الدوحة- الشرق
كتاب “إستراتيجية التنمية الشاملة والسياسات الاقتصادية النقدية والمالية في ظل الربيع العربي” يخص به فضيلة الشيخ د. علي محيي الدين القَرَه داغي “الشرق” في رمضان من هذا العام، ليكون عوناً لكل شعوب الأمة العربية والإسلامية في مسارها ونهضتها وإنقاذ البشرية مما يعتريها من ظلم وفقر وحرمان، إذ يحوي الكتاب عبر الفصول المختارة التي ننشرها تباعا دراسة فقهية اقتصادية، ومحاولة لبديل إسلامي، مع حلول طارئة.. يقول فضيلته:
المناهج أو النظريات الغربية، وكذلك المناهج الاشتراكية فشلت في عالمنا الإسلامي، بل وفي العالم الثالث.. هناك العالم الرابع خاص بالدول الفقيرة التي ليس لديها بترول ولا تقدم ولا مال يغني الشعب،
ويقسم الغرب العالم من الناحية الاقتصادية إلى ثلاثة عوالم:
العالم الأول: وهو العالم الغربي الذي يشمل أوروبا الغربية، وأمريكا الشمالية واستراليا، والذي يوصف بالمتطور الغني الصانع، ويلحق به اليوم اليابان، وربما الصين في المستقبل القريب.
العالم الثاني: وهو يمثل الاتحاد السوفيتي السابق، والدول الأوروبية الاشتراكية، واليوم يمثل روسيا، والصين، وأوروبا الشرقية، والهند.
العالم الثالث: وهو يشمل إفريقيا كلها، ومعظم آسيا، وأمريكا الجنوبية، أي ما عدا العالمين السابقين، ويدخل فيه عالمنا الإسلامي، بل يمثل ثلاثة أرباع العالم كله، وهذا ما سنفصل فيه مع التركيز.. هذا العالم يتصف معظمه بهذه السمات والخصائص الآتية:
1ـ نسبة عالية للأمية، وقلة الخبرة، وجهل بالتقنيات المتطورة.
2 ـ عالم زراعي في معظمه، ومع ذلك لا يوفر الغذاء الكافي، لأنه لا يعتمد على التقنيات الحديثة، كما أن الصناعات المتطورة الذاتية مفقودة.
3 ـ نقص في رأس المال الإنتاجي.
4 ـ تخلف في تنمية الموارد الطبيعية.
5 ـ ضعف في الإنتاج، وقلة الموارد، وانخفاض في معدل دخل الفرد بالقياس إلى الدول المتقدمة.
6 ـ ضعف في البنية التحتية والخدمات التعليمية والصحية، والمرافق الأساسية مثل الطرق والجسور والموانئ والمطارات، ومحطات توليد الكهرباء.
7 ـ عجز في ميزان المدفوعات بالنسبة للدول.
8 ـ تفاوت في الثروة والدخل، ودرجات من المواطنة، وظلم واقع على الكثيرين.
9 ـ كثرة التقلبات الجوية مثل الفيضانات والجفاف.
10 ـ كثرة الحروب والاضطرابات، فمثلاً وقعت بين 1945 — 1976 أكثر من 133 حرباً في 80 قطراً، صرفت عليها 334 مليار دولار وهو يعادل 17 ضعف ما أنفق على التنمية في العالم الثالث.
11 ـ كثرة الانقلابات العسكرية حتى أصبحت من أهم خصائص العالم الثالث، حيث تبين الاحصائيات أنه بين سنة 1962 — 1975 وقع ما لا يقل عن 104 انقلابات في العالم الثالث، حتى إنه في سنة 1975 كان ربع الدول في الأمم المتحدة، تتولاها حكومات جاءت عن طريق الانقلاب.
