تقوم الوطن هذا العام بنشر عدة دراسات لفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور علي محيي الدين القره داغي الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ولعل من أهمها الوثيقة التي وضعها فضيلته بشأن قضايا الجهاد، والعنف والخلافة، والولاء والبراء وهي من أهم القضايا المعاصرة التي تشغل وتشعل الحوار سواء بين المسلمين أنفسهم أو بين المسلمين والآخر.. وهي مفتتح دراسة موسعة وضع فيها تأصيلا لأهم قضايا العالم الإسلامي في القضايا المذكورة.
وفي الحلقة الأخيرة يختتم فيها فضيلته الدراسة الهامة.. ويقول:
الموضوع الخامس: واجبنا نحو المتشددين
عند النظر في أفكار هؤلاء المتشددين نصل إلى أنها جاءت بسبب عدم العمق في فقه الأدلة الشرعية، ومقاصدها العامة، وبسبب الديكتاتورية والاستبداد، والمظالم التي لحقتهم في السجون والمعتقلات، فإن مما لا يخفى أن الفكر التكفيري المتشدد قد نشأ في سجون عبدالناصر بمصر في فترتي الخمسينيات والستينيات؛ حيث إن بعض الشباب المسجونين عانوا من غلظ هؤلاء المسؤولين وشدة تعذيبهم لهم، واستهزائهم بالمقدسات الإسلامية فتوصلوا إلى أن هؤلاء كفرة، ثم ازداد التشدد داخل السجون حتى تصدى لهم الأستاذ حسن الهضيبي مرشد الإخوان المسجون أيضًا معهم فكتب كتابًا للرد على هؤلاء سماه: دعاة لا قضاة، أي أننا نحن دعاة، وبالتالي فإن مهمتنا هي الدعوة بالحكمة واللين والإشفاق على الناس، وأننا مثل الأطباء في علاج مرضاهم، وأما القضاة فلهم مهمة الحكم بعد البينات.
كما أن هناك أسبابًا أخرى وهي المظالم الاجتماعية، والفقر والبطالة، في الوقت الذي يُرى الفاسدون والمفسدون ينعمون بأموال الدولة، وأقوات الشعب.
لذلك إذا أردنا أن نحلّ هذه المشكلة من جذورها فعلينا أن ننظر إلى الحلول الفكرية أولاً، والحلول السياسية والاقتصادية ثانيًا.
فحينما ظهر الخوارج– بسبب التحكيم– في عصر سيدنا علي رضي الله عنه أرسل إليهم الصحابي الجليل حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس فناقشهم فدار بينه وبينهم حوار طويل ساق فيه الحجة بشكل يبهر الألباب؛ فقد سألهم ابن عباس: «ماذا تنقمون من علي؟»
قالوا: «نَنْقِم منه ثلاثًا: أولاهُن أنه حكَّم الرجال في دين الله، والله يقول: «إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ» (الأنعام: 57). والثانية: أنه قاتل ثم لم يأخذ من مقاتليه سَبْيًا ولا غنائم، فلئن كانوا كفارًا فقد حلّت له أموالهم، وإن كانوا مؤمنين فقد حُرِّمَت عليه دماؤهم، والثالثة: أنه رضي عند التحكيم أن يخلع عن نفسه صفة أمير المؤمنين استجابةً لأعدائه، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين».
وأخذ ابن عباس يُفَنّد أهواءهم، فقال: «أمّا قولكم: إنه حَكّم الرجال في دين الله، فأي بأس؟! إن الله يقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُم» (المائدة: 95). فَنَبِّئوني بالله، أتحكيم الرجال في حَقْن دماء المسلمين أحق وأوْلى، أم تحكيمهم في أرنب ثمنها درهم؟!
وأما قولكم: إنه قاتل فلم يسْبِ ولم يغنم، فهل كنتم تريدون أن يأخذ عائشة زوج الرسول وأم المؤمنين سَبْيًا، ويأخذ أسلابها غنائم؟!
