من خلال النظر في الكتاب والسنة وأقوال الفقهاء يتبين لنا أن التنمية الشاملة في الفكر الاسلامي يمكن تعريفها باعتبارين : باعتبار حقيقتها ، وباعتبار نتيجتها .
فباعتبار حقيقتها هي : الارتقاء بالروح بتحقيق متطلباتها من الايمان والعقيدة الصحيحة ، ومن الحرية ، والاطمئنان ، وبالنفس توفير الأمن النفسي ، والاجتماعي ، وبالبدن بتحصيل متطلباته المادية والاقتصادية المشروعة .
ثم إن الارتقاء والنماء في المجالات الثلاثة يبدأ بالضروريات للوصول إلى الحاجيات ، ثم منها إلى التحسينات ، ثم داخل التحسينات يكون هناك الارتقاء حسب الكم والكيف ، فهي اذن في نماء مستمر ، وزيادة مطردة للفرد والمجتمع دون أن تعرف التوقف ، لأن التوقف هو عين التأخر ، فقال تعالى (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) (سورة المدثر: الآية 37) ولم يقل ( أو يتوقف ) ، لأن التوقف هو عين التأخر في مآلاته .
وباعتبار نتيجتها : فهي تحقيق السعادة والرفاهية الروحية ، والنفسية والبدنية للانسان داخل المجتمع الذي يعيش فيه .
مؤشر التنمية في الاقتصاد الإسلامي :
ففي نظرنا : أن المؤشر للتنمية الشاملة هو تحقيق النتيجة السابقة ، ولكنه من جانبه الاقتصادي نستطيع القول بأن مؤشر نجاح التنمية يكمن بالنسبة للفرد هو : الخروج من حد الكفاف ( الفقر ) إلى حد الكفاية ، للوصول إلى تمام الكفاية ــ كما سيأتي تفصيله
وبالنسبة للمجتمع الوصول إلى الاكتفاء الذاتي زراعياً ، وصناعياً ، وتجارياً ، مع تحقيق القوة الاقتصادية المتكاملة والقوة السياسية والعسكرية ، والتحرر من التبعية بكل أشكالها من خلال التقدم العلمي والتكنولوجي ، والابداع والقدرة على المساهمة الفعالة في إدارة النظام الدولي وتحقيق أمة الشهود بالحق والعدل .
أهمية التنمية وحكمها :
إن التنمية الشاملة بالمعنى الذي ذكرناه هي الغاية من إنزال الكتب وإرسال الرسل ، فالله تعالى أنزل هدايته لتتحقق للناس سعادة الدنيا والآخرة ، ويتحقق لهم الخير كله والرحمة كلها ، وأن الشعائر التعبدية كلها لتحقيق العبودية لله تعالى ولاصلاح الانسان حتى يكون صالحاً لأداء رسالته على الأرض وهي الاستخلاف والتعمير والعمارة والحضارة ـ كما سبق ـ .
لذلك كله فإن التنمية الشاملة ، وحتى التنمية الاقتصادية فريضة شرعية ، وضرورة عصرية ، فلن يكون لأمتنا الاسلامية قوة ولا عزة ولا كرامة إلاّ إذا كانت أمة واحدة قوية غنية غير محتاجة إلى الآخر في قوتها وصناعتها وأسلحتها ، ناهيك عن أن هناك مئات الملايين من البشر يتضورون جوعاً ، ويفتقدون أبسط حياة كريمة ، بل يموت مئات الآلاف بسبب المجاعة ، وسوء الغذاء والدواء ، فنظرة إلى إخواننا في أفريقيا ، وآسيا وإلى أحوالهم وكوارثهم تقطع القلب ، وتدمع العين ، وتجعلنا حائرين متسائلين : لماذا وصلت الأمة إلى هذه المرحلة مع كل امكانياتها ؟ انها مسؤولية الجميع ، وقصور في استخدام الموارد ، وسوء في توزيع الناتج ، وكبت واذلال للانسان … .
ونحن هنا نحاول بشيء من الايجاز ان نذكر شروط التنمية الشاملة .
شروط تحقيق التنمية الشاملة في الفكر الاسلامي :
إن الفكر الاسلامي ينطلق نحو التنمية من خلال قيمة الانسان نفسه حيث يعتبره قطب الرحى ، ومركز التوجيه والتركيز ، والناهض بالتنمية إن أعدّ لها إعداداً جيداً ، والسبب في فشلها ، لذلك فلا يلومنّ عند المصائب إلاّ نفسه ، قال تعالى : (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )[1] .
