تمهيد
بعد ما ذكرنا التعريف بصكوك الإجارة ، والمصطلحات المشابهة لها ، وخصائصها والفروق بينها وبين السندات وأحكام الإجارة والصيانة والضوابط العامة لصكوك الاستثمار ونحوها حان الآن لندخل في صياغة الصكوك نفسها ، وأنواعها ، وضوابطها على التفصيل الآتي :
أنواع صكوك الإجارة :
يمكن أن تصاغ من الإجارة خمسة أنواع من الصكوك وهي :
أولاً : صكوك ملكية الموجودات المؤجرة : هي وثائق متساوية القيمة يصدرها مالك عين مؤجرة أو موعود باستئجارها او وسيط مالي ينوب عنه ، لغرض بيعها واستيفاء ثمنها من حصيلة الاكتتاب فيها ، وتصبح العين مملوكة لحملة الصكوك .
ثانياً : صكوك ملكية منافع الأعيان : وهي وثائق متساوية القيمة يصدرها مالك منفعة عين موجودة ، او وسيط مالي ينوب عنه ، لغرض تأجير تلك العين او إعادة تأجيرها واستيفاء أجرتها من حصيلة الاكتتاب فيها ، وتصبح منفعة العين مملوكة لحملة الصكوك.
ثالثاً :صكوك ملكية منافع الأعيان الموصوفة في الذمة : وهي وثائق متساوية القيمة يتم إصدارها لغرض تأجير أعيان موصوفة في الذمة واستيفاء الأجرة من حصيلة الاكتتاب فيها ، وتصبح منفعة العين الموصوفة في الذمة مملوكة لحملة الصكوك .
رابعاً : صكوك ملكية الخدمات من مصدر معين : وهي وثائق متساوية القيمة يتم إصدارها لغرض تقديم الخدمة من مصدر معين (كمنفعة التعليم من جامعة مسماة) واستيفاء الأجرة من حصيلة الاكتتاب فيها ، وتصبح تلك الخدمات مملوكة لحملة الصكوك.
خامساً :صكوك ملكية الخدمات من مصدر موصوف في الذمة : وهي وثائق متساوية القيمة يتم إصدارها لغرض تقديم الخدمة من مصدر موصوف (كمنفعة التعليم من جامعة يتم تحديد مواصفاتها دون تسميتها) واستيفاء الأجرة من حصيلة الاكتتاب فيها ، وتصبح تلك الخدمات مملوكة لحملة الصكوك[1].
وهذه الأنواع الخمسة يمكن إرجاعها إلى قسمين أساسين هما :
القسم الأول : صكوك ملكية الموجودات المؤجرة :
وفي هذه الحالة يكون المصدر لتلك الصكوك بائع عين مؤجرة ، او عين موعود باستئجارها أو وسيطاً ووكيلاً عنه ، والمكتتبون فيها هم المشترين لها ،و حصيلة الاكتتاب هي ثمن الشراء ، وعلى ضوء ذلك يملك حملة الصكوك تلك الموجودات على الشيوع بغنمها وغرمها ، وذلك على أساس المشاركة فيما بينهم[2] .
وتفصيل ذلك وتكييفه الفقهي كالآتي :
لهذا القسم صورتان ، او نوعان :
الصورة الأولى : أن شخصاً (طبيعياً او معنوياً) يملك مصنعاً أو عقاراً مؤجراً او موعوداً باستئجارها يريد بيعه لمجموعة من الناس من خلال الصكوك الاستثمارية ، فيقدر ثمنه من خلال أهل الخبرة ، مثلاً بمائة ألف ريال ، فيجعلها صكوكاً متساوية القيمة ، كل صك بألف ريال مثلاً ، فيطرح ذلك للاكتتاب ، فيكتتب فيها الناس ، وحينئذٍ يكون المصدر بائعاً أو وسيطاً ووكيلاً عن المالك ، والمكتتبون مشترين لهذا المصنع ، او العقار ، او نحوه ، وبعد الشراء أصبحوا مشاركين شركة الملك ،و ليست شركة العقد .
ثم إن إدارة المشروع (العقار أوالمصنع) وإدارة أمور حملة الصكوك من حيث الإصدار والتداول والتخارج والأطفاء إن كانت بيد المصدر فقد أصبح وكيلاً عنهم في إدارة المشروع مقابل أجر تحدده نشرة الإصدار ،أو أي اتفاق بين الطرفين.
ولا مانع من أن تعطى الإدارة لجهة أخرى بأجر أو بدون أجر.
خصائص هذا النوع :
1. ان المصدر بائع ، والمكتتبون مشترون ، وان نشرة الإصدار بمثابة الايجاب ،والاكتتاب فيه ودفع مبلغ الصك قبول .