وأما قولكم: إنه رضي أن يخلع عن نفسه صفة أمير المؤمنين حتى يتم التحكيم، فاسمعوا ما فعله رسول الله يوم الحديبية؛ إذ راح يُملي الكتاب الذي يقوم بينه وبين قريش، فقال للكاتب: اكتب: «هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله»، فقال مبعوث قريش: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صَدَدْناك عن البيت ولا قاتلناك، فاكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله، فقال لهم الرسول: «والله إني لرسول الله وإن كَذَّبْتُم»، ثم قال لكاتب الصحيفة: «اكتب ما يشاءون، اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله».
واستمر الحوار بين ابن عباس والخوارج على هذا النسق الباهر، وما كاد ينتهي النقاش حتى نهض منهم ثلاثة، أو أربعة آلاف معلنين اقتناعهم، وخروجهم من خُصومة الإمام علي.
إذن فعلى العلماء أن يترفقوا بهؤلاء الشباب ولا يحكموا عليهم أولاً بالخروج، بل عليهم أن يجلسوا معهم ويناقشوهم، وحتى في عصرنا الحاضر، حينما ظهرت بعض الجماعات المتشددة داخل سجون التعذيب تصدّى لهم الشيخ حسن الهضيبي بكتابه «دعاة لا قضاة» فرجع الكثيرون وكذلك حينما أدخل الكثيرون من الجهاديين في السجون في عصر السادات ومبارك ذهب إليهم بعض العلماء الثقات أمثال الشيخ محمد الغزالي والشيخ الشعراوي، فناقشوهم فتراجع الكثيرون، ثم هم راجعوا أنفسهم فكتبوا مراجعاتهم بكل شفافية، وبينوا أنه كان هناك لبس وغموض، والحمد لله عادوا إلى الساحة الفكرية، والسياسية ولهم دورهم الإيجابي بعد الثورة الشعبية.
أما الحل السياسي فيكمن في توفير الحرية الكاملة والشورى «أي الديمقراطية في أدواتها العملية» والتعامل معهم بالرفق واللين والعدل والمساواة فقال تعالى لنبيه: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ? وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ? فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ? فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ? إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» (سورة آل عمران الآية 159)، فالتجارب تدل على أن الأفكار المتشددة تنبت وتقوى في ظل الاستبداد والدكتاتورية والظلم.
أما الحل الاقتصادي فيكمن في توفير فرص العمل المناسب، والقضاء أو التخفيف على الفقر والبطالة والتضخم.
أما واجب الدول غير الإسلامية في التعامل مع الأقلية المسلمة فهو الاعتراف بدينهم الإسلامي ومحاولة تشكيل مجلس إسلامي من العلماء الثقات ليكون مرجعًا لهم، مع التشجيع على منح المجال للتأهيل والتعليم الإسلامي من خلال المدارس والجامعات، ومراكز البحث كما أن عليها أن تسمع لثقات العلماء حتى تستوعب الإسلام الصحيح القائم على المنهج الوسط وأن تمنع الهجمات على المقدسات الإسلامية حماية للمجتمع من الإثارة والمشاكل.
والخلاصة فعلى الدولة أن تكون لديها خطة عملية للتعامل مع الأقلية بالتعاون مع العلماء والجمعيات الإسلامية.
الموضوع السادس: الخلافة
والمقصود بالخلافة هي وجود من يقوم بسياسة البلاد والعباد في ضوء أحكام الإسلام ومبادئه، وهذا أمر مطلوب في البلاد الإسلامية فقط ولكن بما لا تترتب عليه مفسدة أكبر، وإنما من خلال التربية، وتهيئة الشعوب لها، أما البلاد غير الإسلامية فإن إقامة دولة إسلامية غير واردة، فهي بمنأى عن تحقيق هذا المطلب والأقلية غير مطالبة بذلك، بل إن بعض الأحكام كالحدود لا تطبق أصلاً في البلاد غير الإسلامية.