فالفكر الاسلامي يربط بين الأسباب الظاهرة والنتائج ، ولا يقبل بإسناد المسؤولية إلى خارج الانسان فقط ، وبالتالي فلا يجعل الآخر ( عدواً أو غيره ) شماعة يعلق عليها مصائب الأمة ، بل يضع المسؤولية عن النتائج على المسلمين أنفسهم ، ويربط بين الأسباب الظاهرة والنتائج ، فهذه سنة الله تعالى التي جرت لعباده ، بأن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة ، وأن النصر لا ينزل من السماء إذا كانت النفوس لم تتغير ، ولم تعمل ولم تجاهد ، ولم تصبر ولم تتق ، وأن الله تعالى لا يغير النعمة إلى النقمة إلاّ بسبب تغير النفوس نحو الظلم والشرور والخبائث ، والجرائم والعجز والكسل ، كما أنه تعالى لا يُغَيِّرُ النقمة إلى النعمة إلاّ إذا تغيرت النفوس نحو الايمان والعمل الصالح والطيبات فقال تعالى : (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )[2] وقال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ)[3].
لذلك فأي تنمية ، وأي نصر ، وأي تقدم ، أو حضارة لن تتحقق في نظر الاسلام إلاّ بالانسان وإعداده الاعداد الجيد ، فقال تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)[4] فكلمة ” عبادي ” تشير إلى جميع العقائد الصحيحة والقيم والأعمال الصالحات وكلمة ” الصالحون ” تشير إلى الاعداد الجيد الايماني والعلمي والتقني حتى يكونوا صالحين لحمل الأمانة ، وتحقيق العدل ، وتعمير الأرض والشهادة على الناس بقسط وحق .
فقد قال ابن خلدون كلمات نيرات مضيئات لتحقيق التنمية في نظر الاسلام : ( الملك لا يتم عزه إلاّ بالشريعة ، والقيام لله بطاعته ، والتصرف تحت أمره ونهيه ، ولا قوام للشريعة إلاّ بالملك ، ولا عزّ للملك إلاّ بالرجال ، ولا قوام للرجال إلاّ بالمال ، ولا سبيل للمال إلاّ بالعمارة ، ولا سبيل للعمارة إلاّ بالعدل ، والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة ، ونصبه الربّ ، وجعل له قيماً ، وهو الملك … فهذه ثمان كلمات حكيمة … ارتبط بعضها ببعض ، وارتدت أعجازها إلى صدورها ، واتصلت في دائرة لا يتعين طرقاتها )[5] .
فهذه الحلقات الثماني هي التي تستطيع ان تملأ الفراغ ، وتحقق التنمية الشاملة بإذن الله تعالى .
ولذلك يعتبر من أهم شروط التنمية ومقوماتها ما يأتي :
الشرط الأول : الاعداد الايماني والتربوي والأخلاقي لجعل الانسان الذي يقوم بالتنمية ، والانسان الذي يجني ثماره صالحيْن قادريْن على الانتاج والترشيد الاستهلاكي .
فعلى الدولة إن أرادت التنمية الشاملة أن يكون ضمن برامجها الأساسية التربوية الاعداد الشامل للجانب العقدي ، والجانب الأخلاقي والسلوكي للوصول إلى المؤمن القوي .
علاقة الاعداد الايماني والأخلاقي بالتنمية :
أ. ان العقيدة الصحيحة هي التي تعطي للانسان القيمة للحياة ، وتمنحها الخلود ، بحيث لا تنتهي بعمر قصر له ، بل تمتد إلى الآخرة ، لذلك فهو يعمل لأجل هذا الخلود ، ولتحقيق جنته في الدنيا والآخرة ، كما أنه حسب عقيدته خليفة في الأرض ، أو خليفة الله في الأرض للتعمير .
فهذا الايمان يعطيه دفعة قوية لمزيد من العمل الصالح ، بحيث إذا كان الكافر يعمل لدنياه القصيرة ، ويبذل كل جهده ، فماذا عليه أن يعمل لهذه الحياة الخالدة ، كما أنه يجعله أمام هدف كبير وهو تعمير الكون على ضوء منهج الله تعالى .
ثم إن إيمانه بالله ، وباليوم الآخر وما فيه من نعيم ومقيم يمنعه من الظلم وأكل أموال الناس بالباطل ومن عامة المحرمات والخبائث والمؤذيات ، فيصبح إنساناً صالحاً نافعاً غير ضار .
ب. ان التربية الأخلاقية الصحيحة تجعل المسلم صالحاً نافعاً في تصرفاته ، غير ضار بأحد من إنسان ، أو حيوان ، أو بيئة .
إذن فعلاقة الايمان والأخلاق بالتنمية من ناحيتين :
1- الايجابية من حيث الاندفاع نحو العمل الصالح النافع الكثير الدائم الباقي .
2- السلبية من حيث الامتناع عن الاضرار والجرائم وكل ما فيه ضرر .
