؤيد هذا المعنى16  .

 وقد فسّر قوله تعالى : (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ)17  أي : حتى لا يكون شرك بالله18  ، فالفتنة هي ما يؤدي إلى الشرك بالله تعالى خوفاً ، بأن يطغى المشركون على المؤمنين فيفتنونهم عن دينهم كما فعلوا مع عمار بن ياسر ، وكما فعلوا مع المستضعفين بمكة المكرمة .

 وفسر علماء التفسير من السلف الفتنة في قوله تعالى : (يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)19   بالشرك بالله تعالى20  ، وقالوا في قوله تعالى : (فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) 21 أي لا تسلط الظالمين علينا فيزدادوا فتنة فيظلمونا ويفتنونا في ديننا22  .

 وجاء في تفسير القرطبي في تفسير قوله تعالى : (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) 23  : ( قال ابن عباس ، وقتادة ، والربيع ، والسّدي ، وغيرهم : الفتنة هنا : الشرك ، وما تبعه من أذى المؤمنين )24  بل إن القرطبي ذكر أقوالاً في مجال الفتنة يظهر منها بوضوح : أن الفتنة تقع عندما يسكت المسلمون عن ظلم الظالم المفسد الذي ( سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ) 25 حيث قال : ( وهذا لأن النفاق يؤدي إلى تفريق الكلمة ، ووقع القتال ، وفيه هلاك الخلق … وهذا عبارة عن إيقاع الفتنة والتضريب بين الناس26 )  .

 وبناءً على ذلك فليست المظاهرات السلمية بضوابطها من الفتنة المحرمة ، ولا داخلة في الآية التي استشهد بها هؤلاء المانعون ، والله أعلم .

الدليل الرابع : أن المظاهرات لا تخلو من المفاسد والمحظورات الآتية :

1- السب والشتم واستعمال الكلمات البذيئة ، والهمز واللمز ، وهذه ليست من صفات المؤمنين المتقين .

2- حمل شعارات مخالفة للإسلام .

3- إتلاف بعض المال العام ، أو الخاص .

4- الاختلاط بين الرجال والنساء .

5- خروج النساء من البيت الذي خالف القرار في البيت ، وارتفاع صوت النساء .

6- تضييع الصلوات مطلقاً ، أو في جماعة .

7- اندساس بعض المخربين الذي يتعمدون التخريب27  .

8- القتل والسجن ، والتعذيب الذي يترتب على هذه المظاهرات من قبل قوات الأمن والشرطة ، وبالتالي فإنها مؤدية إلى الفساد .

9- أنها غير مضمونة العواقب ، حيث قد تنجح ، وقد تفشل تاركة وراءها عدداً من القتلى والجرحى ، بالإضافة إلى التنكيل والآثار السلبية على الشعب من قبل النظام وأجهزته الأمنية.

ويمكن أن يُجاب عن هذا الدليل بما يأتي :

(أ) إن نقاشنا إنما هو حول المظاهرات السلمية التي تخلو من المحظورات الشرعية ، فالمسألة هي : هل المظاهرات السلمية مشروعة ؟ وبالتالي فقد سقطت هذه الذرائع وبالتالي لم يعد هذا الدليل وراداً في محله.

(ب) ومن جانب آخر فإن هذه المخالفات لو وجدت فهي فردية يتحمل مرتكبوها وحدهم إثمها دون الجماهير الكبيرة التي لا يقصدون وراء المظاهرة ارتكاب المحظورات الشرعية ، وإلاّ فلو أرادوا ذلك فقد خرجت عن موضوعنا المناقش فيه .

(ج) ان بعض ما سمي بالمحظورات ليس بلازم ، فمثلاً أن تضييع الصلوات مطلقاً أو مع الجماعة ليس بلازم ، بل رأينا حرص المتظاهرين بمصر على أدائها بالجماعة ، بل رأينا لأول مرة جمعة يحضرها ملايين في مظهر مهيب يعيد للإسلام والمسلمين هيبتهم ، ويذكرهم بوحدة المشاعر والشعائر .

