الدوحة ـــ بوابة الشرق
كتاب “إستراتيجية التنمية الشاملة والسياسات الاقتصادية النقدية والمالية في ظل الربيع العربي ، يخص به فضيلة الشيخ د. علي محي الدين القره داغي الشرق في رمضان من هذا العام ليكون عونا لكل شعوب الأمة العربية والإسلامية في مسارها ونهضتها وإنقاذ البشرية مما يعتريها من ظلم وفقر وحرمان، إذ يقدم الكتاب عبر الفصول المختارة التي ننشرها تباعا استراتيجية التنمية الشاملة والسياسات الاقتصادية (النقدية والمالية) في ظل الربيع العربي وهي دراسة فقهية اقتصادية، ومحاولة لبديل إسلامي، مع حلول طارئة.. يقول فضيلته:
اشتراط مواصفات معينة فيمن يكلف بأداء الوظائف العامة أو المهمة وإحساسه بمسؤوليته أمام الله تعالى ثم أمام المجتمع والأمة، نذكر منها ما يأتي:
أ ـ أن الموظف راع، وأنه مسؤول عما اؤتمن عليه أمام الله تعالى، ثم أمام الناس أجمعين، حيث إن القاعدة الاسلامية المنصوص عليها في هذا المقام هي: “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته… “.
ب ـ وجوب الاخلاص في العمل وإحضار النية لله تعالى، واستشعار رقابته للوصول إلى مرحلة الإتقان والإحسان في الأعمال كلها، لأن الذي يعمل بإخلاص كأنه يرى الله تعالى، لا يمكنه إلاّ أن يبذل كل جهده للوصول إلى ما هو الأحسن، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في جواب جبريل عن الاحسان: “أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك”.
ج ـ وجوب بذل الغاية من الجهد والطاقة والنصح لانجاح مهمته الوظيفية، وتحقيق أهدافها وغاياتها فقد روى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما من أمير يلي أمور المسلمين، ثم لا يجهد لهم، وينصح لهم إلاّ لم يدخل الجنة”، وفي رواية: “فلم يحطها بالنصيحة لم يجد رائحة الجنة”.
د ـ وجوب الحرص الشديد على حفظ الأمانة، والتغليظ في تحريم الغش من الإمام، أو المسؤول للرعية حيث يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: “ما من عبد يسترعيه الله رعيّة، يموت يوم القيامة، وهو غاش لرعيته إلاّ حرم الله عليه الجنة”.
هـ ـ التغليظ في تحريم أخذ أي مال من أموال المسلمين بدون وجه حق، أو إعطائه لأحد مهما كان دون مصلحة معتبرة وضمن صلاحياته، وهذا يدخل كله في مصطلح “الغلول” الذي يراد به أخذ مال من أي شخص كان من أموال الفيء والغنيمة، أو من أموال الدولة.
و ـ مع العدل ووجوب الشفقة والرحمة من ولاة الأمور، ووجوب فعل كل ما يحببهم إلى من تحت ولايتهم، فقد عقد أئمة الحديث باباً في أمر ولاة الأمور بالرفق برعاياهم ونصيحتهم والشفقة عليهم، والنهي عن غشهم والتشديد عليهم في إهمال مصالحهم، والغفلة عن حوائجهم، ثم ذكروا آيات كثيرة منها قوله تعالى: “وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ”، وقوله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ…. “.
الجانب الاحترازي والوقائي
أي وجوب اختيار من هو أهل لحمل الأمانة، وبعبارة موجزة “صوتك أمانة، واختيارك أمانة تسأل عنها”، ومن المعلوم بداهة في الاسلام أنه يجب على أهل الحّل والعقد أو ما يسمى بالبرلمان في الوقت الحاضر، أو عند الانتخابات المباشرة لاختيار الرئيس، أو أعضاء البرلمان.. اختيار من هو الأصلح والأنسب، واستبعاد من يتطلعون إلى الإمارة والوظائف العامة ليجعلوها مغنماً لهم، فقد روى مسلم بسنده عن أبي موسى، قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بين عمي، فقال أحد الرجلين: يا رسول الله: أمّرنا على بعض ما ولّاك الله عز وجل، وقال الآخر: منك ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنا والله لا نولّي على هذا العمل أحداً سأله، ولا أحداً حرص عليه”.
ثم إن هذا الحكم يتكرر وجوباً مع كل من بيده حق اختيار أي مسؤول، أن يتقي الله فلا يختار إلاّ من هو الأصلح ديناً ودنيا.
أ) : دور الأمة في الاختيار، والرقابة الشعبية، والمساءلة والتعيير: “إن من الملاحظ أن الأنظمة الديمقراطية قد نجحت في الغرب إلى حدّ كبير في كبح جماح السلطان، والدكتاتورية من خلال آلية مقررة عندهم أصبحت العقد الاجتماعي الذي ينظم العلاقة فيما بينهم، وهي وجود السلطة التشريعية (البرلمان) الذي يعتبر المرجع الأول للسلطة التنفيذية، بل لها الحق في محاسبتها، وسحب الولاية عمن منحته، فهي فعلاً تنفذ مصطلحنا الاسلامي (أهل الحل والعقد) ولكن بطريقتها.