2. ان المكتتبين بعد الاكتتاب وشراء الصك مشاركون في المشروع ، (المصنع او العقار مثلاً) شركاء شركة الملك ، تطبق عليهم أحكام شركة الملك .
3. أن قيمة الإجارات المحصلة هي عوائد المكتتبين .
4. بما انهم يملكون المشروع (المصنع او العقار) بالكامل ، فلهم غنم المشروع ، وعليهم غرمه ، حيث إنهم إما أن يستمروا فيحصلون على عوائده إن وجدت ، ولكن الغالب في الصكوك انها مقيدة بزمن محدد (فلنفترض عشر سنوات) حيث يصفى المشروع بالكامل بالبيع ، ونحوه ، فيحصل حملة الصكوك (الشركاء) على حصصهم من موجودات المشروع حسب نسبة المشاركة، ويمكن أن تكون الإجارة المنتهية بالتمليك .
5. في هذا النوع يجوز تداول هذه الصكوك مباشرة بعد شرائها ، لأنها تمثل موجودات عينية متمثلة في العقار أو المصنع أو نحو ذلك .
الصورة الثانية : أن لا يكون العقار المؤجر ، او المصنع المؤجر موجوداً عند التعاقد ، وإنما يطرح المشروع للاكتتاب عن طريق صكوك الاستثمار .
1. فمثلاً يطرح البنك الإسلامي أو من ينوب عنه من الوسطاء مشروع شراء عمارة للتأجير ، او مصنع للتأجير بقيمة مائة ألف دولار مثلاً موزعة على صكوك متساوية القيمة ، فتصدر نشرة الإصدار موضحة أهداف المشروع بأن الغرض منه هو التأجير ، وتفاصيله ، وتكون هذه النشرة بمثابة إيجاب ، ثم يكون القبول من خلال اقدام المكتتب على تملك الصك ، والتحقيق أن ما يدفعه المكتتب هنا هو قيمة مشاركته ، وليس ثمناً لشراء شيء ، حتى لو سمي شراء الصكوك فهو على سبيل المجاز والعرف السائد وليس على سبيل الحقيقة .
والتكييف الفقهي لهذه المرحلة هي أن المكتتبين مشاركون شركة عقد لغرض محدد ، وهو شراء عقار ، او مصنع ، او نحوه ، وبذلك يختلف تكييف هذه الصورة عن الصورة الأولى التي كان المكتتبون فيها شركاء شركة الملك .
ومن جانب آخر فإن المصدر يمكن أن يكون هنا مضارباً مضاربة مقيدة ، او يكون وكيلاً بأجر أو بدونه حسب ما تحدده نشرة الإصدار ، أما المصدر في الصورة الأولى فلا يمكن إلاّ أن يكون وكيلاً ؛ لأن العملية محددة .
وإذا حددت النشرة أن يكون المصدر هنا مضارباً فلا بد من تحديد نسبة ربحه من خلال المشاركة فيه بنسبة مئوية من الربح مثل 50% من الربح المتحقق ، أما إذا اعتبر وكيلاً فيحدد أجره إن كانت الوكالة بالأجر دون النظر إلى تحقيق ربح.
ومن جانب ثالث فإن ما يدفعه المكتتب هو قيمة ، او نصيب المشاركة وليس ثمناً حقيقياً ـ كما سبق ـ .
2. بعد تجمع قيمة الصكوك يقوم المصدر بشراء العقار ، او المصنع ، وإدارته ، وترتيب كل ما تتطلبه عملية إصدار الصكوك ، والتداول والتخارج والاطفاء إما باعتباره مضارباً ـ كما سبق ـ أو باعتباره وكيلاً بأجرة .
3. بعد شراء العمارة ، او المصنع بكل المبالغ المتجمعة أصبح حملة الصكوك مالكين ملكية شائعة له وبالتالي فلهم غنمهم وغرمهم حسب نسبة مشاركتهم ، علماً بأنهم في هذه الصورة أيضاً يحصلون على عوائد المشروع المتمثلة في الأجرة المتحققة بعد خصم المصاريف .
4. عند انتهاء الفترة يباع المشروع أو يصفى ويحصل كل صاحب صك على حقه بقدر حصته من المشروع (أو ينتهي بالتمليك للمستأجر).
5. إن حامل الصك في هذه الصورة الثانية ليس له الحق في تداول صكه بالبيع والشراء قبل شراء المشروع (العقار أو المصنع) إلاّ بتطبيق قاعدة الصرف (أي ضرورة التقابض في المجلس والتماثل إذا بيع الصك بجنسه وهو الدولار في مثالنا ، والتقابض في المجلس عند اختلاف جنسه إذا بيع بعملة أخرى) .
