الدوحة- الشرق
كتاب “إستراتيجية التنمية الشاملة والسياسات الاقتصادية النقدية والمالية في ظل الربيع العربي ، يخص به فضيلة الشيخ د. علي محي الدين القره داغي الشرق في رمضان من هذا العام ليكون عونا لكل شعوب الأمة العربية والإسلامية في مسارها ونهضتها وإنقاذ البشرية مما يعتريها من ظلم وفقر وحرمان، إذ يقدم الكتاب عبر الفصول المختارة التي ننشرها تباعا استراتيجية التنمية الشاملة والسياسات الاقتصادية (النقدية والمالية) في ظل الربيع العربي وهي دراسة فقهية اقتصادية، ومحاولة لبديل إسلامي، مع حلول طارئة.. يقول فضيلته:
العقيدة الصحيحة تدفع نحو العمل الجاد، ولا تخدر الإنسان بالتواكل أو العجز أو الكسل وتعطي الإنسان قيمة الحياة، وتمنحها الخلود. وإصلاح النظام السياسي شرط أساسي لتحقيق التنمية الشاملة المستدامة والتربية الأخلاقية الصحيحة تجعل المسلم صالحاً نافعاً في تصرفاته، غير ضار بأحد من إنسان، أو حيوان، أو بيئة.
علاقة الإعداد الإيماني والأخلاقي بالتنمية:
أ. ان العقيدة الصحيحة هي التي تعطي الانسان القيمة للحياة، وتمنحها الخلود، بحيث لا تنتهي بعمر قصير، بل تمتد إلى الآخرة، لذلك فهو يعمل لأجل هذا الخلود، ولتحقيق جنته في الدنيا والآخرة، كما أنه حسب عقيدته خليفة في الأرض، أو خليفة الله في الأرض للتعمير.
ب. إن هذا الايمان يعطيه دفعة قوية لمزيد من العمل الصالح، بحيث إذا كان الكافر يعمل لدنياه القصيرة، ويبذل كل جهده، فماذا عليه أن يعمل لهذه الحياة الخالدة، كما أنه يجعله أمام هدف كبير وهو تعمير الكون على ضوء منهج الله تعالى.
ج. إن إيمانه بالله، وباليوم الآخر وما فيه من نعيم مقيم يمنعه من الظلم والفساد في الأرض، وأكل أموال الناس بالباطل ومن عامة المحرمات والخبائث والمؤذيات، فيصبح إنساناً صالحاً نافعاً غير ضار.
د. ان التربية الأخلاقية الصحيحة تجعل المسلم صالحاً نافعاً في تصرفاته، غير ضار بأحد من إنسان، أو حيوان، أو بيئة.
إذن فعلاقة الإيمان والأخلاق بالتنمية من ناحيتين:
1 — الإيجابية من حيث الاندفاع نحو العمل الصالح النافع الكثير الدائم الباقي.
2 — السلبية من حيث الامتناع عن الإضرار والجرائم والفساد في الأرض وكل ما فيه ضرر.
وإذا فصلنا في مجال العقيدة فيتبين لنا أن العقيدة تقوم بتحقيق ثلاثة أدوار، أو تهيئة النفوس لها، وهي:
الدور الأول: أنها تعطي الأمن الداخلي والنفسي لصاحبها، وتجعله متوكلاً على الله تعالى مع الأخذ بالأسباب، مؤمناً بالقدر خيره وشره، فيكون في حالة الفقر والمصائب صابراً لا يجزع ولا ييأس، ولا يأسى، بل يبقى راضياً برضاء الله تعالى قانعاً بما رزقه، وفي حالة الغنى شاكراً خاضعاً متواضعاً لا يطغى ولا يستغني ولا يتكبر ولا يتجبر، بل ينفق أمواله في سبيل الله لتحقيق التوازن والخير للجميع.
وفي جميع الحالات لا يرتكب الجرائم؛ لا بسبب الفقر والفاقة، ولا بسبب القوة والطغيان، فهو يخاف الله تعالى فيكون كما قال الله تعالى عن ابن آدم الصالح: “لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ”.
الدور الثاني: هو أن العقيدة الصحيحة تدفع نحو العمل الجاد، ولا تخدر الإنسان بالتواكل أو العجز أو الكسل الذي استعاذ منه الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما هي التي تفجر طاقات المؤمن وتدفعه إلى العمل الصالح والتقوى والعفاف والطهارة والنقاء مع توكله على الله، والحفاظ على مصالح الآخرين، ولذلك لا يذكر الإيمان إلاّ والعمل الصالح مقرون به ملازمة لا ينفك عنه.
الدور الثالث: السعي الجاد لتحقيق الإحسان والأحسن في كل شيء، فقال تعالى: “تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ”.
وأما التربية الأخلاقية فهي تحقيق حُسن النية، وحسن التعامل مع الناس، والإيثار، والعفة، والبر والإحسان وغير ذلك من الأخلاق الفاضلة.