ولم يصل الغرب إلى هذه المرحلة إلاّ بعد ما عانى من الظلام والجهل والاستبداد ومحاكم التفتيش فنهض من خلال أفكار رواده الأوائل، وقام بثورات عديدة سالت فيها الدماء.
والمستحق للتأمل هو أن الاسلام أصّل مبادئ الرقابة الشعبية على السلطة التنفيذية من خلال أمرين، هما:
الأمر الأول: أن الأمة الممثلة في أهل العقد والحلّ، هم الذين يختارون من يكون المسؤول الأول عن رعاية مصالح العباد، وحراسة الدين، وسياسة الدنيا.
الأمر الثاني: حق المساءلة من أين لك هذا؟ وحق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحق النصح من الجميع للإمام وبالعكس، حيث روى مسلم وأبو داود والنسائي بسندهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة الملسمين، وعامتهم”، فليس هناك شخص أكبر من أن يُنْصَحَ، ولا شخص أصغر من أن يَنْصَحَ.
والاسلام أقرّ هذا المبدأ، ولذلك يمكن اتخاذ أية وسيلة مشروعة للوصول إلى نصح الحاكم، وتغيير سلوكه أو منعه، حتى لو أدى ذلك إلى قتل الناصح ظلماً، وحينئذ يكون سيد الشهداء كما ورد في الهديث الصحيح، بل إن قول كلمة الحق عند سلطان جائر تعتبر من أفضل الجهاد، حيث سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الجهاد أفضل؟ قال صلى الله عليه وسلم: “كلمة حق عند سلكان جائر”.
ويرتبط بهذا العنصر الأخير وتهيئة الأجواء المناسبة له توافر الشروط الآتية:
الشرط الأول: ضرورة تطوير الأنظمة الرقابية والادارية والمالية لضمان وضوحها، واستمرار جودتها وسهولة تطبيقها وفعاليتها، وتعزيز جهود الأجهزة الضبطية المتعلقة بمكافحة الفساد، وسرعة البت في قضايا الفساد.
الشرط الثاني: إقرار مبدأ الوضوح والشفافية، وتعزيزه داخل مؤسسات الدولة عن طريق ما يأتي:
1. توعية المسؤولين في الدولة بأهمية البيان والوضوح والشفافية للوقاية من الفساد.
2. تسهيل الاجراءات الادارية والتوعية بها، وإتاحتها للراغبين وعدم اللجوء إلى السرية إلا فيما يتعلق بالمعلومات التي تمس السيادة والأمن الوطني.
3. وضع نظام عام، ولوائح دقيقة للتصرف في المال العام، بل للحقوق والواجبات على مستوى المسؤولين ومن تحت أيديهم من الادارات، فاللوائح الدقيقة المفصلة التي يمكن من خلالها المحاسبة والمساءلة.
4. توضيح إجراءات عقود مشتريات الحكومة، والمؤسسات العامة والشركات المساهمة، وإعطاء الجمهور، والمؤسسات المدنية، ووسائل الإعلام، وحق الاطلاع عليها ونقدها.
5. كفالة حرية تداول المعلومات عن شؤون الفساد بين عامة الجمهور ووسائل الاعلام.
الشرط الثالث: تشكيل هيئة عليا لمحاربة الفساد، وتحقيق النزاهة، يشترك في عضويتها أهل العلم والقضاء، ومؤسسات المجتمع المدني، كما يؤخذ رأي الهيئات المهنية والأكاديمية كالمحامين والمهندسين والمحاسبين حول الأنظمة الرقابية والمالية والإدارية.
الشرط الرابع: تحسين أوضاع العاملين بالدولة، أو في الشركات أو المؤسسات من الناحية المعيشية والأسرية والوظيفية، وتحسين مستوى رواتبهم، بحيث توفر لهم الحاجات الأساسية للوصول إلى تمام الكفاية، وذلك لأن الفقر خطير، وله آثاره المدمرة إن لم يكن صاحبه مؤمناً قوياً صابراً، كما سيأتي ذلك بالتفصيل.
فإذا وفرت الدولة، أو الشركات لمنتسبيها ما ذكرناه فتستطيع حينئذ القيام بالمساءلة والمعاقبة والمراقبة الشديدة.
الشرط الخامس: وجود قدوات صالحات في رأس الهرم الوظيفي أي أن يكون الرئيس، أو الحاكم نزيهاً، وكذلك الوزراء، والمسؤولون الكبار، ورؤساء المجالس والمديرون، فإذا كان هؤلاء قدوة في النزاهة فإن غيرهم يقتدون بهم.