ومن هنا فواجب الأقلية الإسلامية يكمن في الحفاظ على عقيدتهم وأخلاقهم وقيمهم وتعبدهم، والتعاون مع الحكومة والشعب لتحقيق التعايش السلمي على أساس المساواة والعدل، والاندماج الإيجابي البعيد عن الانصهار والذوبان والعناية بالأجيال اللاحقة من خلال التربية والدعوة والمدارس الجامعة بين الإسلام، والمواد المطلوبة من قبل الدولة.
أما إذا كانت الأقلية تتمتع بحكم ذاتي، أو فيدرالية، أو جمهورية، فهذا أمر طيب يوجب على أهلها تطبيق ما يقتضيه دينهم بقدر الاستطاعة، وكذلك الحفاظ على المواثيق التي تخص دولة الأم، كما قال الله تعالى «وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى? قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ? وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (سورة الأنفال الآية 72).
وحتى في عالمنا الإسلامي فإن أحكام الخلافة أو السلطان تقوم على السياسة الشرعية القائمة على المبادئ الإسلامية، وتحقيق المصالح ودرء المفاسد، فالمهم هو تحقيق الشورى «الديمقراطية» والعدل والمساواة، وتعمير الكون، وتنمية المجتمع تنمية شاملة، ولذلك اختلف اختيار الخلفاء الأربعة بعضهم عن بعض، فكل واحد اختير بطريقة مناسبة– كما لا يخفى-، يقول إمام الحرمين: «معظم مسائل الإمامة عريّةٌ عن مسلك القطع، خليّةٌ عن مدارك اليقين» (غياث الأمم ص 59).
والمهم هو وجود الشعوب المسلمة الملتزمة بالعقيدة والقيم والمبادئ وتهيئة الظروف والبيئة المناسبة، بحيث يقوم كل شخص بتطبيق شرع الله على نفسه، ويقيم دولة الإسلام في قلبه وحينئذ تقام دولة الإسلام العادلة في الخارج.
وقد كشفت الثورات العربية الناجحة بتونس، ومصر، واليمن ثم بالمغرب أن جماعات العنف التي قتلت الكثيرين بحجة إقامة حكم الله قد فشلت في تحقيق أهدافها، بينما الجماهير التي تأثرت بالدعوة الربانية استطاعت أن تغير وتفعل الكثير لذلك ندعو أبناءنا الذين يريدون فرض الحكم الإسلامي بالقوة والعنف أن يستفيدوا من هذا الدرس وأن يعودوا إلى التربية وبناء المجتمع، وأن منهج الإكراه والعنف منهج غير صحيح ومخالف للنصوص الشرعية القائمة على منع الإكراه في الدين «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ? قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» (سورة البقرة الآية 256) وعلى منح الحرية «فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» (سورة الكهف الآية 29)، فندعوهم إلى أحضان أمتهم للعمل الجاد المثمر البناء «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ? وَسَتُرَدُّونَ إِلَى? عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (سورة التوبة الآية 105).
الموضوع السابع: الولاء والبراء
فقد تكرر ما يشتق من الولاء في القرآن الكريم كثيرًا، جاء بمعنى الإعراض مثل قوله تعالى: «فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ» (سورة التغابن الآية 12)، وبمعنى الصداقة والنصرة، والاعتقاد، وتولي الأمر، والتوالي، ولذلك لا يجوز أن يكون الحكم واحدًا، فالمطلوب من المسلم أن يكون ولاؤه بمعنى الإيمان، والمحبة والنصرة لله تعالى، وبمعنى النصرة والحب للمسلمين، وأن الولاء المحرم ثلاثة أنواع:
1- ولاء لغير الله تعالى أي عدم الإيمان بالله تعالى، وعدم حبه، وكل ما يدخل في الكفر، فالولاء بهذا المعنى كفر بلا خلاف.
2- ولاء تفضيل لغير المسلمين على المسلمين بأن يعتقدوا أن دين غيرهم أفضل أو أنهم بذواتهم أفضل، فهذا أمر عقدي خطير يُخرج الإنسان من الملة.