الشرط الثاني: العمل الصالح الذي لا ينحصر معناه؛ لا لغة، ولا شرعاً في الشعائر التعبدية، وإنما حقيقته وجوهره هو كل ما عمل طيباً نافعاً للإنسان والحيوان والبيئة..
الشرط الثالث: الإعداد العلمي والتقني للانسان في مجتمعنا الاسلامي، من خلال التزود بالعلم النافع الشامل لكل علوم الحياة الدنيوية والأخروية، ويدخل فيه تحقيق المهارات والقدرات على الابتكار، وصناعة التقنيات الجديدة، واختراعها.
وكل ذلك لن يتحقق إلاّ بالعلم الذي جعله الله تعالى مفتاحاً للاستخلاف والتعمير، ونحن هنا نتحدث بإيجاز عما ذكرته أول سورة تنزل على رسولنا الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الشروط والضوابط، فيما يأتي:
العلم هو الشرط الأساسي، وهو المفتاح للتمكين:
وليس المقصود به محو الأمية، الذي يُعدّ المرتبة الأدنى، بل أن يأتي بعدها محو الجهل بالحقائق، ثم المرتبة الثالثة وهي العلم الشامل النافع المؤثر، ولا سيما في مجال التقنيات والوسائل المؤثرة، أو ما يسمى بالتقنيات والتكنولوجيا المعاصرة.
فالأمة الأمية التي لا تقرأ ولا تكتب، والجاهلة بحقائق الأمور وبواطنها ومآلاتها، والضالة في دينها ودنياها، لا يمكن أن تتحقق لها سعادة الدنيا والآخرة، ولذلك كان من وظائف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ القيام بما يأتي:
1) تزكية نفوسهم وقلوبهم وباطنهم بتخليتها من الحقد والحسد، والبغضاء، والفرقة والخلاف، ثم بتحليتها بجميع الفضائل والقيم السامية من المحبة والصفاء والنقاء والتواضع والإباء، ليكونوا كجسد واحد، وبالتالي ليتألفوا على منهج واحد ولتتكون منهم الأمة.
2) التعليم للكتاب الذي يكون على رأسه القرآن الكريم، لكنه يشمل أيضاً كل كتاب نافع صالح للدين والدنيا.
وهنا تدخل جميع العلوم المكتسبة، لأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من خلال القرآن الكريم أعطى مفتاح العلوم كلها لهذه الأمة.
3) الحكمة هي كل شيء نافع، وبالتالي فهي تشمل العلوم إذا طبقت، وذلك لأن نفع العلوم ليس في ذاتها، وإنما من تطبيقها..
ويدل على أن العلم بالمعنى الذي ذكرناه هو مفتاح التنمية الشاملة، بل مفتاح التمكين والاستخلاف في الأرض ما يأتي:
أولاً: أن الله تعالى خلق آدم ليكون خليفة في الأرض، وجعل له غاية ورسالة، فالغاية هي العبادة لله تعالى، حيث بهذه العبودية تتزكى نفسه وتنصلح حاله فيكون صالحاً ومصلحاً.
وأما رسالته فهي تعمير الكون لصالح البشرية، فقال تعالى: “هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا.. “، ولتحقيق هذه الرسالة فإن الإنسان يحتاج إلى العلم الاستنباطي الذي يكتسبه الانسان من خلال اجتهاداته ومعارفه.
ثانياً: إصلاح منهج العلم والتعليم في أول سورة من القرآن الكريم، على عكس ما يتوقعه أي إنسان في نزول كتاب سماوي، من أن يبدأ بتصحيح العقيدة، أو بتصحيح العبادة.. تنزل أول سورة، وأول آية تقول: “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ”.
ولقد فكرت ملياً وعشت مع هذه الآيات سنين طويلة، إلى أن اهتديت إلى الحكمة والله أعلم بها، وهي بيان أن هذه الأمة أخرجت للناس لترث الأرض “وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ، إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ” وهؤلاء هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالاتفاق، وبالتالي فهم محتاجون لمفتاح التوريث والتمكين، فبين الله تعالى لهم أن مفتاح ذلك هو إصلاح النظام التعليمي.
الشرط الرابع: حماية حقوق الانسان وكرامته وحريته، إذ بدونها لا إبداع، ولا قدرة، بل يصبح الإنسان في ظل الاستبداد والدكتاتورية وكبت الحريات، كالعبد الذي فقد حريته وإرادته وبالتالي بوصلته، فقد عبر القرآن الكريم عن خطورة الاستبداد والكبت تعبيراً رائداً ورائعاً، فقال تعالى: “وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ، أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ”.
وباختصار شديد فإني على يقين بأن إصلاح النظام السياسي شرط أساسي لتحقيق التنمية الشاملة، المستدامة.