 وأما مواجهة هذه المظاهرات من قبل النظام الحاكم بإطلاق الرصاص والغازات المسيلة ، أو السامة فهذه المسؤولية تقع على النظام نفسه ، فهذه النتيجة لا يجوز لها أن تمنع المسلمين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والساعين للتغيير إلى الأحسن عن كل ما من شأنه التغيير ، فهذا أمر مقرر في الشريعة بأن هؤلاء يواجهون بكل أساليب الردع والقمع ، ولذلك يذكر القرآن الكريم الصبر مع الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر والتواصي بالحق فقال تعالى : ( وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ )28   وقال تعالى : ( وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ29)   .

 بل إن من يواجه الحاكم الظالم فيأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر فيقتله فهو سيد الشهداء كما ورد بذلك الحديث الذي رواه أبو داود ، والحاكم وغيرهما ، بسندهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله30 )  .

الدليل الخامس : إن المظاهرات الشعبية خروج على الحاكم ، وهذا غير جائز إلاّ في حالة ظهور الكفر الصريح من الحاكم ، حيث دلّ على حرمة الخروج الخروج أدلة كثيرة ، منها :

أ ـ الآيات الآمرة بطاعة أولي الأمر ، مثل قوله تعالى : (يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً31)  .

ب ـ ومنها الأحاديث المانعة من الخروج إلاّ بحق ، منها ما رواه عبادة بن الصامت قال : ( دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه ، فقال : فيما أخذ  علينا : أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا ، وعسرنا ، ويسرنا ، وأَثَرَةً علينا ، وأن لا نُنازع الأمر أهله إلاّ أن  تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان )32  وفي رواية قال الصحابة : ( ألا نقاتهلم ـ أي الأمراء الذين خالفوا ـ قال صلى الله عليه وسلم : ( لا . ما صلوا )33   وفي رواية عن حذيفة بن اليمان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  ( تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع34 )  .

والجواب عن ذلك فيما يأتي :

1- أن هذه الطاعة ليست مطلقة بالاجماع ، وإنما مقيدة بما ليس بمعصية حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلاّ أن يؤمر بمعصية ، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة35 )  .

2- إن حديث حذيفة الأخير ليس من أحاديث الأصول لدى الإمام مسلم ، وإنما من المتابعات ، بل ضعفه الإمام الدارقطني وغيره36  ولو صيح يحمل على الحالات الفردية ، أو الحالات التي يترتب على عدم السمع والطاعة فتنة أكبر دون تحقيق مصلحة معتبرة .

3- أن المظاهرات الشعبية أو الثورات السلمية الحالية لا تعتبر خروجاً على الحاكم ، وإنّما تدخل ضمن محاولات التغيير والاصلاح والنصيحة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ كما سيأتي ـ إلاّ في حالات خروج الحاكم عن الاسلام وكفره ، فهذا أمر محل إجماع ولكنه ليس محل بحثنا ، غير أنه يثور التساؤل حول مدى دخول التشريعات المتعارضة مع أحكام الشريعة في هذا الباب أم لا ؟ وهذا الموضوع يحتاج إلى بحث آخر غير بحثنا هذا .

4- ثم إن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر من المؤمنين الذين يهمهم أمرهم فعلاً  ويسعون لتحقيق الخير لهم ، فهل هؤلاء الظلمة الذين منعوا الدعاة من تبليغ الإسلام وزجوا بهم في السجون وقتلوا منهم من قتل ، وأصدروا قوانين مخالفة تماماً لشرع الله تعالى ، ومنعوا بعض الأحكام الشرعية يدخلون في ( أولي الأمر منكم )؟.

 فهذا زين العابدين بن علي رئيس تونس لمدة (30) سنة منع الحجاب ، بل منع المحجبات من حق العلاج ونحوه ، وفتح أبواب الفساد والخمور على مصراعيها ، وأصدر قوانين متعارضة منها قانون منع تعدد الزوجات وسحن المتعدد ، مع إجازة الفواحش ما دامت بالرضا ، وطرد الإسلاميين ، وعذبهم وسجنهم ، وسرق من أموال  الشعب عشرات المليارات وقام بالجرائم الكبرى كما تكشفه محاكمته ، فهل يدخل هذا في     ( أولي الأمر منكم ) ؟.