في حين ان تداول الصك في الصورة الأولى كان يمكن ان يتم مباشرة بعد شراء الصك ، لأنه كان يمثل جزءاً من عقار ، او مصنع ، او نحو ذلك كما سبق .
القسم الثاني : صكوك ملكية المنافع أو الخدمات :
ويتفرع من هذا القسم أربعة أنواع :
النوع الأول : صكوك ملكية منافع الأعيان الموجودة ، ولها صورتان :
الصورة الأولى : صكوك من مالك العين الموجودة ، وتنبثق من هذه الصورة حالتان :
الحالة الأولى : أن يقوم مالك عين موجودة مستأجرة فعلاً (عقار ، أو مصنع ، او نحو ذلك) بنفسه أو عن طريق وسيط مالي بإصدار صكوك (متساوية القيمة) بغرض الاستفادة من أجرتها واستيفاء منافعها لفترة زمنية مثل عشر سنوات وتكون منافع تلك العين أو الأعيان الموجودة المعينة مملوكة فقط لحملة الصكوك للفترة الزمنية المحددة (عشر سنوات مثلاً) .
والتكييف الشرعي لذلك هو أن مالك العين بائع حق المنفعة وموجب من خلال نشرة الإصدار ، وأن المكتتبين هم المشترون للمنفعة من خلال الموافقة ودفع قيمة الصك وهذا مبني على تسمية الإجارة وتعريفها بأنها بيع منفعة……
ولو عرفنا الإجارة بأنها تمليك منفعة …الخ لما اختلف الأمر في حقيقته وجوهـــره .
أما المكتتبون فيما بينهم فهو شركاء شركة الملك في تملك تلك المنافع ، فالعلاقة بين المكتتبين والمصدر هو علاقة قائمة على بيع المنفعة وشرائها ، وإذا كان المصدر نفسه هو المدير لهذه العملية فحينئذٍ زادت علاقة أخرى وهي علاقة الوكالة بأجر (في الغالب) وإذا كانت الإدارة لجهة أو شركة أخرى فتكون العلاقة بينها وبين المكتتبين هي أيضاً علاقة الوكالة .
وتداول هذه الصكوك يبدأ مباشرة بعد الاكتتاب ، لأن الصك حينئذٍ يمثل منفعة ، وليس نقداً محضاً .
الحالة الثانية : أن يقوم مالك عين موجودة لم تستأجر بعد (موعود بتأجيرها) ، بنفسه او عن طريق وسيط مالي بإصدار صكوك (متساوية القيمة) بغرض إجارة منافعها واستيفاء أجرتها لمدة عشر سنوات مثلاً من حصيلة الاكتتاب فيها ، وتصبح حقوق المنفعة مملوكة لحملة الصكوك في تلك الفترة .
والتكييف الشرعي لهذه الحالة هي ان العلاقة بين المكتتبين ومالك العين (غير المؤجرة) علاقة إجارة فالمالك مؤجر فعلاً ، والمكتتبون مستأجرون وقيمة الصكوك هي الأجرة المدفوعة إلى المالك .
وفي هذه المرحلة أي قبل التأجير لا يجوز تداول الصكوك إلاّ مع ضوابط الصرف (كما سبق) .
ثم إن نشرة الإصدار إذا كانت تنص على أن المصدر يقوم بتأجيرها للآخرين ، فهذا توكيل من المكتتبين للمصدر لتأجير العين الموعود بتأجيرها لشخص او جهة أخرى (تأجير من الباطن) وحينئذٍ ظهرت علاقة جديدة بين المصدر والمكتتبين وهي علاقة وكالة بأجر (غالباً) ولا مانع أن تناط مهمة التأجير (أي الثاني) لغير المصدر عن طريق الوكالة بأجر .
وهناك احتمال آخر ، وهو أن يتحول المصدر المالك أو غيره إلى مضاربة مقيدة خاصة بالتأجير ، أي ان المكتتبين اتفقوا معه على أن يقوم بإدارة تلك المنافع ، او حق المنفعة بالتأجير ونحوه لقاء نسبة من العوائد المتحققة على مذهب بعض الفقهاء مثل أحمد في إدخال مثل هذه الحالات في المضاربة .
وفي الحالتين يكون حملة الصكوك مالكين لتلك المنافع على الشيوع بغنهما وغرمها.
الصورة الثانية : صكوك من مالك عين موجودة : في هذه الصورة ليس المصدر مالكاً للعين الموجودة ، وإنما هو مستأجر مالك لمنافع العين أو الأعيان الموجودة (عقار ، طائرة ، مصنع) ، وحينئذٍ يصدر بنفسه أو عن طريق وسيط مالي صكوكاً (متساوية القيمة) بغرض إعادة إجارتها واستيفاء أجرتها من حصيلة الاكتتاب فيها ، وتصبح منفعة العين مملوكة لحمة الصكوك .
