الدوحة- الشرق
كتاب “إستراتيجية التنمية الشاملة والسياسات الاقتصادية النقدية والمالية في ظل الربيع العربي ، يخص به فضيلة الشيخ د. علي محي الدين القره داغي الشرق في رمضان من هذا العام ليكون عونا لكل شعوب الأمة العربية والإسلامية في مسارها ونهضتها وإنقاذ البشرية مما يعتريها من ظلم وفقر وحرمان، إذ يقدم الكتاب عبر الفصول المختارة التي ننشرها تباعا استراتيجية التنمية الشاملة والسياسات الاقتصادية (النقدية والمالية) في ظل الربيع العربي وهي دراسة فقهية اقتصادية، ومحاولة لبديل إسلامي، مع حلول طارئة.. يقول فضيلته:
التعريف المختار للفساد الاداري:
نحن ننطلق لتعريف الفساد الاداري عن المعنى الشمولي للفساد في اللغة، والقرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، حيث يشمل كل خلل وضرر مقصود أو بعبارة أخرى: فهو يشمل ما سماه الفقهاء بالتعدي والتقصير، ثم إذا وصفنا الفساد بالإداري يخرج ما عداه من أنواع الفساد.
واما لفظ “الاداري” في اللغة فهو نسبة إلى الادارة التي هي مصدر: أدار يدير إدارة.
والاداري في عرف الفقهاء يشمل كل من له سلطة في رعاية، إو إدارة عمل يشترك معه آخر، وهو مرادف، أو قريب من لفظ “الراعي” الذي فصلته السنة النبوية المشرفة، حيث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع وسمؤول عن رعيته).
فعلى ضوء ذلك فالاداري أو المدير هو كل من جعله الله تعالى تحت يده وإشرافه أعمالاً أو أشخاصاً، وعلى ضوء ذلك فالفساد الاداري يشمل الاخلال بكل ما استؤمن فيه إنساناً أو عملاً أو تصرفاً سواء كان ذلك صغيراًَ أم كبيراً، وبالتالي فكل من ضيّع أمانة أو قصر فيها فهو فساد إداري، ولذلك لا تنحصر دائرة “الفساد الاداري” في الرشوة، بل تشمل كل ما هو تعدّ على هذا الحق، أو تقصير فيه، أو استغلال له استغلالاً غير مشروع.
فعلى ضوء ذلك فالفساد الإداري في نظري هو: التعدي أو التقصير في ولاية شرعية خاصة، أو عامة بما يترتب عليه إخلال بمقصادها.
فهذا التعريف قد أخذته من مصطلحات فقهائنا العظام عندما تحدثوا عن الشركات والمضاربة والوكالة، ورعاية أموال اليتامى، ونظارة الأوقاف، ونحوها، وهو تعريف جامع مختصر مفيد.
فلفظ “التعدي” يشمل كل إخلال مقصود متعمد، وأما لفظ “أو التقصير” فهو يعني الاهمال لأي سبب كان بحيث يترتب عليه ضرر، والولاية الشرعية: هي سلطة شرعية لشخص في إدارة شأن من شؤون، وتنفيذ إرادته فيه على الغير من فرد أو جماعة.
فعلى ضوء ذلك يدخل في “التعدي” كل فعل يترتب عليه فساد وضرر، فيشمل الغش، والخيانة، والتزوير، والاختلاس، واستغلال السلطة، والتعسف في استعمال الحق، وتجاوز الحدود الموضوعة للسلطات الادارية، وللحدود والصلاحيات التي حددها الشرع، أو ولي الأمر، أو من خلال الشروط والقيود المشروعة، ويدخل فيه كذلك استعمال السلطة بما يتنافى مع مقاصد الشريعة، واقعاً أو مآلاً، فكل ما سبق يعتبر تعدياً في نظر الشرع، ويدخل في التعدي كل أنواع الاستغلال للإدارة للحصول على ميراث ومكتسبات أي الاستغلال غير المشروع.
ويدخل في “التقصير” الاهمال الجسيم، أو الاهمال بمقتضيات الولاية الادارية، ومتطلبات السلكة الادارية من الرعاية والعناية التامة.
قولنا “بما يترتب عليه الاخلال بمقاصدها” يراد به: ان الفساد الاداري إنما يتحقق إذا ترتب على التعدي أو التقصير ضرر بالشيء المؤتمن عليه، أو بصاحبه أو بالمجتمع، أو بالبيئة، لأن العبرة في تحقق الفساد الاداري بتحقيق آثاره السلبية.