 وذلك حسني مبارك الذي يكفي أن الصهاينة سموه ( كنز اسرائيل الاستراتيجي ) كما كشفت ذلك بعض الوثائق ، وأنه كان يبيع الغاز المصري لاسرائيل بأقل من الثلث من قيمته الحقيقية ، وأبقى قانون الطوارئ يعمل ضد الإسلام والمسلمين حوالي (32) سنة ، وزيف إرادة الشعب ، وسرق أموال الشعب بالمليارات ، وجمع حوله بلطجية المال والفساد ، فنهبوا جميعاً مقدرات الشعب ، فهل يدخل هؤلاء في   ( أولي الأمر منكم ) ؟. 

 وهكذا معظم هؤلاء الظلمة من الحكام المستبدين الذي قاموا بانقلابات عسكرية وجاؤوا باسم تحرير فلسطين والقضاء على الفساد ، وتحقيق الرفاهية للشعب ، ولكن في ظل حكمهم احتلت بقية أجزاء فلسطين إضافة إلى سيناء وجولان ناهيك عن القدس وغزة والضفة ، وازداد الفقر والمجاعة والتخلف ، واستشرى الفساد في كل مرافق الدولة ، فهل ما زالوا تجب طاعتهم وطاعة أبنائهم إلى                يوم القيامة ؟ ! ! ! !

 إن واجب العلماء هو الصدع بالحق ، والنصيحة للأئمة والعامة بالحكمة ، ومواجهة الباطل والظلم والعدوان ، فإن وظيفتهم هي الوراثة عن الأنبياء في البيان والتبليغ ، والصبر على الأذى فقال تعالى : فلا يجوز لهم أبداً أن يقفوا مع الباطل ومع الظلمة يبررون لهم فعلتهم ويؤصلون الذل والصبر على الظلم ، ويستشهدون ببعض الأحاديث الخاصة بظروف معينة تاركين أحاديث التغيير ومنع الظلم بكل الوسائل المتاحة ـ كما سبق ـ.

الرأي الثاني : المجيزون : 

وهم جمهور العلماء المعاصرين من معظم العالم الإسلامي ، ومن أشهرهم فضيلة العلامة الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله ، حيث دافع عن هذا الرأي نظرياً ، وشارك في مناصرة المتظاهرين بتونس ، ومصر ، وليبيا ، واليمن وسوريا مناصرة كبيرة .

 وقد استدل على جوازها بأدلة معتبرة في فتواه المنشورة في موقع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بتأريخ 6/4/2011م ، وردّ على مَنْ قال : ( إنها بدعة ) بأن البدعة الممنوعة لا تكون في العادات والمعاملات ، وإنما هي خاصة بالشعائر التعبدية ، وأما العادات والمعاملات فالأصل فيها الاباحة ، حيث أطال في ذلك النفس .

 واستدل كذلك بأن تغيير المنكر والفحشاء والظلم والاستبداد واجب ، وأن الفرد وحده غير قادر على ذلك ، كما أن صوته لا يسمع في الغالب ، بل لا يصل  إلى هؤلاء المستبدين ، ولكن صوت الجماعة من خلال المظاهرات مسموع ، وحينئذ يدخل في القاعدة الفقهية القاضية بأن ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب ، بالاضافة إلى الآيات والأحاديث الدالة على وجوب التعاون على البر والتقوى وإزالة المظالم ، وردّ الحقوق .