وهناك من يضيف عالماً رابعاً، وحينئذ يخصص العالم الثالث بالدول التي لديها البترول والمال، ولكن ليس لديها التقدم الصناعي والتكنولوجي، ويجعل العالم الرابع خاصاً بالدول الفقيرة التي ليس لديها بترول ولا تقدم ولا مال يغني الشعب.
التعريف بالتنمية
أ ـ التنمية لغة، مصدر نمَّى الشيءَ، أو الحديثَ تنمية: أنماه، وأصله من نما الشيء نماءً ونمواً: زاد وكثر، يقال: نما الزرع، ونما المال، أي زاد وكثر.
ولم يرد لفظ “التنمية” في القرآن الكريم، ولكن وردت ألفاظ تحقق الهدف المقصود منها، قوله تعالى: (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) أي طلب منكم التعمير، إضافة إلى كلمات الإنبات والإحياء ونحوهما، ولكن ورد في السنة النبوية لفظ “ينمو” في باب الجهاد، كما أنه وردت فيه ألفاظ متقاربة منه.
التنمية الاقتصادية ومؤشراتها في الفكر الوضعي:
وهو أوسع في الاصطلاح الاقتصادي من النمو الاقتصادي الذي يراد به زيادة الدخل ECONOMIC GROWTH، فقد حدث لمفهوم التنمية تطور، حيث كان المقصود بها إلى عام 1929 (أي عام أزمة الكساد المالي) النمو الاقتصادي ECONOMIC GROWTH وهو الزيادة التلقائية في الدخل القومي، ودخول الأفراد حيث كان رأي الاقتصاديين الغربيين قبل 1929 يكمن في أن النمو الاقتصادي يتحقق بالحرية الاقتصادية تلقائياً دون تدخل الدولة. ولكن وعندما حدثت أزمة الكساد العالمي الكبير عام 1929 دلت بوضوح على فشل مبدأ التلقائية والحيادية، ولذلك اقتنع كينز ومعه مجموعة من الاقتصاديين بضرورة تدخل الدولة لإحداث النمو والإسراع به أي التنمية الاقتصادية ECONOMIC DEVELOPMENT فقد عرفها كينز بأنها: زيادة حجم التوظيف وامتصاص مزيد من العمال العاطلين عن العمل، مما يؤدي إلى زيادة إنفاق هؤلاء العمال على الاستهلاك. وهناك نظريات كثيرة في التنمية مثل النظرية الكلاسيكية والنيوكلاسيكية، ونظرية النمو المتوازن (أي بين مختلف صناعات السلع الاستهلاكية، والرأسمالية، وبين الصناعة والزراعة) التي طبقتها روسيا، فنمت بسرعة خلال فترة قصيرة، ونظرية النمو غير المتوازن (أي الاعتماد على ما هو الأهم)، ومنها نظرية المراحل التي تبناها روستو عام 1960 وهي أن التنمية تمر بالمراحل الآتية:
• مرحلة المجتمع التقليدي.
• مرحلة التهيؤ للانطلاق.
• مرحلة الانطلاق، وهي تعتمد على:
1 — ارتفاع الاستثمار.
2 — تطوير بعض القطاعات الرائدة، مثل قطاع الصناعات الرئيسية، وهذا شرط أساس في نظره.
3 — الإطار الثقافي أي وجود قوة ثقافية وسياسية واجتماعية ومؤسسية قادرة على الاستغلال الأمثل لما سبق.
• مرحلة الاتجاه نحو النضج الاقتصادي.
• مرحلة الاستهلاك الوفير.
فقد كان (آدم سميث) يشترط لتحقيق التنمية قدرة الأفراد والمؤسسات على ادخار أكثر، واستثمار أكثر، وهذا يتطلب تراكم رأس المال، وتقسيم العمل، وحرية الفرد، وترك ذلك للقانون الطبيعي، فالتنمية لها مكونات أساسية، يرى البعض أن أهمها هو رأس المال باعتباره المحرك الأول للتنمية، ويرى آخرون: أن تقدم الإنسان علمياً وثقافياً واجتماعياً هو الأساس.