وإذا فصلنا في مجال العقيدة فيتبين لنا أن العقيدة تقوم بتحقيق ثلاثة أدوار ، أو تهيئة النفوس لها ، وهي :
الدور الأول : انها تعطي الأمن الداخلي والنفسي لصاحبها ، وتجعله متوكلا ً على الله تعالى مع الأخذ بالأسباب مؤمناً بالقدر خيره وشره ، فيكون في حالة الفقر والمصائب صابراً لا يجزع ولا ييأس ، ولا يأسى ، بل راضياً برضاء الله تعالى قانعاً بما رزقه ، وفي حالة الغنى شاكراً خاضعاً متواضعاً لا يطغى ولا يستغني ولا يتكبر ولا يتجبر ، بل ينفق أمواله في سبيل الله لتحقيق التوازن والخير للجميع .
وفي جميع الحالات لا يرتكب الجرائم لا بسبب الفقر والفاقة ولا بسبب القوة والطغيان فهو يخاف الله تعالى فيكون كما قال الله تعالى عن ابن آدم الصالح : (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)[6] .
فالأمن النفسي يساعد على الانتاج بشكل طيب ، وأما عدم ارتكاب الجرائم فآثاره واضحة على الحفظا على الأموال وتنميتها ، وتشجيع الاتسثمار بالنسبة للغير ، حيث إن من أهم مقوماته عدم الخوف من الاعتداء على الأموال والأنفس إضافة إلى إيمان المؤمن بالبركات المعنوية التي تنزل من السماء عند الايمان والتقوى والاستغفار .
الدور الثاني : هو أن العقيدة الصحيحة تدفع نحو العمل الجاد ، ولا تخدر الانسان بالتواكل أو العجز أو الكسل الذي استعاذ منه الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما هي التي تفجر طاقات المؤمن وتدفعه إلى العمل الصالح والتقوى والعفاف والطهارة والنقاء مع توكله على الله ، والحفاظ على مصالح الآخرين ولذلك لا يذكر الايمان إلاّ والعمل الصالح مقرون به ملازمة لا ينفك عنه ، فالآيات القرآنية علقت البركات والخيرات بالايمان والتقوى التي هي قمة العمل مع الاخلاص ، وربطت بين الايمان ، والعمل الصالح ، وبين الحياة الطيبة في الدنيا ، والأجر الأحسن في الآخرة ، فقال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ )[7] وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ)[8] وقال تعالى : (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا )[9] وقال تعالى : (أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ )[10] فهذه الآيات واضحة في ربط المسببات والأسباب .
الدور الثالث : السعي الجاد لتحقيق الاحسان والأحسن في كل شيء فقال تعالى : (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ )[11] .
وأما التربية الأخلاقية فهي تحقيق حسن النية ، وحسن التعامل مع الناس ، والايثار ، والعفة ، والبر والاحسان وغير ذلك من الأخلاق الفاضلة .
وأما التربية الدينية حتى في مجال الشعائر فلها دورها الكبير على السلوك الدنيوي أيضاً ما دامت تؤدى في صورتها الصحيحة ، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر بنص القرآن الكريم : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ )[12] ، والزكاة عبادة مالية لتطهير النفوس والأموال ولأداء حقوق المستحقين فقال تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)[13] والصوم عبادة نفسية روحانية لتهذيب النفوس فقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[14] ، وأما الحج فهو عبادة شاملة فقال تعالى : (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ )[15] .
فهذه العقائد والأخلاق والعبادات الإسلامية تهيئ الإنسان فعلاً ليكون شخصاً صالحاً لتعمير الكون وحمل الأمانة وتحقيق العدل … .
الشرط الثاني : العمل الصالح الذي لا ينحصر معناه لا لغة ، ولا شرعاً في الشعائر التعبدية ، وإنما حقيقته وجوهره هو كل ما عمل طيب نافع للانسان والحيوان والبيئة ..
فالعمل الصالح تقع في قمته أركان الاسلام الخمسة ، ثم بقية الواجبات ، ثم المندوبات ، ثم المباحات ، مع مراعاة فقه الأولويات والموازنات .
الشرط الثالث : الاعداد العلمي والتقني للانسان في مجتمعنا الاسلامي من خلال التزود بالعلم النافع الشاكل لكل علوم الحياة الدنيوية والاخروية ، ويدخل فيه تحقيق المهارات والقدرات على الابتكار ، وصناعة التقنيات الجديدة ، واختراعها ، وقد أثبتت التجارب التي مرت بأمتنا ، وبالأمم الأخرى أن النهضة الشاملة ، أو التنمية الشاكلة لن تتحقق إلاّ بتغيير الأنفس من أنفس خاملة مضطربة إلى أنفس جادة مطمئنة ، وتغيير العقول من الفوضى والتقليد والجمود إلى التنظيم والتجديد والابداع ، وتشغيلها على أساس ديناميكية تحركها للبحث الدائم عن الأحسن ـ أحسن السيناريوهات في كل المجالات ـ وتغيير مناهج التعليم والتربية من التقليد والتبعية والاجترار والتكرار إلى مناهج بنّاءة قادرة على نصاعة الرجال والعلماء .
