الحادي والثلاثون: مشهد مجيء إخوته إليه:
قال تعالى: ( وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ) حيث تتضمن لطائف وعبراً :
1ـ أصبح يوسف مسؤولاً عن كل ما يتعلق بالجوانب الزراعية والتموينية ، والتحصين ونحوها ، ثم أصبح عزيز مصر ، وبدأ يسير وفقاً لخطته المرسومة بتوفيق الله تعالى له ، حيث نجح في إدارة السنوات السبع الخصاب ودخلت السنوات السبع العجاف التي حملت معها مجاعة عظيمة كادت أن تهلك الحرث والنسل لولا عناية الله بأن هيأ لمصر يوسف ( عليه السلام).
وهذه المجاعة عمت البلاد الأخرى القريبة من مصر مثل بلاد كنعان التي كان يعقوب وأولاده يعيشون فيها ، فسمع إخوة يوسف بأن في مصر خيراً كثيراً ويبيعون المواد الغذائية بثمن عادل فجاؤوا ودخلوا على يوسف وهو عزيز مصر ، فعرفهم وهم لم يحسُّوا به ولم يعرفوه .
وقد عبر القرآن الكريم عن هذه الحالة بقوله (وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ) والتعبير بأنهم ( له منكرون ) مشعر بأنهم لا يريدون أساساً أن يتعرفوا على يوسف، لما فعلوه من الإساءات.
كان يوسف ( عليه السلام ) في قمة الحكمة حيث لم يصدر منه أي شيء يؤذن بأنه يعرفهم ، وحتى معرفته بأن لهم أخاً من أبيهم جاءت من خلال أسئلته لهم التي تقتضي معرفة العائلة .
وفي نظري أن يوسف قد أعد شيئاً ، أو ورقة خاصة بالتموين تتضمن أسئلة مهمة حول المستفيدين ، حتى يعرف كم عدد العائلة ومدى الحاجة ونحو ذلك مما تقتضيه العدالة .
الثاني والثلاثون: مشهد كيفية استقدام أخيه الشقيق إلى مصر:
قال تعالى ( وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلَا تَقْرَبُونِ قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَىٰ أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَىٰ أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَٰذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَٰلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّىٰ تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ).
1ـ قوله تعالى : (فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ ) أي قام يوسف بنفسه بتجهيزهم بحصصهم، يدل على الإشراف الفعلي الشخصي على عملية التوزيع ، وفي هذا دليل على حسن إدارته ونجاحه ، لأن التوزيع في مثل هذه الحالات يحتاج إلى الحسم والعدل وعدم المجاملة فيه ، وهذا يقتضي الإشراف الفعلي منه .
وفي هذا إشارة إلى أن الأعمال التي يمكن أن يحدث فيها ظلم أو فساد يجب على المسؤول أن لا يتركها للآخرين ، .
2ـ دلَّ قوله تعالى ( وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ ) على أن يوسف ( عليه السلام ) قام بإكرام إخوته خير القيام ، ووفى لهم الكيل على أحسن ما يرام ، مع أنهم فعلوا به ما فعلوا من إرادة القتل ، وإلقائه في الجب ثم ما ترتب عليه من السجن والفتن والمحن .
لو كان شخصاً آخر غير الأنبياء والصالحين لسجنهم ، أو آذاهم ، أو أهملهم ، لكنه هكذا تكون أخلاق الأنبياء ومن يتبعونهم من الأصفياء .
3. ويبدو أنه سألهم عن أحوالهم وأسرتهم، فذكروا أن لهم أخاً آخر من أبيهم، لذلك طلب منهم أن يأتوا به في المرة القادمة، حتى يعطى حصته ، وبالتالي تزداد حصتهم .
وقد عبر عن ذلك بقوله ( ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ ) ولم يقل ( بأخيكم من أبيكم ) للدلالة على وجود فاصل بينه وبينهم ، وعلى أنه نكرة عنده ، فلو قال ( بأخيكم من أبيكم ) لفهم منه أنه معروف لديه لأن الكلمة المذكورة ( بأخ ) نكرة ، في حين أن لفظ ( بأخيكم ) معرفة بالإضافة ، والسياق يدل على أنه عرف وجود أخ غير شقيق من حواره معهم ، حتى لا يكتشف أمره ، لذلك عبر بهذه الصفة .
4ـ وعد الإخوة يوسف بأنهم يبذلون كل جهدهم فقالوا : ( سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ) حيث استعملوا أسلوب المراودة التي تدل على بذل الوسائل الناعمة لإقناع الآخر ثم قالوا : (وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ) أي لفاعلون المراودة أو لفاعلون الإتيان به ، وعلى القول الثاني : يدل على أن لديهم أساليب قوية جداً جداً لإقناع والدهم الذي ابتلي بمؤامرتهم وقولهم بأن الذئب قد أكل يوسف .