(1)
يراجع في ذلك : مواقفهم الرسمية على شبكة الانترنيت ، وفتاواهم المكتوبة
في كتبهم الخاصة بالفتاوى ، أو في المجلات المعتمدة ، منها على سبيل المثال
: مجلة الفرقان ، حيث نشرت فتوى الشيخ ابن بار رحمه الله ، العدد 82 ، أو
المنشورة في الصحف  
(2) يراجع : بيان هيئة كبار العلماء بالسعودية بتأريخ 1/4/1432 هـ
(3)
جاء ذلك في حلقة من برنامج ( الجواب الكافي ) الذي يذاع على قناة المجد ،
ونقلها موقع ( المسلم ) وموقع ( مفكرة الاسلام ) في 6/3/2011م  
(4) مقال الشيخ عبدالمنعم الشحات ، منشور في موقع majles.alukah.net  بتأريخ فبراير 2007
(5) سورة المائدة  / الآية 67
(6) سورة الجر / الآية 94
(7)
رواه البخاري في صحيحه ، مع فتح الباري (7/129) والترمذي في جامعه ، مع
تحفة الأحوذي (7/405) وأبو داود في سننه مع عون المعبود (10/96)
(8)
يراجع :  تفسير ابن كثير (1/256) وعمدة القاري (22/8) وقال قال ابن عبدالبر
: ( وكان صلى الله عليه وسلم يكره التشبه بالكفار) التمهيد (4/3)
(9)
ومعظم كلام المحققين من الفقهاء في التشبه بهم في العبادات ، ونحوها ، أو
قصد التشبه ، فليراجع : مجموع الفتاوى لابن تيمية (22/264 ، 182 ) وإعلام
الموقعين (2/438)
(10) فتاوى اللجنة الدائمة ، الفتوى رقم 3049 ، وكان
السؤال ورد عن أحد الخطباء بجدة حينما سئل : لماذا أنتم تحرمون من البدع ما
حرمته الحكومة ، وتجيزون منها ما تجيزه ، مثل اليوم الوطني ، وأسبوع
المرور ، ونحو ذلك .
(11) سورة البقرة / الآية 191
(12) المفردات في غريب القرآن للأصفهاني ط. دار المعرفة / بيروت ص 371 – 372
(13) سورة البقرة / الآية 191
(14) سورة البروج / الآية 10
(15) سورة البقرة / الآية 191
(16) تفسير الطبري (2/111)
(17) سورة البقرة / الآية 193
(18) تفسير الطبري (2/112 – 114 )
(19) سورة البقرة / الآية 217
(20) تفسير الطبري (2/201)
(21) سورة يونس / الآية  85
(22) تفسير الطبري (11/105)
(23) سورة البقرة / الآية 193

(24) تفسير القرطبي (2/352)
(25) سورة البقرة / الآية 205
(26) تفسير القرطبي (3/16)
(27) مقال الشيخ عبدالمنعم الشحات ، المشار إليه سابقاً .
(28) سورة العصر / الآية 1-3
(29) سورة لقمان / الآية 17
(30) الحديث رواه الطبراني ، وأبو داود ، والحاكم في المستدرك (3/215) وقال : صحيح الاسناد ، ومجمع الزوائد الحديث 5464 ( 9/443)
(31) سورة النساء / الآية 59
(32) رواه البخاري في صحيحه ، رقم الحديث 6647
(33) رواه مسلم ، الحديث رقم 4907
(34) رواه مسلم ، الحديث رقم 4891
(35) متفق عليه ، رواه البخاري ـ مع الفتح ـ (13/109) ومسلم ، الحديث رقم 1839
(36)
حيث ذكر الإمام الدارقطني ي الإلزامات والتتبع أن هذا الحديث ضعيف لأنه
منقطع ، وذكره الألباني في السلسلة الضعيفة برقم 6381 ، والسبب هو أن الذي
روى الحديث عن حذيفة  هو أبو سلام ممطور الحبشي ، وهو لم يثبت أنه سمع من
حذيفة رضي الله عنه ، فروايته عنه مرسلة كما نصّ عليه غير واحد من الأئمة ،
وبالتالي فهو حديث ضعيف لا ينهض حجة ، ولا يرتقي إلى معارضة الأحاديث
الصحيحة في منع الظلم والضرب ، وأخذ مال الآخر وأن من قاتل دون ماله فهو
شهيد ، فقد وصف الحافظ ابن حجر ممطور أبا إسلام بأنه يرسل ، ومن الطبقة
الثالثة ، علماً بأن هناك من صحح الحديث .
والقضية في نظري ليست مجرد
تصحيح ، وإنما المهم هو جمع جميع الأحاديث الصحيحة وترتيبها بشكل يزول
بينها التعارض دون إهمال بعضها دون دليل .