وأما مؤشرات التنمية فقد ثار فيها خلاف أيضاً بين الاقتصاديين، فيرى بعضهم أنها: زيادة الدخل الحقيقي للمجتمع، وزيادة متوسط الدخل للفرد، ويرى فريق ثان: أنها زيادة الكفاءة الإنتاجية عن طريق استعمال التقنيات المتطورة وأساليب الإنتاج المتقدمة.
ويرى فريق ثالث: أنها الزيادة في الناتج القومي من السلع والخدمات.
وفريق رابع يرى أنها زيادة معدل الادخار من 5 % إلى 12 % من الدخل القومي، أو أنها الزيادة في متوسط دخل الفرد مطلقاً.
عدم نجاح النظريات الغربية في العالم الإسلامي
لا شك أن المناهج الرأسمالية حققت في أوروبا الغربية وأمريكا منذ القرون الماضية نجاحاً كبيراً في ميدان التنمية الاقتصادية والتقدم المادي، والتكنولوجي، والصناعي، لما تحمله من حرية الفرد في ممارسة النشاط الاقتصادي، والحرية في الملكية، وحافز الربح ونحوها، والتشجيع على الإبداع والعمل، والسبق في الاختراعات، وساعد على ذلك استعمار أوروبا الرأسمالية لمعظم البلاد في العالم.. ولكن هذه المناهج أو النظريات الغربية ـ وكذلك المناهج الاشتراكية ـ فشلت في عالمنا الاسلامي، بل وفي العالم الثالث أجمع، لعدة أسباب، لعلّ من أهمها أنها اعتمدت على الوضع الحالي للدول المتقدمة التي لديها البنية التحتية الكاملة، والتعليم والحرية، أو أنها أرادت أن تقوم على القياس على المراحل التي مرت بها التنمية في الدول الرأسمالية، وبالتالي فاقتباسها منها لبلد آخر غير مضمون النجاح، نظراً للظروف التاريخية والاجتماعية والثقافية المختلفة عنها، وهكذا معظم النظريات الأخرى التي قد لا تناسب بيئتنا في العالم الاسلامي أو في العالم الثالث، بل إن بعضها تقوم على فروض غير متوافرة في الدول الإسلامية.
ولكن أهم أسباب هذا الفشل يعود — في نظري — إلى الفساد الإداري والمالي وسرقة الأموال العامة، وثراء الرؤساء والمسؤولين ثراء فاحشاً على حساب عامة الشعب، وعدم وجود البنية التحتية الكافية في معظم العالم الإسلامي والعالم الثالث، ناهيك عن أن معظم الديون صرفت في الإنفاق العام والاستهلاك، وتمويل مشروعات السياحة غير الناجحة، والترفيه مع وجود الحاجة الماسة إلى توفير الضروريات والحاجيات، وبالأخص في مجال التصنيع والزراعة والتجارة.
ولذلك ظهرت نظريات جديدة تعتبر أكثر واقعية للعالم الثالث من النظريات القديمة، فمثلاً ذكر مايكل تودارو في كتابه عن التنمية الاقتصادية في عام 1994 عدة معايير جديدة جعلها شرطاً لتحقيق التنمية، منها:
1) التركيز على الضروريات التي تحتاجها الدولة والشعب.
2) التوزيع بعدالة.
3) رفع مستويات المعيشة.
4) نشر ثقافة الحرية في الاختيار والتحررّ من العبودية للآخرين.
بل إن هنري بروتون في كتابه “البحث عن الرفاه” ذكر شروطاً أخرى للتنمية غير الشروط الاقتصادية، مثل حرية الاختيار، والتحرر من الظلم والاضطهاد والاستغلال، والأمن من الاعتقال التعسفي، وحقوق الانسان، بل إنه يرفض الحلول والمعايير التي يقدمها البنك الدولي، مثل تخفيض سعر الصرف، والخصخصة والتركيز على السياحة.