*معيار الفساد الإداري:
يتكون معيار الفساد الاداري من عنصرين أساسين، وهما:
1 – القصد السيئ سواء وصل هذا القصد السيئ إلى مرحلة التعدي المباشر، أم توقف عند الاهمال الجسيم الذي ترتب عليه الاضرار بمقاصد الوظيفة.
ويتبين لنا من خلال هذا العنصر التمييز بين الفساد الاداري وبين الخطأ الاداري الذي لا يصحبه سوء النية، وحينئذ لا تترتب عليه العقوبة، بل قد تترتب عليه المسؤولية المدنية، في حين أن جزاء الفساد الاداري من شأنه أن تترتب عليه العقوبات والمسؤولية الجنائية.
2 – تحقق الضرر، أو الاخلال بمقاصد الولاية، بحيث يترتب على ذلك ضرر بالشيء المؤتمن عليه أو بصاحبه، أو بالآخرين، أو بالبيئة إما ضرراً واقعاً فعلاً، أو مآلاً.
وبذلك أصبح التعريف جامعاً لكل أنواع الفساد، وليس خاصاً بحالات الرشوة، والمحسوبية والمنسوبية، واستغلال السلطة للاثراء على حساب الغير فحسب، بل يشملها كما يشمل الاهمال في مقتضيات الادارة، حيث يسمى: الاهمال الجسيم، ولذلك فإن مفهوم الفساد الاداري يشمل الأنواع الثلاثة الآتية:
أولاً الرشوة (خطورتها وعلاجها):
الرشوة مثلثة الراء لغة هي ما يعطى لقضاء مصلحة، أو ما يعطى لابطال حق، أو احقاق باطل، وجمعها: رشا بكسر الراء وضمها، فيقال: رشا فلاناً، أي أعطاه رشوة، وراشاه أي جاباه، وارتشى: أي أخذ رشوة، واسترشى، أي طلب الرشوة، ولها معان أخرى، وتسمى الرشوة: البرطيل، قال المرتضى الزبيدي: (واختلفوا في البرطيل بمعنى الرشوة، هل هو عربي أو لا؟ وفي المثل: البراطيل تنصر الأباطيل).
وفي الاصطلاح الفقهي لا يخرج معناها عن المعنى اللغوي، حيث عرفها القاضي ابن العربي بقوله: الرشوة كل مال دفع ليبتاع به من ذي جاه عوناً على ما لا يحل، والمرتشى قابضه، والراشي معطيه، والرائش: الواسطة).
وقد سمى الصحابة، والتابعين الرشوة: سحتاً، وقالوا في تفسير قوله تعالى في وصف اليهود: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) وقوله تعالى: (وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) وقوله تعالى: (لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) فالسحت: الرشوة، وهذا مروى عن ابن مسعود، وعلي، وعمر، وأبي هريرة، وابن عباس، وابن عمر، وأنس، والحسن، وقتادة، ومجاهد، وابراهيم، والضحاك، والسدي، وابن زيد، وغيرهم، حتى جاء عن بعضهم القول بالحصر مثل ابن مسعود الذي قال: (ما لنا نرى السحت إلاّ الرشوة في الحكم…).
والخلاصة أن المقصود بالرشوة في الاصطلاح هي: ما يعطى من له سلطة لقضاء مصلحة للراشي بوجه غير مشروع.
فالمعيار في الرشوة يتحقق بثلاثة عناصر:
العنصر الأول: أخذ شيء مادي أو معنوي، وهذا بالنسبة للمرتشي، أو إعطاؤه بالنسبة للراشي، فالجريمة تتحقق بالنسبة للراشي بمجرد الاعطاء، ولكنها لا تتحقق بالنسبة للمرتشى إلاّ إذا أخذ.
العنصر الثاني: القصد الجنائي، أو النية السيئة، حيث تظهر أهمية هذه النية وتتحقق بكون العمل غير مشروع.
العنصر الثالث: العمل الذي يراد فعله بوجه غير مشروع شرعاً، مثلا إعطاء ما لا يستحقه حسب اللوائح والنصوص في الظاهر أو أن يكون الفعل مشروعاً، ولكن الطريقة غير مشروعة، بحيث لا تسمح مقتضيات الوظيفة بفعل ذلك.
وقد تختلط الرشوة بالهدية، والهبة إذا قصد تحت اسم الهدية، أو الهبة: الوصول إلى تحقيق مصلحة للواهب أو المهدى بوجه غير مشروع، فليست العبرة بظاهر اللفظ وإنما العبرة هنا بالغاية والمقصد والنتيجة، ويدل على ذلك بوضوح قول النبي صلى الله عليه وسلم: (هدايا العمال غلول)، كما سيأتي تفصيله.