وكل ذلك لن يتحقق إلاّ بالعلم الذي جعله الله تعالى مفتاحاً للاستخلاف والتعمير ، ونحن هنا نتحدث بايجاز عما ذكرته أول سورة تنزل على رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم من الشروط والضوابط فيما يأتي :
العلم هو الشرط الأساسي ، وهو المفتاح للتمكين :
و ليس المقصود به محو الأمية ، بل إنه المرتبة الأدنى ، ثم يأتي بعدها محو الجهل بالحقائق ، ثم المرتبة الثالثة وهو العلم الشامل النافع المؤثر ولا سيما في مجال التقنيات والوسائل المؤثرة ، أو ما يسمى بالتقنيات والتكنولوجيا المعاصرة .
وقد أشار القرآن الكريم إلى دور الرسول صلى الله عليه وسلم أمام أمته فقال تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ)[16] .
فالأمة الأمية التي لا تقرأ ولا تكتب ، والجاهلة بحقائق الأمور وبواطنها ومآلاتها ، والضالة في دينها ودنياها ، لا يمكن أن تتحقق لها سعادة الدنيا والآخرة ولذلك كان من وظائف الرسول صلى الله عليه وسلم القيام بما يأتي :
1) تزكية نفسوهم وقلوبهم وباطنهم بتخليتها من الحقد والحسد ، والبغضاء ، والفرقة والخلاف ، ثم بتحليتها بجميع الفضائل والقيم السامية من المحبة والصفاء والنقاء والتواضع والاباء ، ليكونوا كجسد واحد ، وبالتالي ليتألفوا على منهج واحد ولتتكون منهم الأمة ، لأن الأمة لن تتحقق بعصبيات متنافرة ، وشعوب متفرقة ، وقلوب متباغضة ، ونفوس متشاحنة ، وأرواح خبيثة .
وبينت الآية الكريمة أن الوسيلة لتحقيق هذا الهدف هو التربية الايمانية القائمة على تلاوة القرآن الكريم والعمل به ويدخل في القرآن الكريم بيانه المتمثل بالسنة المطهرة ، والسيرة العطرة لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ، التي تظهر لنا أخلاقه السامية حتى شهد الله تعالى بذلك فقال : (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ )[17] .
2) التعليم للكتاب الذي يكون على رأسه القرآن الكريم ، لكنه يشمل أيضاً كل كتاب نافع صالح للدين والدنيا .
وهنا يدخل جميع العلوم المكتسبة ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم من خلال القرآن الكريم أعطى مفتاح العلوم كلها لهذه الأمة .
3) الحكمة هي كل شيء نافع ، وبالتالي فهي تشمل العلوم إذا طبقت وذلك لأن نفع العلوم ليس في ذاتها وإنما من تطبيقها ، فالعلم النافع هو الذي انتفع به صاحبه ، ثم ينتفع به غيره ، فهو يتعلم فيستفيد ، ثم يعلم فيفيد ، وإلاّ فالعلم الذي لا يطبق صاحبه يكون وبالاً عليه فقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ )[18] إذن تدخل في الحكمة الاستفادة من علوم العصر والتقنيات ، والتكنولوجيا المعاصرة النافعة .
كما أن الحكمة تشمل التجارب النافعة من أي شخص كان ، كما أنها تشمل المنهج النافع إذ الحكمة وضع الشيء المناسب في محله المناسب في وقته المناسب ، وبأسلوب مناسب ، وهذا هو المنهج الصحيح للوصول إلى الغرض المنشود .
إذن فهذه الآية الكريمة تضمنت معظم شرائط التنمية المتمثلة في محو الأمية ، ورفع الجهل ، وتحقيق العلم النافع ، والقيم الأخلاقية السامية ، والاستفادة من التجارب النافعة ، والمنهج الصحيح من خلال خطة محكمة .
ويدل على أن العلم بالمعنى الذي ذكرناه هو مفتاح التنمية الشاملة ، بل مفتاح التمكين والاستخلاف في الأرض ما يأتي :
أولاً ـ أن الله تعالى خلق آدم ليكون خليفة في الأرض وجعل له غاية ورسالة ، فالغاية هي العبادة لله تعالى حيث بهذه العبودية تتزكى نفسه وتنصلح حاله فيكون صالحاً ومصلحاً .
وأما رسالته فهي تعمير الكون لصالح البشرية فقال تعالى : (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا….)[19] ، ولتحقيق هذه الرسالة فإن الإنسان يحتاج إلى العلم الاستنباطي الذي يكتسبه الانسان من خلال اجتهاداته ومعارفه .