وعلى هذين النوعين تحمل الآيات ويفهم منها نفي الإيمان مثل قوله تعالى «وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ» (سورة المائدة الآية 51).
3- ولاء نصرة لغير المسلمين على المسلمين بدافع المصالح الشخصية أو مولاتهم في الفساد والمعاصي– كما قال الرازي حيث فسّربها في بداية سورة الممتحنة- أي في غير ما يدخل في النوع الثاني فهذا حرام ولكنه ليس كفرًا، وتدل على ذلك قصة حاطب بن بلتعبة الذي أرسل رسالة إلى أهل مكة يخبرهم فيها بنية الرسول فتح مكة، مخالفًا بذلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم القاطع، ومع ذلك لم يحكم عليه بالكفر، وأن سابقته شفعت له في عدم عقوبته، ولذلك اتفق الفقهاء على أن الجاسوس لغير المسلمين ليس بكافر، ولكنه مرتكب الكبيرة.
ويدخل في هذا النوع ولاء المحبة لمن يحارب الله ورسوله والمؤمنين فقال تعالى: «لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ? أُولَ?ئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ? وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ? رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ? أُولَ?ئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ? أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (سورة المجادلة الآية 22)، حيث خصص المودة المحرمة بأن تكون للمحاربين الذين يحادون الله ورسوله، ويشاقونهما، وكذلك قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ? أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ? تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ ? وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ» (سورة الممتحنة الآية 1)، حيث خصص ذلك بالعدو الذي أخرجهم.
ولذلك لا تدخل المحبة العادية لغير المحاربين من غير المسلمين، ويدل على ذلك جواز نكاح الكتابية من اليهود والنصارى، بحيث تصبح زوجة وقال تعالى: «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ? إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» (سورة الروم الآية 21) وكذلك ولاية صلة الرحم؛ حيث هي مطلوبة، ومحبة ذوي القربى منهم، وولاية العقود والمعاملات ونحوهما، وولاية الوزارة ونحوها في ظل دولة غير مسلمة فهي جائزة، حيث طلب نبي الله يوسف ذلك فقال: «قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى? خَزَائِنِ الْأَرْضِ ? إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» (سورة يوسف الآية 55).
بل إن الفقهاء نصوا على جواز زيارة مرضاهم – كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهودي المريض- وتهنئتهم، وتعزيتهم في مصائبهم كما قال ابن تيمية في الاختيارات الفقهية ص 615 والمرداوي الفروع (4/221) وغيرهما من أصحاب المذاهب الفقهية.
وأما البراء فهو لغة بمعنى التبري والإعذار، والإنذار ومنه قوله تعالى «بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (سورة التوبة الآية 1) وله معان أخرى.
ومن المعلوم أن إشهار مصطلح «الولاء والبراء» والتوسع فيه كان من منهج الخوارج؛ حيث كانوا يتولون بعض الصحابة ويبرأون من بعضهم مثل علي- رضي الله عنهم جميعًا- كما قال ذلك الإمام أحمد: «الولاء بدعة، والبراءة بدعة» رواه الخلال في كتاب السنة (2/479)
والبراءة في القرآن الكريم بمعنى الإنذار والإعراض كما في سورة البراءة، أو من الأعمال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين» رواه البخاري الحديث رقم (7189) حيث أنه قد قتل مجموعة من الذين قالوا: «صبأنا» قبل أن يستفسرهم عن مرادهم بذلك القول» يراجع فتح الباري (13/181-182).
والخلاصة أن إعلان البراءة من الناس لم يكن من منهج السلف، كما أن هذه البراءة هي إما أمر عقدي يتعلق بالإيمان، أو أنه جانب تنفيذي من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم أو ولي الأمر من خلال التعامل مع المشركين الذين لم يلتزموا بالعهود والمواثيق وقاموا بإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم وتآمروا لاجتثاث الإسلام ونحو ذلك كما في سورة التوبة.
