كل
ما قلناه إذا كان هناك عناد من أحد الطرفين، أما إذا تراضيا عند سداد الدين، أو
الوفاء بالثمن، أو المهر، أو نحو ذلك تراضيًا بالمعروف على الزيادة، أو النقصان،
فإن أحدًا من الفقهاء لم يمنع ذلك، بل هذا ما دعا إليه الإِسلام، وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلّم القدوة في ذلك، فقد روى البخاري، ومسلم، وغيرهما بسندهم: أن
رجلاً أتى النبـي صلى الله عليه وسلّم يتقاضاه بعيرًا، فقال: «أعطوه»، فقالـوا: لا
نجـد إلا سـنًّا أفضل مـن سنـه، فقال: «أعطـوه، فإن خياركم أحسنكم قضاءً»[1].

فعلى
هذا حل الأجل وجاء المدين ورأى أن المبلغ الذي يرده الان لا يساوي شيئًا بالنسبة
لقيمة المبلغ الذي أخذه، وقدرته الشرائية، فطيب خاطر الدائن ونفسه بالزيادة في
المقدار، أو بسلعة أخرى فقد فعل الحسن، وطبق السنة، بل إنني أعتقد أنه لا تبرأ
ذمته في حالات التغير الفاحش لقيمة العملة محل العقد إلا بإرضاء صاحب الحق، لأن
مبنى الأموال وانتقالها في الإِسلام على التراضي وطيب النفس بنص القرآن الكريم:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ
تَقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً …}[2].

فكيف
تطيب نفسه عندما يقع الظلم عليه، ويرجع إليه ماله وقد اقتطع منه أجزاء، وأفرغ من
كثير من محتواه؟ صحيح أن مبنى القرض على التطوع والتبرع، ولكنه تطوع وتبرع بالوقت
الذي أمهله دون مقابل محتسبًا أجره عند الله تعالى، أما أن ينقص ماليته فلا، ولذلك
نرى الفقهاء يجيزون رد العين المستقرضة إلى المقرض، ما دامت لم تتعيب بعيب ينقص من
ماليته، أما إذا تعيبت فلا يصح ردها[3]،
فكذلك الأمر هنا.

وقد
ذكر الإِمام ابن السبكي جواز أخذ القيمة في المثلي، إذا رضي الطرفان، فقال: «لو
تراضيا على أخذ قيمة المثلي مع وجوده، وجهان، أصحهما عند الوالد رحمه الله:
الجواز»، ثم ذكر أنه يعلل الجواز بأنه اعتياض عما يثبت في الذمة من المثلي»[4].

فلا
شك في أن مسألة التراضي تحل كثيرًا من مشاكل مجتمع قائم على العدل والإِحسان
والإِيثار، مثل المجتمع الإِسلامي الذي يقوم على معيار دقيق، وهو: «أن تحب لأخيك
ما تحب لنفسك، وتكره لأخيك ما تكره لنفسك»[5].

فهل
يرضى الإِنسان أن يعود إليه دَينه، أو يعطي لها مهرها، وقد أصبح لا قيمة له بعد أن
كان ذا قيمة جيدة. فهل يرضى أحد أن يعود إليه ليراته اللبنانية، أو السورية، أو
التركية الان مع أنها حينما خرجت من يديه كانت لها قيمة وقدرة شرائية ممتازة؟ هذا
السؤال موجه إلى كل مؤمن، وذلك لأن الإِسلام لا يعتني بالجانب الظاهري القانوني
فقط، بل يعتني أيضًا بالجانب السلوكي، ولذلك فالعذاب فيه ليس دنيويًّا فقط بل هو
في الدنيا والاخرة، والأحكام لا تقتصر على الصحة والبطلان الظاهرين، بل هناك الحل
والحرمة. والذي يراقب الله تعالى يخاف من عذاب الله في الاخرة أكثر من العذاب
الدنيوي.

 

LinkedInPin