والتكييف الفقهي لهذه الصورة أن المصدر المستأجر قد أجر منفعة العين المستأجرة (تأجير من الباطن) للمكتتبين ، وأنهم مستأجرون فعلاً ، وبالتالي يجوز تداول هذه الصكوك بعد الاكتتاب مباشرة ، كما أن حملة الصكوك مشاركون على الشيوع في هذه المنفعة بغنمها وغرمها حسب نسبة المشاركة .
النوع الثاني : صكوك ملكية منافع الأعيان الموصوفة في الذمة :
وهذا يتحقق عندما يصدر البنك (او نحوه) صكوكاً (متساوية القيمة) خاصة بمنافع العين الموصوفة بالذمة ، بأن يذكر في نشرة الإصدار أنه يبيع منفعة عقار موصوف في الذمة يبنى ، او يشترى خلال فترة زمنية محددة ، أي يعرّف به عن طريق المواصفات التي تحدد معالمه وتأريخ البناء ، أو الشراء ، أو بيع منفعة مصنع موصوف في الذمة يكون خاصاً بإنتاج الحديد ، أو الاسمنت او نحو ذلك يبنى ، او يشترى خلال فترة محددة .
وحينئذٍ تطرح هذه الصكوك التي فيها جميع المواصفات التي توضح الأعيان الموصوفة في الذمة ، وتكون نشرة الإصدار فيها بمثابة الايجاب ، واكتتاب الناس فيها بدفع المبالغ المتخصصة لها قبول لها ، فالمصدر بائع للمنفعة الموصوفة في الذمة ، والمكتتبون مشترون لها ، وهم بعد ذلك أصبحوا مشاركين شركة الملك على الشيوع في منافع تلك الأعيان الموصوفة في الذمة بغنمها وغرمها .
والتكييف الفقهي لهذه العملية هو أنها تدخل في الإجارة الموصوفة في الذمة (مثل السلم في البيع) فالمصدر إذن مؤجر ، والمكتتبون مستأجرون ، وبالتالي يطبق عليها أحكام الإجارة الموصوفة في الذمة من حيث إن العين المؤجرة فيها غير محددة ومعينة ، وأن الأجرة لا يجوز تأخيرها عند المالكية ، والشافعية إن عقدت بلفظ السلم ، لأنها سلم المنافع ، وكذا إن عقدت بلفظ الإجارة في الأصح عندهم نظراً إلى القصد والمآل والمعنى[3] .
وأما عند الحنفية والحنابلة فيجوز تأخير الأجرة ، بل الأصل عند الحنفية في الإجارة مطلقاً هو تأخير الأجرة إلى انتهاء العقد ، لأن ثبوت الحقين (الأجرة والمنفعة) للعاقدين يثبتان في وقت واحد[4] .
والذي يظهر رجحانه هو قول الحنفية والحنابلة وقول للشافعية ، إذ قياس الإجارة الموصوفة في الذمة على السلم لا يستقيم ، لأن الإجارة عقد مستقل مختلف عن البيع والسلم في كثير من الأشياء ، ولأن البيع يقتضي ثبوت الملك في العوضين عقيب العقد ، وأما الإجارة فالمنفعة التي هي أحد العوضين لم يثبت فيها الملك إلاّ بعد ان استعمل المستأجر العين المؤجرة ، يقول الكاساني : (إن المساواة في العقود المطلقة مطلوب العاقدين ، ولا مساواة إذا لم يثبت الملك في أحد العوضين ، والملك لم يثبت في أحد العوضين وهو منافع المدة ، لأنها معدومة حقيقة ، فلا تثبت في الأجرة في الحال تحقيقاً للمعاوضة المطلقة ، في أي وقت تثبت) ، ثم قال : (ومعنى المعاوضة والمساواة لا يتحقق إلاّ في ثبوت الملك فيهما في زمان واحد ، فإذا شرط التعجيل….. فيجب اعتبار شرطهما….)[5] .
وبناءً على ذلك فلا تطبق قواعد السلم الذي هو عقد مستقل على الإجارة في المنافع وإن كانت موصوفة ، كما هو الحال في الاستصناع الذي مع انه عقد وارد على عمل وعين موصوفين في الذمة فلا يشترط فيه تعجيل الثمن ، مع أن الاستصناع أقرب من السلم ، بل هو داخل في السلم عند جمهور الفقهاء ، ومع ذلك لم تطبق عليه قواعد