التوصيات
بعد هذا العرض الموجز، وبعد الاطلاع على قرارات المجامع الفقهية نوصي بما يأتي:
(1) تعزيز دور العلماء والفقهاء والدعاة والهيئات العلمية العامة والمتخصصة في نشر الوعي لمكافحة الإرهاب، ومعالجة أسبابه.
(2) دعوة جميع وسائل الإعلام إلى تحري الدقة في عرض تقاريرها ونقلها للأخبار، وخصوصًا في القضايا المتعلقة بالإرهاب، وتجنب ربط الإرهاب بالإسلام، لأن الإرهاب وقع– ولايزال يقع- من بعض أصحاب الديانات والثقافات الأخرى.
(3) دعوة المؤسسات العلمية والتعليمية لإبراز الإسلام بصورته المُشرقة التي تدعو إلى قيم التسامح والمحبة والتواصل مع الآخر والتعاون على الخير.
(4) دعوة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت وجميع وزارات الأوقاف والمؤسسات الإسلامية، والإدارات الدينية، إلى مواصلة بذل العناية الفائقة لهذا الموضوع، بعقد الندوات المتخصصة والمحاضرات المكثفة واللقاءات العلمية المفصلة، لبيان نطاق الأحكام الشرعية بشأن منع الإرهاب وقمعه والقضاء عليه، والإسراع في إيجاد إطار شرعي شامل يغطي جميع جوانب هذه المسألة ولضوابط الجهاد وشروطه ولتزيل الأحكام الشرعية وتحقيق المناط وفقه الأوليات والموازنات
(5) دعوة منظمة الأمم المتحدة إلى تكثيف الجهود في منع الإرهاب وتعزيز التعاون الدولي في مكافحته، والعمل على إرساء معايير دولية ثابتة، للحكم على صور الإرهاب بميزان ومعيار واحد.
(6) دعوة دول العالم وحكوماتها إلى الاعتراف بالإسلام دينًا سماويًا نزل رحمة للعالمين وأن تضع في أولوياتها التعايش السلمي، وأن تتخلى عن احتلال الدول، ونكران حق الشعوب في تقرير المصير، وإلى إقامة العلاقات فيما بينها على أُسس من التكافؤ والسلام والعدل.
(7) دعوة الدول الغربية إلى إعادة النظر في مناهجها التعليمية، وما تضمنته من نظرة مسيئة للدين الإسلامي، ومنع ما يصدر من ممارسات تُسيء إلى الإسلام في وسائل الإعلام المتعددة، تأكيدًا للتعايش السلمي والحوار، ومنعًا لثقافة العداء والكراهية.
(8) دعوة الحكومة الروسية، وبقية الحكومات الشرقية إلى بذل المزيد من الجهد والدعم المادي والمعنوي لتحقيق الانسجام، والاندماج الإيجابي بينها وبين الأقليات الإسلامية لتصبح أنموذجًا يحتذى به في التعايش السلمي والتعاون البناء، والمساهمة في صنع حضارة شرقية إسلامية جامعة.
الخاتمة
إن ما ذكرناه في هذه الوثيقة هي خلاصة الخلاصة المعتصرة من الأدلة المتضافرة من الكتاب والسنة، والإجماع، والقياس، ومن قرارات المجامع الفقهية، والمؤتمرات والندوات، تطالب المسلمين الالتزام بها، وتجسيدها من خلال القدوة الطيبة والقيم النبيلة، والأخلاق الجميلة التي تحتاج إليها الإنسانية جمعاء، فقد قال المنصفون من جميع الملل: إن هذه الأزمات المالية والسياسية والروحية والاجتماعية تقود في معظمها إلى الأزمة الأخلاقية، أزمة القيم الروحية، والى الخواء الروحي، وأن الإسلام هو القادر على ملء هذا الفراغ وتحقيق التوازن بين متطلبات الجسد، والروح، والعقل، والقلب والنفس، من خلال إعطاء كل ذي حق حقه «وآت كل ذي حق حقه» كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث سلمان المتفق عليه.
هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
وصل الله على سيدنا ومحمد وعلى آله وصحبه وسلم.